محمد الجمل من الكتاب الذين يؤمنون بقوة بأن للفن وظيفتين تؤسسان لمبدأ القيمة: الوظيفة الأولى هي الوظيفة الفنية الجمالية التي تتصل بالمتعة وتولد اللذة وتحقق الامتلاء المشبع، وهي قيمة ذاتية نفسية خاصة وخالصة. أما الوظيفة الثانية فهي الوظيفة الاجتماعية الإنسانية التي تتصل بالمنفعة وتقوم على فكرة أن الفن وجهة نظر للفنان من الواقع والحياة والوجود على الكاتب أن يعرضها بطريقة تمكن المتلقي من أن يأخذ لنفسه موقفا من وجهة النظر المطروحة هذه، وليس من الطبيعي ان نتفق أو نختلف مع وجهة نظر الكاتب الفنان، لأنها في النهاية موقف خاص. حرص محمد الجمل منذ أن بدأ مشروعه الفكري والفني بنشر مجموعته القصصية الإولى "قبل رحيل القطار" 1979، على أن يكون له منهج واضح محسوب بثقة علمية رياضية، سواء في عرض موقفه أو في تقديم أدوات فنه وأشكاله أو حتى في التخطيط لوجوه الانتشار والإعلان والتوجه. كتب القصة القصيرة والرواية والمسرحية والسيناريو والتمثيلية الإذاعية والمقالات الأدبية والنقدية وشارك في الندوات بالمناقشة وإبداء الرأي والتعليق، وهو في كل نشاط واع بذكاء يقظ بخطة داخلية تحركه وتوجهه وتقود نشاطه. والمتتبع لمسيرة الإبداع الأدبي عند محمد الجمل سيلاحظ مدى قلقه المتوتر وهو يقدم مشروعه الوطني ومشروعه الإنساني، سيلاحظ كيف بدأ المشروع بومضات في قصصه القصيرة، تعري الواقع وتدينه وتتغنى ببطولة الإنسان وسعي الضعفاء، وتتلمس طرق الخلاص. وسيلاحظ المتتبع لأعمال محمد الجمل أيضا كيف تحولت هذه الومضات إلى أبنية متسعة للعرض والتحليل والتصور باستغلال مفردات الواقع والوقائع والأحداث الموثقة، ودلالة التاريخ في دوران حركاته في رواياته العديدة ومنها: "من كفر الأكرم إلى بارليف" 1988، "القصور تتصدع فوق الرمال" 1992، "أمازيس" 2000، "بسماتيك الثالث" 2002، "وزاحر" 2005، "قراءة في دفتر الأحوال" وغيرها.. وبدا في هذه الأعمال ومن خلالها مشروع محمد الجمل الوطني الاجتماعي الذي يقوم على ديمقراطية المشاركة وتبادل الآراء في حوار يعطي المساحة المطلوبة للآخر مشاركةً واستماعا، ومشروعه الإنساني الذي يقوم على الحرية والعدالة والمشاركة. وفي سبيل هذا الطرح قدم محمد الجمل من خلال الرواية أبنية فنية لها جمالياتها المتعددة والنابعة من سحر السرد الخاص بكل شكل، فمن سرد ذاتي يقوم على التسجيل والملاحظة وإبداء الرأي إلى سرد يقوم على تعدد الخطاب وبالتالي وجهات النظر، إلى سرد يستحضر التاريخ قناعا لإسقاطات ترتكز على الرمز والإيحاء، إلى سرد وثائقي يولي اهتمامه الأكبر بالوقائع والأحداث الموثقة. في كل هذه السرود كان الجمل يعمد إلى الأقنعة والرمزية في تقديمه لمشروعه، تاركا للفن مهمة التفسير والتأويل، لكنه في عمله الأخير "حفنة من الأرذال رجع الصدى"، أراد أن يغير منهجه بأن يكون أوضح وأفصح وأكثر تحديدا في العرض والشرح والتعليق والمناقشة. جاء ذلك بعرض المشروع من خلال وجهات نظر تمثل جماعات المثقفين السياسيين في مصر المعاصرة، وبالتحديد في الفترة ما بين ثورة 1952 وحتى اغتيال السادات مع إطلالة لجذور رحلة المصريين مع الديمقراطية منذ ثورة عرابي ومرورا بزعامة مصطفى كامل وسعد زغلول والنحاس، وصراع الأحزاب السياسية ونشأة التيار الإخواني دعويا ثم سياسيا ودوره في الحياة