بعدما اكتشفت الشرطة النمساوية وجود عشرات الجثث لمهاجرين سوريين ماتوا خنقاً داخل سيارة نقل مبرّدة على الحدود، اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بهذا الخبر المفجّع وتذكّر كثيرون منهم رواية غسّان كنفاني «رجال في الشمس» وشخصياته الثلاث الذين ماتوا خنقاً داخل صَهريج لنقل الماء على الحدود الكويتية، وذلك لتشابه الحادثتين بالرغم من اختلاف الزمان والمكان.. فهنا شعب مهدد بالإبادة يبحث عن لجوء في أوروبا هرباً من حرب مجنونة عام 2015، وهنا شعب مهدد بالإبادة شرّده الصهاينة بعدما احتلوا أرضه عام 1948، غير أن الفارق بين الحادثتين، هو أن غسّان كنفاني كتب رواية فنية متخيّلة عن حمّى خلاصية سادت في تلك الفترة وشبيهة كلّ الشبه بما شهدته أعيننا من مآسي المهاجرين في الدروب والبراري والبحار. استشراف وهذه الرؤية الاستشرافية جعلت من رواية «رجال في الشمس» رواية خالدة في الذاكرة العربية، وخصوصاً بعدما أَقرّت بعض وزارات التربية تدريسها في المدارس والجامعات، وبعدما قامت المؤسسة العامة للسينما في سوريا بإنتاج فيلم عنها باسم «المخدوعون»، تصدّى لإخراجه المخرج المصري توفيق صالح.. وهو أحد روّاد السينما المصرية، والمشهور بإخراج الأفلام الروائية، وقد مثّل الفيلم عدد من الممثّلين السوريين والفلسطينيين، نذكر منهم: عبد الرحمن آل رشي، محمد خير حلواني، بسّام لطفي، ثناء دبسي، صالح خلقي، سليم كلاّس وغيرهم. حكاية الرواية/ الفيلم تنطلق من واقع الشعب الفلسطيني قبل وبعد الاحتلال الصهيوني وتتكثّف حول أربعة رجال فلسطينيين من أجيال مختلفة ينطلقون من البصرة إلى الكويت سعياً وراء الاستقرار المادي بما يكفي أحلامهم البسيطة، تبعاً لقسوة الواقع الذي يعيشونه. كبيرهم: أبو قيس الذي فقد بيته ومزرعته بعد الاحتلال، ويعيش لاجئاً في المخيم ويحلم بشيء من المال يمكّنه من إعالة أسرته فضلاً عن بناء منزل وقطعة أرض تكفل لهم العيش الكريم. يضيء الفيلم جانباً من حياته عبر تقنيتي الاسترجاع والمونولوج، وهذه التقنية سوف تعاين حيوات الشخصيات الثلاث الأخرى.. فلكلّ شخصية منها حكايته: أسعد، الشاب المقاوم الذي تلاحقه السلطات الصهيونية فضلاً عن رفضه الزواج من ابنة عمّه الثري، فيسعى للهروب من واقعه، أمّا مروان، طالب المدرسة الفقير الذي انقطعت عن أسرته تحويلات أخيه المقيم في الكويت، وزواج أبيه من امرأة أخرى، فيسعى للهجرة آملاً مساعدة أمّه واخوته الصغار. بحث وكما يجري واقعياً للمهاجرين غير الشرعيين بحث الرجال الثلاثة عن مهرّب ينقلهم من مدينة البصرة إلى الكويت، وكان المهرّبون جشعين كعادتهم طلبوا 15 ديناراً عن كلّ شخص، وهو مبلغ كبير لا يملكه أبو قيس، وكلّ ما يملكه مروان، وهذا فضلاً عن القلق الناجم من أن يهرب المهرّب منهم ويتركهم تائهين في الصحراء، ثمّ تجلب المصادفة لهم أبو الخيزران، سائق صهريج الماء الفلسطيني وابن قرية أبو قيس.. وبعد مباحثات ومشاورات يتّفق معهم على تهريبهم بخمسة دنانير، لكن بشرط أن ينزلوا إلى داخل الخزّان إبّان عبور الحدود العراقية والكويتية لمدّة دقائق معدودة، ينهي خلالها المعاملة المطلوبة ثمّ يعود لإخراجهم، وبالرغم