يقاس المعيار الحقيقي لنجاح الديمقراطية بمستوى وأداء الأحزاب السياسية ومدى استفادتها من مناخ الحريات المتاح، التي هي عماد الحياة السياسية، فبدون وجود أحزاب قوية لها شعبية وتواجد في الشارع يصعب أن تكون هناك حياة سياسية حقيقية تتمتع بممارسة حقها في الانتخابات والتداول السلمي للسلطة، فحالة الأحزاب السياسية من حيث القوة أو الضعف مؤشر على حالة النظام السياسي ودرجة تطوره فى أية دولة، فهي تلعب دوراً مهماً في ترسيخ مفاهيم الديمقراطية وإرساء دعائم الحرية بوعي، وتمثل حلقة الوصل بين الحكام والمحكومين، وارتباطها بالجماهير يمكّنها من تعميق مفهوم المشاركة السياسية للمواطنين، فالأحزاب هي التي تصنع المشهد السياسي وتضع أطره وفي نفس الوقت عندما تكون هناك أحزاب قوية لها تواجد وتأثير وتمارس دورها الرقابي وتثري الحياة السياسية في حرية كاملة مع الحفاظ على أمن وسلامة الوطن يمكن أن نقول ان النظام ديمقراطي، بينما تصنع هذه الأحزاب النظم الديكتاتورية بيدها عندما تظهر بمواقف ضعيفة مستأنسة تسعى إلى تحقيق مصالح سياسية ضيقة، وتتسابق للوصول الى السلطة والحكم من دون جهد، وهذا حال أحزاب مصر في فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، عندما كانت تحت سطوته فكانت تمثل صوت الغالبية الصامتة، وتمارس دورها السلبي في تبرير أخطاء النظام والدفاع عنه، وهذا صرف عنها الجماهير وجعلها تنفجر في وجهها وتنقلب على النظام بثورة شعبية ساخطة على الفساد والمفسدين، وشهدت فترة ما بعد الثورة نشاطاً مكثفاً للأحزاب وتواجداً قوياً ينبئ بمشهد جديد تكون الأحزاب الفاعل الرئيسي فيه، وهو ما كان في فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي؛ حيث ظهرت الأحزاب وكان لها تواجد قوي ومؤثر ونشطت في تكوين تحالفات وتكتلات لعبت دوراً في سقوط حكم الإخوان المسلمين، إلا أن الأمر اختلف عقب 30 يونيو وبدأ صوت الأحزاب ينخفض ويتراجع دورها وتأثيرها في المشهد السياسي رويداً رويداً، وفي ظل إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي- الذي لا يملك ظهيراً مدنياً- أنه لن ينضم إلى أي حزب سياسي، أعقبه إصدار قانون الانتخابات الذي يعيد هيكلة وجدوى الاحزاب، يحيط الغموض بمستقبل الأحزاب في المرحلة القادمة. مما يثير التساؤلات حول دور الأحزاب في المرحلة القادمة كأحد مكتسبات ثورة يناير أم أن دورها سيكون محدوداً في إطار المعارضة الكرتونية في ضوء حالة الضعف الذي تعيشه وعدم وجود وعاء شعبي لها. حيث يرى د.حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن مصر ستشهد خلال المرحلة القادمة العودة إلى التعددية الحزبية المقيدة التي كانت متّبعة في حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وأن الخريطة السياسية في مصر ستشهد تغيراً كبيراً خلال الفترة الأولى من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتابع، دور الأحزاب السياسية سيضعف خلال الفترة القادمة لصالح مؤسسة الرئاسة، وستشهد الساحة السياسية سقوط الأحزاب التي تعتقد أنها تمتلك شعبية في الشارع المصري، ما لم تدخل في تحالفات تضمن