السياسية المصرية. *** حفنة أرذال هي العبارة التي أطلقها السادات على جموع المعتقلين من المثقفين والسياسيين الذين يمثلون كل الأطياف السياسية والثقافية في مصر، والذين تم اعتقالهم في 3 سبتمبر 1981 عقب عودة السادات من زيارته غير الموفقة لأميركا، وفي زنزانة رقم 11 بسجن طرة، وضع المؤلف ثماني شخصيات مختلفة الميول والتكوين والثقافة لتحكي كل شخصية عن تجربتها السياسية وأفكارها ومفهومها للحرية والديمقراطية ولتتناقش حول مشروع المؤلف الذي بدأ من خلال تركيزه على بعض المحاور وإلحاحه على إضاءات خاصة لبعض الأفكار. في زنزانة رقم 11 بسجن طرة، حل أولا حسني هلال الصحفي الذي كان قريبا من السلطة السياسية، بل كان أحيانا معاونا لها، والذي عاش سقوط الملكية في مصر وقيام جمهورية عبد الناصر والأحداث التي تلت حتى اغتيال السادات. في زنزانة حسني هلال الصحفي والشاهد على العصر وأحداثه، حشد محمد الجمل سبعة أصوات تمثل التيار الإخواني، والتيار الوفدي، والتيار الليبرالي الاشتراكي، والتيار العسكري الوطني، بالإضافة إلى رجل الأعمال البرجماتي الميكيافيللي وأستاذ الجامعة الفقيه الدستوري، والشاب طلعت منصور ابن ثورة 1952، وابن منصور فايق صوت الضباط الأحرار أو التيار العسكري الوطني، وحفيد مختار مجاهد الإخواني المتشدد، وتلميذ يحيى كامل أستاذ الجامعة والفقيه الدستوري، وزوج سلوى فهمي الليبرالية، والذي يمثل مع زوجته مشروع الجيل الجديد الذي يقدم مشروع محمد الجمل الوطني والإنساني في هذه التوليفة التي تجمع كل التيارات وتتسع للجميع في كيان لو تحقق في الثورة المصرية الأخيرة، لأمكن قيام الحلم المصري في حياة ديمقراطية حقيقية تولي اهتمامها بالإنسان وبالمجتمع وبالعالم وتعي دروس الماضي وعثرات الحاضر لتحقق المستقبل، وتمتلك الرؤية التي تدفعها إلى التغيير المحقق لخير الإنسان والمجتمع والحياة. *** قدم محمد الجمل هذه النماذج الشخصية لتيارات الفكر والثقافة والسياسة في مصر الحديثة والمعاصرة، وجعل كل صوت فيها يتحدث عن تجربته مع السلطة وتجربته مع الحياة وتجربته مع الإنسان، كما جعله يقدم معلومات وثائقية من أحداث الماضي الذي شاهده في طفولته والذي قرأه في التاريخ والذي كونه في ذاكرته الثقافية. ولأن هناك وقائع وأحداثا مشتركة عاشها الجميع تلقوها من التارخ الوثائقي، كانت الفرصة متاحة هنا لتكرار المعلومات والوقائع التي وصلت أحيانا إلى درجة المطابقة، خاصة وأن معظمها وقائع وثائقية لا تحتمل كثيرا تأويلات وجهات النظر. وداخل الزنزانة كانت الفرصة متاحة لحوارات بين هذه الأصوات مكنت الكاتب من استعراض وجهات النظر المختلفة في الشكل والحلول كما يتصورها التيار المنتمي إليه. *** وعلى الرغم من الاهتمام الملحوظ من الكاتب باستعراض المعلومات والتي جمعها من المصادر التاريخية والوثائقية، إلا أنه احتفظ لشخصياته بوجودها الإنساني الاجتماعي، فقد تحركت في فضاء السرد حركتها الإنسانية المشحونة بمشاعر الحب والكره والدفء والبرودة، فتقابلت وتعاركت وتصالحت وأحبت وأنجبت أبناءً، وانفصلت وتشاركت في الطعام والشراب، ليس فقط من خلال تواجدها في زنزانة السجن، بل أيضا من خلال علاقاتها الاجتماعية والإنسانية في الحياة خارج السجن، فقد كانوا قبل زمن الزنزانة أقارب وأصدقاء، تربط