وفي كل مكان يمكن أن تجده مانحا لما يعين علي التجدد والخصوبة وأتصور أن المبدأ الذي أرساه كبار النقاد في عالم النقد الأدبي يمكن أن نقرره في عالم الفنون التشكيلية أقصد إلي المبدأ الذي يري أن أهم ما يميز الفن العظيم هو قدرته علي الجمع بين الخاص والعام. المحلي والإنساني. النسبي والمطلق ولقد حلم محمد حسين هيكل. منذ سنوات غير قريبة. بتأسيس أدب وطني وكان يري أن هذا الأدب لابد أن يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الفرعوني. باعتباره الابتداء الفعلي الخلاق للحضارة المصرية. وأن يرفرف بأجنحته في آفاق العالم الإبداعي المعاصر التي لا تحدها حدود• وكان النموذج الذي رآه مثالا علي ذلك هو فن مختار الذي مزج ما بين تقاليد النحت الفرعوني وقيمه المتجددة. من حيث هو فن إنساني. يجاوز بعبقريته حدود زمنه ومكانه. وبين تيارات الفن الأوروبي التي درسها. وتأثر بها. لكنه لم يقلدها تقليدا أعمي. وإنما تمثلها وهضمها ومزج بينها وتراثه الإبداعي ولا أدل علي ذلك من قصة تمثال نهضة مصر. فقد كان مختار في باريس. يقوم بالتدريس في إحدي مدارسها العالية للنحت. ووصلته أنباء ثورة1919 التي بدأت في التاسع من مارس بمظاهرات طلاب الحقوق. وسرعان ما تصدرت هدي شعراوي المظاهرة الأولي للمرأة المصرية. وأخذت أخبار الثورة تتتابع وتملأ وجدان النحات الذي لم يكن قد أكمل الثلاثين من عمره. فاندفع إلي تصميم تمثال يجسد روح مصر الناهضة ولكنه عندما أمعن النظر فيه. وجده أقرب إلي أن يكون تمثالا لجان دارك ممسكة سيفا. فحطم النموذج الأولي للتمثال الذي رأي فيه تقليدا وليس إبداعا. واستعاد ميراث بلده القديم في النحت. متفاعلا مع كل التقنيات المعاصرة. فجاء تمثال نهضة مصر علي هيئة فلاحة مصرية تتطلع إلي الأمام. كأنها رمز للمرأة المصرية التي جسدتها هدي شعراوي عندما قادت المظاهرة النسائية الأولي التي تبعتها عشرات المظاهرات وكانت المرأة تستند إلي ما يشبه أبي الهول. جسد أسد ورأس إنسان يتطلع هو الآخر إلي الأمام. حيث المستقبل الواعد وبذلك حقق مختار المعادلة الصعبة بين الأصالة والمعاصرة. في التقاليد الخلاقة التي لا يزال يتابعها آدم حنين فخرنا المعاصر. في النحت المصري الأصيل. وكما فعل مختار فعل أقرانه من الجيل الأول للرسامين المصريين. في التقاليد الخلاقة نفسها التي تمثلها حلمي التوني. واعيا أو غير واع ولم يكن من الغريب والأمر كذلك أن يكتشف مغارة علي بابا الخاصة به. فاستوعب من كنوزها بقدر ما يستطيع وكان الكنز هو الفن الشعبي المصري بكل أنواعه وتقنياته الجداريات. رسوم الحج والزفاف. الرسم تحت الزجاج لأبطال السير الشعبية. فنون النقش والحنة علي اليدين والقدمين. أنواع الوشم الأحدث إلخ وكان ذلك كله موصولا بسياقه التاريخي الذي يبدأ من الإبداع المصري القديم. مرورا بالإبداع الإسلامي بعناصره الفنية. فضلا عن الإبداع القبطي إلي آخر الحقبة التي تمتد لسبعة قرون أو يزيد وكان التناغم بين هذه العصور هو مفتاح الهوية الإبداعية المصرية. وسر تركيبها الذي انطوت عليه روح حلمي التوني وتمثله وعيه الجمالي إلي أبعد حد. وحاول أن يصوغه في تجارب عديدة. عبر مراحل متباينة. صاغتها معارضه المتتابعة التي شاهدتها وجوه جميلة من زمن جميل. تحية إلي الفن القبطي. وجوه نجيب محفوظ. نفرتاري وأخواتها وهو المعرض الأخير ويبدو التتابع بين هذه المعارض كما لو كانت ريشة ألوان