لها البقاء، فليس أمام الأحزاب سوى الاندماج وتكوين تحالفات قوية تؤثر في الساحة السياسية، بالإضافة إلى إعادة هيكلة نفسها وفقاً للمتغيرات وبما يتناسب مع الواقع الجديد. ويشير نافعة إلى أن الفترة الأولى من حكم السيسي ستظهر دور الأحزاب والقوى السياسية المؤيدة للسيسي، والتي دعمته في الانتخابات الرئاسية، وهل ستظل إلى جوار السلطة ويكون لها تواجد في مؤسسات الحكم أم أنها ستنتقل إلى جانب المعارضة، لافتاً إلى أن السيسي رجل عسكري وليس سياسياً، جاء لأداء مهمة محددة يعمل على تنفيذها خلال فترة ولايته بالشكل الذي يراه، ويؤكد أستاذ العلوم السياسية أن التحدي الأصعب أمام الأحزاب السياسية في مصر هو الانتخابات البرلمانية المقبلة التي تجرى على أساس 80% للفردي، و20% للقائمة، والتي تزيد من تقليص دور الأحزاب وتضعفها لصالح رجال الحزب الوطني «النظام السابق»، ومدى قدرتهم على تحقيق الفوز فيها، لافتاً إلى أن وجود برلمان قوي ذي أغلبية معارضة سيؤدي إلى انقسام السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الذي سيختاره مجلس النواب، مما يؤدي إلى صعوبة أن يتبع الرئيس سياسة غير متوافقة مع رئيس الوزراء، مشيراً إلى أن هذا السيناريو سيضعف السلطة التنفيذية، لأنه سيكون من الصعب إيجاد صيغة توافقية بين مؤسسة الرئاسة والبرلمان. ويضيف نافعة: إن اليد العليا في المرحلة القادمة ستكون للأحزاب والقوى التي تؤيد الرئيس، في ظل انقسام جميع التيارات الليبرالية واليسارية وخروج الإسلاميين من المشهد السياسي ورفضهم للنظام الجديد بقيادة السيسي، مؤكداً أن الأحزاب الإسلامية بما فيها حزب النور في طريقها إلى الفناء بعد التجربة الفاشلة لجماعة الإخوان المسلمين في السلطة، ما لم توفق أوضاعها مع القانون الذي يحظر إنشاء الأحزاب على أساس ديني. مستقبل الأحزاب ودورها في الحياة السياسية وفي معارضة النظام الجديد لم يتبلور بعد، كما يرى د.وحيد عبد المجيد الخبير والمحلل السياسي، الذي يقول: إن خريطة المعارضة خلال المرحلة القادمة ستتشكل على أساس عاملين مهمين، الأول يتمثل في المؤشرات التي سيعطيها الرئيس الجديد من خلال السياسات التي سيتبعها، ومدى قدرته على تحقيق مطالب المواطنين، والثاني هو الفرز الذي سيحدث في القوى السياسية والاجتماعية التي أيدت الرئيس عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية ومدى تفتتها وتشرذمها، ويشير عبد المجيد إلى أن هناك عدداً من الأحزاب والقوى السياسية أيّدت ودعّمت السيسي لتحقيق مصالح خاصة، كحزب النور وبعض أحزاب رجال الأعمال ورجال الحزب الوطني من أجل عودة نفوذهم وسطوتهم على البلاد، مؤكداً أنه في حال عدم تحقيق مصالحها ستتجه نحو معارضة الرئيس ومهاجمته، الأمر الذي سيكون له انعكاساته على المعارضة وقوة الأحزاب، لافتاً إلى أن الرئيس لن يستطيع تلبية مطالب جميع الفئات التي أيدته بل سيضطر إلى التضحية ببعض حلفائه من أجل الاحتفاظ بالحليف الأقوى، مما قد يدفع هذه القوى إلى دعم المعارضة، بالإضافة إلى أن هنالك نوعاً آخر من المعارضة، وهو الذي ينتج من عدم الرضا عن سياسات الدولة وهذا النوع يؤطر لمعارضة مجتمعية تمثل وعاء شعبيا للمعارضة السياسية، وتابع، الأشهر الأولى من حكم السيسي ستحدد دور الأحزاب والقوى السياسية في المرحلة القادمة وستشكل المعارضة في مصر، دون المعسكر الآخر للمعارضة الذي يضم حركة 6 إبريل والاشتراكيين الثوريين وتقوده جماعة الإخوان المسلمين. وفي ذات السياق يشير د.