معظمهم روابط إنسانية أتاحت الفرصة لحركة شخصية إنسانية حقيقية داخل الفضاء السردي تقدم حركة الحياة وصورها *** رواية "حفنة من الأرذال" لمحمد الجمل نص مثير للجدل، وهو ما لاحظه المؤلف عندما قال في تنويه صدر به العمل: "أتصور أن هذا النص ليس كتابا في التاريخ يروي ما حدث دون تأمل ومراجعة، وليس كتابا في السياسة يطرح أفكارا منطقية مجردة معزولة عن ملابساتها، وهو مع ذلك يستلهم ما هو تاريخي وما هو فكري في نسيج روائي، يسجل ما حدث ويرهص بما كان يمكن أن يحدث لتلافي السقطات التي حاولت المبادرات الوطنية إلى جزر سياسية معزولة تسبح في مجرى نهر العمل الوطني دون تواصل تراكمي....." إلى أن يقول: "وقد اتخذ النسيج السردي شكل رواية أصوات تضم شخصيات متنوعة العقائد والاتجاهات، تروي كل شخصية ما حدث من وجهة نظرها واعتقادها. اختلفوا في الرؤى ووحدهم الغضب والاحتجاج على الشأن الجاري بأسلوب ديمقراطي لا يتبنى العنف والترهيب". استخدم الجمل تكنيك الحكي وظل الحكي الذي يعتمد على حكايات فرعية داخل حكاية أساسية كما هو الشأن في "ألف ليلة وليلة"؛ فالسرد يقدم أولا حكاية القبض على حسني هلال الصحفي وحبسه في زنزانة رقم 11 في سجن طرة واستعراض مشوار حياته وهمومه مع السياسة والصحافة والوطن، ثم يطلب من مأمور السجن والذي يكشف السرد عن أنه وطني وشاعر ومثقف ومهموم بالوطن ومتعاطف مع حسني هلال ومع الآخرين أيضا، يطلب حسني هلال من مأمر السجن رفقة يأتنس بها في زنزانته، كما يتبرع مأمور السجن بترشيح بعض النزلاء ليكونوا مع حسني هلال، وتكون النتيجة سبعة أشخاص بسبع حكايات منفصلة ومتصلة على نحو ما أوضحت. ولحيادية المادة الوثائقية التي اعتمد عليها الجمل تحولت رواية الأصوات إلى مناقشات ذهنية تستعرض أفكار الكاتب الذي بدا واضحا ميله إلى التيار الليبرالي وهو التيار الذي أحبه أستاذه نجيب محفوظ ودافع عنه، كما بدا أيضا إصراره على تقديم كل ما يتصل بحركة الإخوان المسلمين وتطورها، والفرق المختلف التي نشأت، بل وسلوك أفرادها المتشددين والتي فصلت بالطلاق ين منصور فايق وزوجته، ابنة مختار مجاهد ممثل التيار الإخواني. لهذا لم تكن المناقشات أحيانا بريئة من تدخل الكاتب على نحو أراد أن يدفع به للمسار الذي خطط له. *** "حفنة من الأرذال" لمحمد الجمل نص سردي محير لكنه مقنع؛ فالكاتب يمتلك خبرة فنية طويلة من السيطرة على إيقاع النص على نحو يوفر المتعة الفنية التي نعيشها في هذه الأجواء بإنسانيتها وحيويتها ورهافة مشاعرها، متمنين مع محمد الجمل أن يتحقق مشروعه الوطني، كما أنه يمتلك من الحيل الفنية ما يستطيع به استكمال جوانب الأطر الفنية لعمله وعلى نحو ينقذ العمل من بعض المزالق التي يمكن تواجدها في مثل هذه الأعمال التي تلح فيها المادة المعرفية والوثائقية على وعي الكاتب ضاغطة بثقلها المادي على المبدع فيه. هكذا نرى "حفنة من الأرذال" لمحمد الجمل، نصا سرديا مكتمل الأبنية الفنية في لغة سردية توازن بين المعرفة والفن في بنية سردية دائرية تعتمد على تيمة الحكي حيث تتعدد الحكايات داخل الحكاية الأولى التي تبدأ وتنهي حركة السرد في حركة دائرية تعكس حركة الحياة كما تقدم انعكاسا لمفهوم الاستمرارية المتكررة وهو مفهوم يوليه محمد الجمل اهتماما خاصا في فهمه للتاريخ والحضارة والإنسان.