من يغلق عينيه دون النور، يضير عينيه ولا يضير النور، ومن يغلق عقله وضميره دون الحق يضير عقله وضميره ولا يضير الحق، فالنور منفعة للرائي لا المصباح، والحق منفعة وإحسان إلى المهتدي لا إلى الهادي إليه.. هكذا قال الكاتب المصرى الراحل د. نظمي لوقا جرجس المسيحي المتسامح القادر على قبول الآخر في كتابه "محمد الرسول والرسالة". لم يمنعه معتقده المسيحي الذي يعتز به من التعبير عن الحقائق الواحدة التي رآها في نبينا محمد "صلي الله عليه وسلم"، وكانت رسالته هي محاربة الجهل والتعصب - اللذين يدمران مصر الآن - فكانت مهمته محو الأمية الفكرية فيما يخص الإسلام، رغم أنه شديد الإيمان بديانته المسيحية ومبادئها ومثالياتها، ومن أقواله: "إذا كنت قد أنصفت الإسلام في كتابي فليس ذلك من منطق التخلي عن مسيحيتي ولكن من منطق الإخلاص له والتمسك بأخلاقياتها". في البداية يحاول الكاتب إبداء الأسباب التي دفعته إلى تأليف هذا الكتاب وهي - بالإضافة إلى إنصاف الحق - الحب الذي يحمله تجاه الحبيب المصطفى، أو كما يقول: "لست أنكر أن بواعث كثيرة في صباي قربت بيني وبين هذا الرسول.. ولا أنكر هذا الحب أو أتنكر له، بل لأشرف به وأحمد له بوادره وعقباه، ولعل هذا الحب هو الذي يسر لي شيئًا من التفهم، وزين لي من شخص هذا الرسول الكريم تلك الصفات المشرفة". وفي الفصل الذي يعنونه باسم "الله" بدأ د. نظمي لوقا بسورة الإخلاص"قل هو الله أحد الله الصمد" ليثبت أن القرآن لا يدع شائبة في مسألة التوحيد، كما تنزه عن الشرك والتعددية بالآية "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد"، وأشار بهذه الآيات لنقض عقائد الشرك وتصحيح عقائد أهل الكتاب أيضًا.. فقد ذكر أن أتباع المسيح صاروا إلى القول بألوهيته، وأنه ابن الله، وأن الإله الواحد جوهر واحد له ثلاثة هي: الله الأب، والله الابن وهو المسيح، والروح القدس، ولم يرد على لسان المسيح في أقواله الواردة في بشارات "الإنجيل" إشارة إلى شيء من ذلك، بل كان يدعو نفسه على الدوام "بابن الإنسان" أما البنوة لله عز وجل لم يرد لها ذكر إلا على سبيل الماجز "المطلق" بمعنى يشمل البشر جميعًا.. فمن أوحى أن تكون صلاة الناس إلى الله بادئة بقولهم "يا أبانا الذي في السماء"، وقد أدى هذا اللبس إلى الفتن في صفوف أتباع المسيح، وأصبح الإيمان سبيلًا إلى الفرقة لا إلى الألفة واجتماع القلوب والعقول على عقيدة يطمئن لها الجميع، وكان لابد من أن يأتي الدين الجديد ليحسم هذا الاختلاف ويثبت قلوب الناس بالطمأنينة إلى عناية الله بالخلق، وإلى قدرته وسلطانه المطلق، وهذا ما أتى به القرآن في حسم هذا الموضوع، بأن الله خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير. ولا يدع القرآن شكًا في ذلك، فقد كرره في أكثر من موضع.. وانتهى د. لوقا من هذا الفصل بقوله: "هكذا بدت العقيدة الإلهية في الإسلام ناصعة الصفاء في تجردها من الشك وشبهاته، وهكذا يجد كل إنسان له مكانًا في العقيدة الإلهية على أساس من المساواة العادلة التي لا تفضل شخصًا على آخر إلا بالتقوى"، كما يتحدث الكاتب في فصل "الإنسان" مؤكدًا أن الإسلام وضع حجر الأساس للمسئولية التي هي أساس كرامة الإنسانية وأساس كل حرية وأخلاق، واستعان بسورة "النجم" وأن "ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى"، وبسورة التين "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، وهذه المسئولية أسماها القرآن الأمانة، تلك الأمانة التي ذكرها في سورة الأحزاب "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان"، كما تحدث عن الحق كجزء من كرامة الإنسان، كما في سورة العصر "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، وهكذا يكون الإنسان متكامل الجوانب لا يشكو من انفصام الروح عن الجسد. وينتقل الكاتب إلى باب حواء، الذي أكد فيه على حق المرأة الذي أقره لها الإسلام، بأن جعلها تقف جنبًا إلى جنب في الحقوق مع الرجل من خلال إشارة صريحة في سورة "النساء"، وإلى المساواة بين الرجل والمرأة "للرجال نصيب مما اكتسبوا والنساء نصيب مما اكتسبن"؛ لأنه في بعض الأمم الحديثة - كما القديمة - كانت تحرم المرأة غالبًا من الميراث، فأبى الإسلام هذا الظلم ولذا نص عليه وكرره أكثر من مرة في القرآن، وفي هذا العصر نفسه حرر الإسلام المرأة وساواها مع الرجل بقوله تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"، ووضح هنا الفضل بأنه حاميها وأنه عائلها ولم يذكر القوامة على الإطلاق بل حددها بالإعالة والنفقة المالية. ويوضح الكاتب العلاقة بين الأمم والشعوب بعضها ببعض كما جاء في سورة الحجرات "إنما المؤمنون إخوة" ويتساءل: ما القول في غير المسلمين؟ ويجيب من القرآن "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" سورة البقرة. والأفضل بينهم هو الأكثر تقوى، تلك هي شريعة الإخاء والحرية التي لا تعرف قيصر ولا تنتمي لغير الله، إنها شريعة المساواة والعدل التي تؤتي كل ذي حق حقه، ولكن هناك بعض الاختلافات والتفضيلات بين الناس "لقد فضلنا بعض النبيين على بعض" سورة الإسراء، "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" الزمر، "يرفع الذين آمنوا فوق بعض درجات ليبلوكم فيما أتاكم"، الأنعام، أي أن كل إنسان في هذه الشريعة ينال على قدر عمله وفضله، وهذه هي أخلاق الإسلام. ويختتم د. نظمي لوقا كتابه بالتأكيد على أن رسالة الإسلام جاءت خالية من الغموض في العقيدة الإلهية والعنت وإغفال الدنيا وفطر البدن والروح، ولذلك فهي دعوة شمول في النظرة، يستطيع الإنسان أن يأخذ منها قدر طاقته لأنه دين متين لا زيف فيه، وخرج بالبشرية من دائرة المنفعة الذاتية إلى العمل وفرض الزكاة على الأموال، وطالبًا بالصفح والعفو، والصلاة والصيام، وأحل الزواج، وحرم الزنا والخمر، كما حرم الفسوق والتجبر والميسر والعدوان على حقوق الإنسان.