أنفاسه; والأوقات التي تختلط فيها الأمور وتتساوي الاحتمالات وتحتاج لمن يرجحها ويدفعها في هذا الاتجاه أو ذاك; فمهما يكن ثقل الظروف الموضوعية, يوجد دائما أشخاص من أوزان لا بد أن يكون لها بصمة في توجيه الدنيا إلي تقدمها, أو أحيانا إلي حتفها. وسواء كان الأمر هذا أو ذاك, فإن شخصية رئيس الجمهورية الأمريكية تبدو في كل الأوقات ذات تأثيرات خاصة لا يمكن تجاهلها, وقد نقل عن الرئيس جمال عبد الناصر أنه كان ينظر إلي صورة الرؤساء الأمريكيين فور توليهم, وساعتها يحدد إلي أي حد سوف تكون الكيمياء الشخصية مع الرئيس الجديد, وكانت الحالة إيجابية مع كيندي, ومتشائمة مع جونسون, أو هكذا قيل. باراك أوباما يبدو في هذا الأمر حالة لافتة للأنظار, فقد أتي إلي السلطة عكس كل التوقعات قادما من أقلية عرقية أمريكية من أصول إفريقية, وفي وقت كانت فيه أمريكا قد عجزت عن إدارة العالم سواء من الناحية الاستراتيجية أو من الناحية الاقتصادية. وساعة توليه السلطة كان العالم غارقا في أزمة اقتصادية طاحنة, كما كانت الجيوش الأمريكية غارقة في ثلاث حروب في العراق وأفغانستان وضد الإرهاب لا يعرف أحد عما إذا كان ممكنا كسب أي منها, وبشكل من الأشكال كانت الأحلاف التي تقودها أمريكا تنفرط كما حدث بالنسبة للناتو ومنظمات أخري تابعة,كما كانت العلاقات مع دول كبري أخري مثل روسيا والصين يقع عليها جبال من الحساسيات واختلاف الرؤي. وباختصار كان علي الرئيس الجديد أن يتعامل مع ميراث عصر جورج بوش الابن بكل ما فيه من حماقة وتراجع. هناك علم يسمي علم النفس السياسي, وفي واحدة من فصوله توجد دراسات واسعة حول فهم القادة, وخريطتهم العقلية, أي تلك المفاتيح التي يتجهون للاستعانة بها عندما يواجهون موقفا من المواقف. فالقائد السياسي لا يخترع ساعة القرار, وهو قد يسأل مستشاريه أو حلفاءه, ولكنه يفعل ذلك من خلال خريطة مفهومية تحدد الأسئلة التي يطرحها, وهذه التجربة بدورها تحتاج إلي وقت طويل لدراستها ورسمها, فقد استغرق الأمر في حالة سابقة قرابة العام لرسم الخريطة المفهومية لكل من الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر حتي نفهم تلك القرارات التي اتخذوها في أثناء حرب أكتوبر1973. هذه المرة فإن الوقت والمساحة لا يسمحان, ولكن هناك مجموعة من العلامات الأولية التي تجعلنا نقترب من فهم الرجل الذي جاء إلينا برسالة يوم الرابع من يونيو الماضي في جامعة القاهرة, وسوف يقوم الرئيس مبارك بلقائه يوم الثلاثاء القادم الثامن عشر من أغسطس. ولعل أولي علامات فهم الرجل هي أنه أول رئيس عالمي بمعني الكلمة للولايات المتحدة, وقد اكتسب هذه الصفة من مولده من أب كيني جاء إلي الولاياتالمتحدة طالبا في جامعة هاواي, واكتسب منه اللون من ناحية, والاعتزاز بالنفس من ناحية أخري. فلم يكن الأب من سلالة العبيد الذين حملوا مقيدين بالسلاسل ومعرضين للفناء, وإنما كان من هؤلاء الذين جاءوا مرفوعي الرأس من أجل العلم, وهم يحملون تجربة عريضة للنضال من أجل التحرر, وبجوارها اعتزاز آخر بأصولهم القبلية. ويحكي أوباما والتي تعني الحراب المستعرة في كتابه أحلام من أبي كيف أنه شعر لفترة بالفخر من حكايات جده لأمه بأن الأب ينتمي إلي قبيلة ليوس وهي من القبائل النيلية التي هاجرت إلي كينيا من علي ضفاف النيل حيث وجدت أعظم الحضارات في التاريخ. وكانت خيالات الطفل الصغير تجري وراء الأهرامات والعربات الحربية المذهبة والفراعنة بقلائدهم اللازوردية ونفرتيتي وكليوباترا بكل ما فيهم من خيلاء وجمال. ورغم أن باراك أوباما أدرك فيما بعد أن قبيلة والده كانت من القبائل البدوية التي انتقلت من النيل الأبيض في السودان إلي كينيا, وأنها من ثم