عمرو الشوبكي أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، إلى أن استمرار وجود الأحزاب في عهد السيسي وتأثيرها في المشهد السياسي المصري، يتوقف على قدرتها على إثبات وجودها والوقوف على أرض ثابتة وتواجدها في الشارع، ولا علاقة للأمر بشخص الرئيس السيسي وحكومته، لافتاً الى أن هناك مشكلة حقيقية لدى الأحزاب فيما يتعلق بالبناء المؤسسي وإطار العمل، مما يشكل خطراً كبيراً على مستقبلها في الساحة السياسية. ويتوقع الشوبكي أن الفترة القادمة ستشهد اضمحلالاً سياسياً على المدى القصير، وتراجعاً مؤقتاً للعمل السياسي بشكل عام وليس فقط للأحزاب، فضلاً عن أن قطاعات واسعة من الشعب ستبتعد عن العمل السياسي أو ستبعد، سواء من منطلق أن السياسة لم تعد مجدية ولم تثمر عن شيء على مدار ثلاث سنوات، أو بسبب الإحباط أو الخوف من الملاحقات الأمنية، وتابع، هذا سينعكس بالطبع على واقع الأحزاب المصرية والحياة السياسية بشكل عام وسيؤدي إلى إضعافها وتراجع الكثير من مكتسبات ثورة 25يناير، ويضيف: موت الأحزاب يعني موت السياسة وموت السياسة يعني موت المجتمع، وموت المجتمع يجعل الدولة غير قادرة على النهوض، مما يأخذنا إلى أن وجود حياة سياسية حقيقية مع أحزاب قوية فاعلة تقودنا نحو التقدم والنهوض. ويقول أستاذ العلوم السياسية: إن من ينمي الأحزاب ويقويها هو طلب المواطنين عليها ومدى شعبيتها، لافتاً إلى أنه لا يوجد ما يسمى بقمع الأحزاب أو وضعها في «حضانات»، وتابع: الفترة القادمة ستشهد تراجعاً في فاعلية الأحزاب ومدى تأثيرها في المشهد السياسي، وسيقل الطلب على الأحزاب والعمل السياسي. ومن جانبه يقول جورج إسحاق القيادي فى حزب الدستور، ان مستقبل الأحزاب في مصر على المحك، لافتاً إلى أن هناك أحزابا كرتونية ستتلاشى تماماً وسينتهي دورها بشكل كامل، وأحزابا أخرى ستثبت وجودها في الحياة السياسية وسيكون لها شعبية وتواجد في الشارع، مشيراً إلى أن المرحلة القادمة ستشهد قيام أحزاب جديدة وتحالفات سيكون له تأثيرها في المشهد. ويضيف إسحاق قائلاً: إننا في مرحلة تأسيس الدولة المصرية على أسس تبني دولة حديثة وديمقراطية، وتابع، نحن نمارس الآن ديمقراطية جديدة برؤى جديدة وجيل جديد، مشيراً إلى أن أبواب التغيير مفتوحة ولن يستطيع أحد إغلاقها مهما كانت قوته. ويؤكد القيادي في حزب الدستور أنه إذا بدأت الأحزاب العمل بشكل قوي ومؤثر، لن تستطيع أي حكومة أن تتجاوزها، وسيكون لها تواجد مؤثر يجبر الحكومات على الإصغاء إليها والنزول على مقترحاتها، لكن فكرة التباكي التي تطرحها الأحزاب السياسية دائماً عندما تواجه الفشل أو التعرض لبعض مصالحها، لا تصب في مصلحة الأحزاب، مشدداً على أن تواجد أحزاب حقيقية وقوية يدفع تصرفات الحكومة لأن تكون رشيدة.