حلمي التوني. تنتقل حرة بين مراحل الحضارة المصرية وتجلياتها الإبداعية. بادئة من الأحدث القريب من نفوس أبناء جيلي إلي الأقدم الذي يعود بنا إلي تجليات الفن المصري الأقدم. بحثا عن لغة بصرية جمالية. تتنوع مكوناتها ومفرداتها التي تتوزع عبر العصور. ولكن تتجاوب في النفوس. ملحة علي رؤية جذرية واحدة. تبحث عن التركيبة السرية لمزج الأصالة بالمعاصرة. وإيقاع التناغم بين الثابت والمتغير حتي في ملامح الوجوه. واكتشاف الرابطة الرمزية التي تصل الإنسان بالكون. ظاهرة في موتيفات وموازيات رمزية لزهور ونباتات وطيور ووجوه والمرأة هي عنصر تأسيسي متكرر. تيمة لا غني عنها في معزوفات حلمي التوني التي تغني العين. وتطلق الخيال كالطائر الذي يشبه هدهد سليمان ونوح. أو عصفور الجنة الذي لا يفارق زهرة اللوتس. ولا ملامح الأسماك والأغصان التي تلازم زهور اللوتس في معرض نفرتاري وأخواتها. أما نفرتاري فهي جميلة الجميلات، الزوجة الرسمية للملك رمسيس الثاني الذي حكم مصر لتسعين عاما، وتزوج تسعين امرأة، وأنجب تسعين ولدا، حتي يكتمل سحر الرقم (9) في المعتقدات الشعبية المتوارثة. ونفرتاري كأخواتها، نموذج أنثوي مصري لتنويعات الجمال البصري الذي لا يغرق في التجريد أو التكعيب أو الإبحار في تيارات اللاوعي. حيث قارات الأعماق. فنحن إزاء لوحات محدثة علي طريقتها. تحافظ علي عقلانية المنظور. ولا تري الجمال إلا في النظام والتناغم اللذين لا يكفان عن إرسال رسائل تتجاوب فيها تراسلات الحواس وإيحاءات الألوان فزهرة اللوتس بكل تنويعاتها تتجاوب مع الطيور بكل أشكالها الناطقة. جنبا إلي جنب لوحات الطبيعة الصامتة. كأنها استراحات بصرية بين تعدد الأوجه والشخوص وتتقارب درجات اللون أو تتباعد بما يحقق التشابه والتضاد وتتبادل الكائنات الموقع مع الطيور. فتغدو إياها كأنها المعادل الرمزي الذي يدني بطرفي التشبيه إلي حال من الاتحاد. وتحمل البقرة. التي تبدو مقدسة. المرأة التي لا تفارقها في مدي رمزية الخصب التي تجمع بين الثنائية التي تقابل بين بقرتين تحملان امرأتين. في علاقة مفتوحة مع طيور محلقة وزهور نابتة. وبراعم متفتحة. وتبدو المرأة الأم إلي جوار طفلتها الصغيرة مفعمتين برائحة الخصب الذي تمثله زهرة في إناء والقطة التي تجمع ما بين رمزية المرأة وما لا يفارقها من مكر. وذلك في اللوحة المهداة إلي عبد الهادي الجزار. وهي نوع من التناص التشكيلي مع إحدي لوحات الجزار الشهيرة ولا تكف المرأة عن التبدل. فهي مفرد في صيغة تثنية كما لو كانت تواجه نفسها في مرآة. وهي جمع بصيغة المفرد. موصولة برموز حلمي وتيماته الأثيرة ابتداء من الطيور المحلقة إلي السمكة العائمة التي تصل بين الخصوبة والماء الذي يقترن بمعاني التجدد والحياة التي لا تتوقف. وليست كل مكونات المنظور. في لوحات معرض نفرتاري وأخواتها. مصرية قديمة مائة في المائة. فحلمي التوني. يمزج العصور. بحيث لا تخلو لوحة من تيمات متكررة في أغلب أعماله. خصوصا في دلالات الخصب الذي ينبغي أن يغمر الكون. ويتسرب إلي الشرايين والأفئدة. والأرض التي لا تكف عن الإثمار مع تجدد الربيع. وعودة إيزيس إلي الحياة. بعد أن جمعت أجزاءه في وحدة واحدة. كأنها وطن لا يمايز بين أفراده وطوائفه ودياناته كما لا يمايز بين أعضائه. فتتحول وحدته المتجددة إلي تنوع خلاق. يصل أحدث الحديث بأقدم القديم وهذا هو الفن الأصيل فيما يفهمه ناقد أدبي مثلي.