كانت بعيدة عن مصر, فإنه خيالات الصبا لديه لم تمنعه من تصور والده واحدا من شيوخ أو أمراء القبائل, والتي ربما تعطي الأقدار مصيرها له بعد والده أميرا في بلاد بعيدة. ومن يقرأ السيرة الذاتية لصاحبنا فإنه لن يعدم أبدا الشعور بتلك الحالة من القلق والحيرة التي عاشها أوباما تجاه أبيه الذي درس في هاواي ومن بعدها في هارفارد وعاد إلي بلاده لكي يحقق أحلامها في التغيير والتقدم, ولكن لم يقدر أبدا لرجلنا أن يعرفه معرفة جيدة كأب وإنسان وإنما تم اختزاله في كل الأحوال إلي مجموعة من الصور والإيحاءات الباحثة دوما عن الاكتمال. ولكن باراك أوباما صار أميرا وملكا في الولاياتالمتحدة, ووصل إلي البيت الأبيض عبر سلسلة أخري من التجارب العالمية التي جاءت هذه المرة من الزواج الثاني لوالدته من طالب آخر, إندونيسي هذه المرة, باسم لولو, وجاء أيضا من رحم ذلك النضال الذي عاشته دول العالم الثالث. وإذا كان الأب ينتمي بالسياسة إلي الزعيم جومو كينياتا في إفريقيا فإن الأب بالتبني كان ينتمي إلي أحمد سوكارنو في آسيا, وهكذا صار واعيا بحركة التحرر الوطني الأفرو آسيوية بجناحيها. وكان الجديد في الأمر هذه المرة في إندونيسيا أن الصبي شاهد بعينه عملية فشل تجارب الاستقلال في الدول النامية عندما سيطرت عليها الديكتاتورية والفساد والعجز عن التغيير والتقدم. وبطريقة أو بأخري إذا كان قد قيل إن الولاياتالمتحدة كانت تؤثر في العالم كله, فإن العالم كان بدوره مؤثرا في أمريكا, وبالتأكيد فإن أوباما كان شاهدا علي ذلك من خلال طالبين قدر لهما أن يتزوجا من سيدة كانت تعمل مدرسة للغة الإنجليزية ثم حصلت بعد ذلك علي ماجستير في الأنثروبولوجيا. وربما كانت هاواي هي الولاية المثالية لهذه التجربة, فهي كانت آخر الولايات التي انضمت إلي الاتحاد الأمريكي عام1964, وكانت بوقوعها في قلب المحيط الهادي خليطا ما بين أمريكا الشمالية التي جاءت منها عائلة أوباما لأمه, وأهل آسيا علي اختلاف أشكالهم وألوانهم, ومن كانوا علي استعداد لاستقبال الطلبة من كل حدب وصوب. وهكذا فإن أوباما عاش أكثر من عالم تعددت فيه الألوان والأعراق والأديان بطريقة مثيرة, وعندما جرت احتفالات تنصيبه رئيسا للجمهورية كان في الحفل من يتحدثون بألسنة متعددة, ولهم ألوان مختلفة, ويعتنقون كل ما تعرفه الدنيا من أديان سماوية وغير سماوية أيضا. فقد كانت له أخت إندونيسية تزوجت من رجل صيني الأصل, كما كان له خمسة من الأخوة في كينيا وأخت, تزوج كل منهم في اتجاهات شتي دينيا وعرقيا وحتي لغويا. وبهذا المعني كان صاحبنا الذي أصبح رئيسا للجمهورية ليس عارفا فقط بمشكلات العالم الثالث, ومن بينها قضايا الشرق الأوسط, ولكنه أيضا كان عارفا بعجز دول هذا العالم عن التعامل مع مشكلات معقدة. وساعده علي ذلك كثيرا أنه حصل علي أفضل أنواع التعليم التي يمكن أن يتطلع إليها من كان مثله حيث دخل أكاديمية بناهو في هاواي والتي كانت من مدارس الصفوة التي أقامها المبشرون المسيحيون منذ عام1841. وحينما خرج أوباما من هاواي ذهب إلي جامعة كولومبيا الشهيرة في نيويورك ليحصل علي تعليمه الجامعي, ومنها إلي هارفارد لكي يحوز علي الدرجة العلمية في القانون حتي صار محررا لدورية هارفارد للقانون لكي يكون أول أمريكي من أصول إفريقية يتولي هذا المنصب الرفيع. هذا الجمع ما بين المسيرة العالمية والتعليم الرفيع كون شخصية أوباما وقدرتها علي فهم قضايا العالم والتعاطف معها. وبالتأكيد فإن حياته كان من الممكن أن تأخذ مسارا آخر لشخص لم يعرف أباه إلا متأخرا في حياته; وتحرك ما بين أكثر من قارة وأسرة وثقافة, وكان عليه في النهاية أن يقرر حياته في قلب جزيرة في منتصف محيط لا نهاية لزرقته