يختلط بكتاب وأدباء ،وإنما يعتمد علي ما يقرأه في خلوته ببيته •فلم يكن يعرف يوسف إدريس أو كتاب الستينيات ، وقام عبدالله هاشم بتعريفه اسماء هؤلاء ، وربما مده بكتب من مكتبته، وبدأت علاقة سعيد بعبدالله وظلت إلي أن حدث له ما حدث في ندوة بالقاهرة • رأيت وعاشرت كرماء كثيرين ،لكنني لم أر كريما مثل سعيد بكر ،فقد يكون الرجل كريما من وسع ، لكن سعيد كريما ولو كان لا يمتلك شيئا •كنا في مؤتمر بدمياط ، وانتهت الجلسة الختامية قبل الظهر بقليل ،وكان لابد لنا من أن نتناول الغداء قبل أن نركب السيارة التي ستقلنا إلي الإسكندرية ،ودخلنا مطعما هناك ،وعندما حاولت دفع الحساب ، أمسك أحمد حميدة يدي قائلا : - مادام سعيد بكر معنا ، يبقي هو إللي يدفع • وأومأ سعيد برأسه مبتسما • وحكي لي أحمد حميدة بأنه كان يسير مع عبد الله وسعيد بكر ، ودخلا معه لشراء حذاء ،فقال سعيد للبائع : - هات حذاء لكل منهما • ودفع سعيد ثمن الأحذية الثلاثة• وكما يقول المثل العامي" البير الحلوة نزحة "، فقد أنفق سعيد كل الأموال التي ادخرها خلال غيابه عن كتاباته وأسرته ،وأضطر أن يبيع سلسة المسرح العالمي النادرة الوجود في شارع النبي دانيال • كان سعيد صريحا في حديثه معنا بشكل غريب، يحكي عن أسرته ،وعن والده الذي كان يمتلك محلات حلوانية كثيرة ، لكنه اضاع كل هذا • وكان مهذبا عف اللسان ، يقضي وقته في بيته ، لا يخرج منه- بعد عودته من المدرسة التي يعمل بها - إلا يومي الاثنين لحضور ندوة القصة بقصر ثقافة الحرية ويوم الجمعة لحضور ندوة عبد الله هاشم في بيته لم يكن له عالم سوي عالم الأدباء • كان في ندوة الاثنين مقلا في الحديث لا يتحدث إلا إذا استثير ،وإثارته تأتي من سماعه لقصة جيدة قيلت، أو عند سماعه لرأي لا يعجبه ، فيرتفع صوته وتري جانبا مختلفا في شخصيته • بعد الندوة نسير جماعتنا إلي محطة الرمل لمتابعة الكتب والمجلات والجرائد،فيذكر لنا النكت التي سمعها من زملائه المدرسين ،كان يحكي نكته بطريقة جميلة ،فيضحك قبل أن يقول النكتة ،وعادة ما تتواري الكلمات خلف ضحكاته •أما في يوم الجمعة ، فكان يخرج من بيته في الهانوفيل، ويتجه إلي بيت عبد الله هاشم في باكوس • وحدث أكثر من مرة أن تقابلنا في صباح يوم الجمعة لزيارة مكتبة دار المستقبل لمقابلة صاحبها المرحوم الدكتور رءوف سلامة موسي ، فقد قدمت سعيد للدكتور وأثنيت عليه إلي أن تعاقد معه لإصدار رواية له •فكنا نزوره قبل العاشرة صباحا ،وننتهي من لقائه بعد وقت قصير جدا • فيقضي سعيد الوقت معي ، إلي أن يحين موعد ذهابنا إلي بيت عبدالله هاشم في آخر النهار ، فليس من المعقول أن يعود إلي الهانوفيل ثم يأتي ثانية إلي محطة مصر للذهاب• كان أول من نشر - من جيلنا بالإسكندرية - في المجلات القاهرية المشهورة فنشر في مجلة "الطليعة "عام 1972 •وسرعان ما ظهرت قدراته ،اهتمامه باللغة ، وتشكيلاته الفنية في قصصه • وتوالت أعماله القصصية والروائية ، استطاع أن يمزج بين فن الكلمة والفن التشكيلي الذي درسه وتخصص فيه • كنت تجد الألوان ساطعة بين سطور قصصه، وفي قصصه ورواياته تجد مواقف تشبه الاسكتشات التي يرسمها الرسامون • وأذكر أن زميلا لي - من خارج الوسط الأدبي - سمع قصة له فقال لي: - أسلوبه حلو • ومن يومها عندما يسمع اسم سعيد بكر يقول لي : ده إللي أسلوبه حلو ؟ • كان سعيد بكر وسعيد سالم قد حققا شهرة أكثر منا ،لكن سعيد سالم لم يكن يحضرندوة الاثنين بانتظام، بينما سعيد بكر لا يفوّت ندوة، فوجد الرعاية والاهتمام من السيدة عواطف عبود، مديرة الثقافة بالإسكندرية في ذلك الوقت ؛فرشحته لنيل جائزة الرئيس السادات في عيد العلم مع القصاص ملاك ميخائيل،• وكان عبد الله هاشم - المشرف علي ندوة الاثنين - يصيح فرحا عندما يجد موهبة مبشرة : - لقينا خليفة لسعيد بكر • قال هذا علي كاتب جيد خريج لغة إنجليزية لكنه اختفي ،وقال هذا علي مجدي الضوي الذي اختفي أيضا • كان لسعيد بكر اهتمام خاص باللغة ؛خاصة بعد أن حصل علي ليسانس اللغة العربية من آداب الإسكندرية ،فاعتمدتُ عليه فترة في مراجعة أعمالي ،وكان يقوم بمراجعة مواد مجلة نادي القصة التي صدرت عن الثقافة لسنوات طويلة جدا • كان حميدة وعبد الله ومحمد عبد الوارث أقرب إليه مني •وأدري مني بعاداته وتقاليده،فكما قلت المنافسة اللعينة تفسد العلاقات أحيانا• اهتمام المسئولين في الثقافة بالإسكندرية ، وحماس عبد الله غير العادي به ؛ جعله لا يقبل نجما في الندوة سواه• وأذكر أن زميلا لنا قاهري ،عاش فترة في الإسكندرية، وكان يحضر ندوة الاثنين بانتظام ، قال بعد أن شاهد وسمع ما يفعله عبد الله ويقوله عن سعيد بكر ،قال: - أنا لو من سعيد ، لا أقرأ ولا أتعب نفسي ، بعد أن وصلت إلي هذه المكانة التي وضعه فيها عبد الله هاشم • واعتقد أن هذه هي مشكلة سعيد بكر ،التي لم يدركها إلا مؤخرا بعد فوات الأوان،فقد صرح لي بها ونحن سائران في محطة مصر ، بعد حضور ندوة عبد الله هاشم في بيته• كيف غيّر سعيد بكر اتجاهه كتبتُ رواية الجهيني عام 1976 ،وقرأها سعيد بكر وسعيد سالم وعبد الله هاشم وفتحي محفوظ وغيرهم مكتوبة بالآلة الكاتبة، ثم قرأها الدكتور السعيد الورقي، فأعجب بها كثيرا، وقال لي في ندوة الاثنين: - الحي الذي تكتب عنه، ده كنز• وفوجئت بسعيد بكر يقول للدكتور سعيد: - ما أنا مولود في حي شعبي، مولود في وكالة الليمون• وكتب بعدها روايته وكالة الليمون• ثم كتب السكة الجديدة، وتحت السور والباب الأخضر • ثم كتبتُ روايتي " ليالي غربال " عن حواري غربال، كتبتها بطريقة كتابة ألف ليلة وليلة، بحيث كل فصل يمكن أن ينشر كقصة قصيرة منفصلة، ونشرتها بالفعل كقصص قصيرة في الأهرام والثقافة الجديدة وأخبار الأدب وغيرها• وكنت أقرأ فصلا ؛ فصلا في بيت عبد الله هاشم يوم الجمعة ، ووجدت الرواية صدي وتأثيراً كبيراً• وفوجئت بسعيد بكر يكتب بالطريقة نفسها روايته متواليات باب ستة• في مصر لا يكفي أن تكون كاتبا جيدا فقط ، ولا أن تكون رساما أو موسيقيا بارعا فقط، لابد من أن تسوّق أعمالك بنفسك أو بالآخرين ، وسعيد لم يستطع أن يسّوق أعماله خارج الإسكندرية،واعتمد علي عبد الله هاشم لكي يسّوقها له داخلها•وعبد الله هاشم دعائي بارع، إذا تحمس لأحد يظل يذكره في كل وقت وفي كل مناسبة وبدون مناسبة أحيانا،( مازال يفعل هذا مع رواد ندوة الاثنين الجدد ) لكن صوته لا يصل للقنوات الثقافية في القاهرة• فانحصرت الأضواء عن سعيد بكر خاصة بعد سفره إلي السعودية • بعد عودته من السعودية أحس بأننا لم نتقدم بما فيه الكفاية ولابد من تنشيط حركة النشر والانتشار بيننا، فاقترح بأن يدفع كل منا عشرة جنيهات شهريا، وعندما يتكوّن مبلغ يكفي لإصدار كتاب نبدأ بنشر روايتي المساليب، وبعد ذلك نجري قرعة في اختيار الأعمال التالية ،اقترح هذا في غيابي ،وفوجئت بذلك ، فأنا وسعيد كنا من أهم كتاب القصة والرواية في الإسكندرية ،والمنافسة بيننا تستدعي أن يحدث خلاف وشقاق أحيانا •للأسف مشروعه هذا لم يتم ،فبعد أن جمعنا مبلغا كبيرا ،لم نصدر كتابا واحدا ، وأخذ كل منا ما سبق أن سدده • كان أول من يأتي إلي بيت عبد الله هاشم مساء كل جمعة ، وكنت حريصا أن أحضر في ذلك الوقت تقريبا ،فنجتمع أنا وهو وعبد الله قبل حضور باقي الزملاء• بعد انتهاء الندوة نسير عادة أنا وهو وأحمد حميدة لنركب القطار الذي يقلنا إلي محطة مصر • أثرت أشياء كثيرة في مسيرة سعيد بكر الأدبية ، أهمهما : قناعته في البقاء بالإسكندرية (مقبرة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية )،وعدم انتقاله إلي القاهرة مثل الكثيرين من زملائنا ،وهذا ما قاله عنه المرحوم علي شلش في ندوة بقصر الحرية، قال ما معناه : - لا أدري كيف يطيق أن يبقي في الإسكندرية وهو بهذه الموهبة الكبيرة ؛بعيدا عن أضواء القاهرة • وأثر فيه أيضا سفره إلي الأراضي السعودية مرتين ،في كل مرة أربع سنوات ، عمل فيها مدرسا للرسم هناك •• لولا هذا لحقق شهرة أكبر • كان سعيد بارعا في كتابة القصة القصيرة، ،كان في أول حياته متأثرا بكتابات محمود عوض عبد العال ومحمد الصاوي ،واستطاع أن يضيف لطريقتهما من عنده أشياء جديدة تخصه، ووجد تشجيعا من عبد الله هاشم وتفسيرا لطريقته الجديدة في الكتابة ،لكنه لم يكمل مشواره هذا ،وغيّر طريقته ؛ ربما أحس بأن هذا الطريق لا يؤدي إلي الشارع العمومي، وإنما يؤدي إلي حارة مسدودة•فكتب عن الحي الذي نشأ وقضي فيه طفولته وشبابه• واعتقد أنه لو تمسك بطريقته الأولي في الكتابة لحقق لنفسه مكانة أكبر وأهم ، فقد كان متفردا ومتميزا فيها ،وكانت الضبابية التي يصنعها تمزج الحقيقة بالخيال، والواقع بالأسطوري•وأشهد بأن عبد الله هاشم كان متحمسا له في طريقته الأولي أكثر من الطريقة الأخري التي لم تكن - طريقته الأصلية • الندوة التي كانت سببا في مرضه اقترب موعد الانتخابات في نادي القصة بالقاهرة ، ولأن عددا كبيرا من كتاب القصة بالإسكندرية أعضاء فيه، فقد اعلنوا عن ندوة لنا، يقول فيها كل منا شهادة، ( نوع من أنواع الدعاية لبعض المتقدمين للانتخاب ) كان عبد الله مهتما بهذا الحضور، وحريصا علي أن يكون العدد كبيرا • سافرت أنا وشوقي بدر يوسف ومحمد الجمل من الإسكندرية في قطار الثالثة والنصف ، وما إن وصلنا القاهرة حتي ركبنا تاكسيا إلي نادي القصة في شارع قصر العيني، ودخلت لأسدد الاشتراك بينما بدأت الندوة، وسمعت صوت سعيد غريبا ، مختنقا ومرتعشا، انهينا الاجراءات ودخلنا الندوة ، فأشار لي الأستاذ محمد محمود عبد الرازق إلي سعيد،وفعل بوجهه فعلا يدل علي الأسي والحزن •فقد أثرت بوادر الجلطة علي طريقة سعيد في الكلام •وانتهت الندوة وأخبرني الأستاذ محمد محمود عبد الرازق بأنه لم يستطع القيام لمصافحته والترحيب به فبكي • ذهبنا أنا وشوقي والجمل لننام في القاهرة ،بينما عاد سعيد وحميدة وعبد الله إلي الاسكندرية•وصلوا محطة مصر في الإسكندرية ،وأخذ سعيد ميكروباص ليصل إلي بيته في الهانوفيل، لكنه لم يستطع أن يصعد سلالم بيته، ونقلوه إلي المستشفي وبدأت رحلة العذاب إلي أن مات• وقد حكت لي زوجته : بأنه كان يكتب علي الآلة الكاتبة في رواية ، ويسهر طوال الليل ، لكي يقدمها إلي نادي القصة لتطبع ضمن الكتب التي يصدرها النادي، كما أنه استيقظ عند الفجر ، ووصل محطة مصر في الصباح ،وتقابل مع عبد الله وحميدة ، وركبوا الميكروباص، ووصلوا القاهرة في الصباح، فذهبوا كالعادة إلي مجلس الثقافة في الأوبرا، ثم هيئة الكتاب، ثم هيئة قصور الثقافة •• إلخ (الرحلة التي يقوم بها أدباء الأقاليم في القاهرة في كل زيارة) رحلة طويلة مع رجل يحس ببوادر جلطة • ومات في 25 ديسمبر 2008