من حرارة الصيف اللاهبة، يضطرون للموافقة على هذا الشرط لعدم وجود البديل.. فتمضي بهم السيارة المهترئة في طريق صحراوي قاتل تبلغ مسافته نحو 150 كيلومتراً، عانوا خلالها أشدّ المعاناة، ولاسيّما عندما نزلوا الخزّان للمرة الأولى عند الحدود العرقية، وكادوا يفارقون الحياة لولا إسراع أبو الخيزران لإنقاذهم في اللحظة الأخيرة. وعندما وصلوا الحدود الكويتية أعادهم أبو الخيزران إلى الخزّان، ولكونه معروفاً لدى رجال الحدود فقد أخذوا يتسامرون معه، ويماطلون في إنهاء معاملة الدخول، بينما الرجال داخل الخزّان كانوا يختنقون بسبب الحرارة الزائدة ونفاد الأوكسجين، وما أن أتمّ المعاملة ودخل بسيارته الأراضي الكويتية أسرع بفتح باب الخزان وراح ينادي عليهم.. وليس إلاّ الصدى. دلالات حشد غسّان كنفاني في روايته هذه مجموعة من الرموز التي بدورها تنفتح على دلالات كثيرة، اختلف النقّاد عليها، ومن أهمّها شخصيّة أبو الخيزران، حيث اعتبره د. إحسان عبّاس رمزا للقيادة الفلسطينية الخائبة في تلك المرحلة التاريخية، وهو إلى ذلك مفتاح الرواية الذي يؤسس لفهمها، وقد ركّز الفيلم بدوره على هذا المعطى الدلالي، نظراً لأن أبو الخيزران كان من رجال المقاومة ولكنه أصيب وفقد رجولته. ونحن لسنا مع هذا الرأي الذي شاع وانتشر لسهولة إسقاطه سياسياً، نظراً لأن أبو الخيزران لم يكن رجلاً مخادعاً ومشوّهاً .. كما استنتج د. عبّاس، فقد كان دأبه أن يوصل الرجال إلى الكويت سالمين ليحصل على المال، بدلالة عمله في تهريب اللاجئين، كسعي منه للخلاص الفرديّ، شأنه شأن الرجال الثلاثة الذين تركوا وطنهم تحت الاحتلال وغادروا بحثاً عن خلاصهم، وربّما هنا تتكاثف مقصديّة الروائي، بمعنى أنّ السّعي المحموم وراء الخلاص الفردي، لن يفضي إلاّ إلى هذه النهاية، كنوع من الوعي الاستشرافي الذي تميّز به الروائيّ. وربّما بالغ د. عباس في إسقاطاته السياسية التي كانت رائجة حينها، وكذلك فعل مخرج الفيلم، إلاّ أننا نتفق مع الرأي القائل بمدى أهمية وجود قيادة فلسطينية لهذا الشعب المشرّد في متاهته حينها، ومدى أهمية الوعي في مسألة الثورة والمقاومة واستمراريتهما. شخصيات أما من جانب الشخصيات: (أبو قيس وأسعد ومروان) وباعتبارهم من أجيال ثلاثة، فقد يكونون رمزاً للشعب الفلسطيني المفكك الضائع الحائر في ترتيب شؤون نفسه ومستقبله، غير أن الشعب لا يشكّله هؤلاء الرجال الخائبون، بدليل قصّة «أم سعد» التي تستحقّ أن تكون رمزاً أمومياً دأبه العطاء والتشبث بالمقاومة وبالأرض.. وهذا قد يضيء ما تقدّمنا به من أن غسّان كنفاني كان واعياً لمدى عبثية الخلاص الفردي واللجوء إلى البلدان الأخرى، وأنّ على الرجال العودة مجدداً لأجل مقاومة المحتل، وإلاّ سيكون مصيرهم الموت في الخزّان أو في سواه. قرع الخزان موت مفجع بلا شكّ، لكنّ عبثيته تكمن في أنه هرب من موت محتمل هناك، حيث ينبغي أن يكونوا، وليس ثمة من يهتم لموتهم في هذه الصحراء سواء قرعوا الخزّان أو لم يقرعوه، كما أن العالم بدوره لن يهتم بهم حتّى ولو سمع ما جرى، شأنهم في ذلك شأن السوريين الذين رموا أنفسهم في البحر للخلاص وبحثاً عن أمان معيشي لهم ولأبنائهم!