وشطآنه. وفي مكان آخر ذكرت أن من يقرأ سيرة حياة أوباما فإن عليه أن يتوقع إما أن ينتج عن هذه الحياة سفاح أو نبي, ولكن ما حصل عليه العالم كان رئيسا للولايات المتحدة!. وفي النهاية فإن المسار الأمريكي الذي صعد فيه كان يسمح بمؤسساته وأدواته لشخص من أصول إفريقية, وعالمية بشكل أو بآخر, وله اسم مضحك بالمعايير الأمريكية, أن يصل إلي البيت الأبيض, وليس مكانا آخر. وعندما قدم أوباما نفسه إلي العالم الإسلامي من خلال خطابه في جامعة القاهرة كان من ناحية كمن عاد إلي عالم يعرف أصله وفصله, ولكنه بالتأكيد لم يكن جزءا منه. ومن ناحية أخري فإنه كان يقدم إلي ذلك العالم تجربته الذاتية في النضال وتحقيق المستحيل, فرغم كل شيء, وكل ما هو معروف عن العنصرية في الولاياتالمتحدة, فإن رجلا أسود يمكنه أن يحقق ما لم يحققه غيره إذا ما كان مسلحا بقضية وعلم وذكاء وفطنة. ومن ناحية ثالثة فإن كل ما تحقق لم يكن تجربة فردية وإنما كانت تجربة الأمريكيين من أصول أفريقية في الولاياتالمتحدة كلها الذين خاضوا نضالا طويلا حتي ينتزعوا مكانا بعد الآخر في الحياة الأمريكية. هنا فإن باراك أوباما لم يكن ينفي عن الشعوب العربية أو الإفريقية أو الآسيوية حقا في المقاومة, ولكنه كان يطرح سبلا ووسائل أخري لانتزاع الحقوق المشروعة من يد المغتصبين لها تجتمع فيها وسائل غاندي ومارتن لوثر كينج ونيلسون مانديلا. وهو يعرف تماما تلك الحاجة الماسة لدي العرب والفلسطينيين للحصول علي الاحترام والكرامة, ولكن كل ذلك علي جدارته الذاتية يمكن الحصول عليه من خلال الكفاح الإيجابي للعلم والمعرفة والتطور الإنساني واكتساب المكانة. والحقيقة أن صاحبنا لم يأت إلي هذه النقطة فجأة أو عندما وصل إلي البيت الأبيض, وإنما جاء إليها عبر مسيرة طويلة من المجاهدة مع حقيقته السوداء المختلطة بدماء بيضاء وكان اختلاطهما كفيلا بانحرافات شتي, ولكنهما قاداه في النهاية إلي اكتشاف الطبيعة المتنوعة للإنسانية. أوباما هكذا لم يعتد علي أن يقدم شيكا لأحد علي بياض, وهو يساعد من يساعدون أنفسهم, وما عرفه خلال مسيرته الاجتماعية والسياسية, بل وما عرفه من أبيه الذي لم يلتق به إلا لفترة قصيرة, وما عرفه من أمه التي عاش معها معظم حياته, أن كلاهما كان قادرا علي انتزاع مكانة لم يعطها أحد. وهو عندما يلتقي بالقادة, كما تشير فترة إدارته القصيرة, فإنه يعرف جيدا ما يطالبون به, ولكن للأمر وجها آخر أو حتي وجوها أخري, ولو كانت القضايا السياسية يمكن حلها من خلال محكمة للأخلاق العامة لربما تفادت البشرية كثيرا من الآلام. ولكن الحقيقة ليست كذلك, بل إنها من المرجح أن تكون قاسية ومخادعة, وما يمكن عمله هو بذل الجهد لتغيير الواقع وليس تدميره, والبناء علي ما هو ممكن وليس البحث عما هو مستحيل. ولكن المفيد من أوباما ليس حكمة سنواته فقط, وإنما سعيه الدائم إلي الاكتمال, فذلك الرجل الباحث دوما عن أبيه, والمتشوق طوال الوقت إلي الحصول علي الاعتراف, والشاعر دوما أنه لا يوجد الكثير من الزمن الذي يمكن إضاعته, سوف يقدم الكثير لكل من لديه الاستعداد لكي يقوم بالدور المنوط به لخدمة أهداف أسمي وأعلي. وحتي الآن فإن أوباما قد نشر كل شباكه واسعة عله يجد فرصا للنجاح يجري خلفها, وربما كان جريه وراء الشرق الأوسط سعيا لتحقيق ما لم يحققه أحد غيره. ولكن بقاءه علي المسيرة مرتبط كثيرا بمن يمد له يد العون أو يعطيه أدوات النجاح, وفيما عدا ذلك فربما يكون هو الرجل ذاته الذي يترك الأمور إلي مصائرها المحتومة مادام لأهلها تفضيلات أخري. وللحق فإن ذلك ليس كل ما في الأمر, فلا يمكن فهم أوباما وعلاقته بالشرق الأوسط, ما لم نفهم واشنطن أيضا. ولكن ذلك مقال آخر!!.