"كان نجيب محفوظ سباقًا فى الكتابة لكل الأجيال التى جاءت بعده من جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات حينما شرعوا في كتابة القصة. وعندما بدأنا نكتب القصة القصيرة جدًا، أعطانا "أحلام فترة النقاهة"، وأصداء السيرة الذاتية، وتفوق فكره في هذا الصدد".. هذا ما أكد عليه الروائي منير عتيبة خلال اللقاء الذي أداره مؤخرًا؛ تحت عنوان "ملامح السرد السينمائى عند نجيب محفوظ"، ببيت السنارى، بالقاهرة، وحضره د. أشرف محمود الأستاذ بالمعهد العالي للسينما، وفيفيان محمود مدير إدارة الدراما بالإذاعة السكندرية. وأوضح عتيبة بأن محفوظ كان يجدد نفسه باستمرار، ويرى بوضوح مسيرة المجتمع؛ لذا فإنه يعتبر واحدًا من الكتاب العرب القلائل الذين تبنوا مشروعًا أدبيًا وإبداعيًا خاصًا، إضافة إلي مشروعه الفكرى والفلسفى والروحى؛ فمعظم المجاهدات التى نجدها فى رواياته الكبيرة تؤكد أنها تجارب عاشها نجيب محفوظ بنفسه. وفيما يتعلق بعلاقة محفوظ بالسينما، قال: إن "محفوظ" كان ينظر إلي السينما من "شرفة الأدب" في حين أنها هي من أعطته الشهرة، في الوقت الذي لم يعطه الأدب ذلك، إلا إذا وضعنا "نوبل" فى الاعتبار، وهو ما وضعه دائمًا بين مطرقة المحبين الذين يمكن أن يصلوا به إلى درجة التقديس؛ وهي بلاشك تقتل المبدع؛ لأنه سيكون - كما ذكر محمد الفخرانى فى مقالاته - أيقونة، وبالتالى ننبهر بها ونتعامل معها ونتحدث عنها بفخر وإجلال ولكن لا نقرأها ولا ندرسها، وبين سندان من بدأوا يرفعون الأصوات لقتله مرة أخرى أو لإهالة التراب عليه. فيما قال د. أشرف محمود: إن نجيب محفوظ هو نقطة التلاقي بين السينما والأدب، إذ كان القائمون علي السينما في بداياتها أجانب، ورويدًا رويدًا انضم المصريون إليهم كمساعدين، حينما بدأت أكاديمية الفنون -مع بداية الخمسينيات والستينيات - تخرج دفعاتها الأولى وبدأ التياران يمتزجان، التيار الذى تعلم السينما على يد "الأجانب"، والتيار الذى تعلم السينما بعد، ثم أدخل علي السينما الاستدلال بالمناهج الأجنبية، حتى أتقنوا صنع الأفلام وترجموها، ثم بدأوا تدريسها. ومع مرور الوقت أصبحت الغالبية من خريجى معهد السينما. وعن دور محفوظ في هذه الفترة، يقول: تعرف "محفوظ" على الفنان السينمائى صلاح أبو سيف، والذي علمه السيناريو، وقال "محفوظ" حينها: (فى فترة شعرت فيها أن معين الأدب عندى ينضب، وأن لدي حالة من اليأس الفنى أو الأدبى. فجاءني أبو سيف، وقال لى: "تشتغل فى السيناريو؟"، فقلت: "لا أعرف"، فقال: "تعال معي خطوة بخطوة، ونبتدى نشتغل". وبدأنا بفيلم "عنتر وعبلة"، حين قال لي أبو سيف: "تعرف تكتب لنا القصة؟"، فكتبت قصة عنتر وعبلة). واستعرض د. محمود كتابات الناقد هاشم النحاس - المخرج التسجيلى - التي يتحدث فيها عن علاقة "محفوظ" بالسينما؛ مؤكدًا أنه ترك الرواية فترة وبدأ يكتب أفلامًا، وكتب حوالى سبعة عشر فيلمًا؛ منها: "ريا وسكينة" و"مغامرات عنتر وعبلة"، وظل يكتب فى هذه المرحلة خصيصًا للسينما، وحينها أُخِذَت قصة "بداية ونهاية"، لتحويلها لعمل إذاعى، إلي أن جاءت مرحلة الستينيات وحتي منتصف السبعينيات وبداية الثمانينيات، لتبدو السينما وكأنها معتمدة كلية على أدب نجيب محفوظ. إلي أن بدأ يسبح في عالم "الروايات" مرة أخرى، واستمر حتى آخر أيامه يمارس الابدع. درب المهابيل وفي كلمتها، تعرضت فيفيان محمود، للشخصيات الرئيسية في أربعة أفلام لنجيب محفوظ، هي: "درب المهابيل، والفتوة، وجعلونى مجرمًا، وريا وسكينة"، وقالت بأن العامل المشترك بينها "البيئة الشعبية"، وهذا إنما يعود بالضرورة إلي نشأة نجيب محفوظ الشعبية - ب"حى الجمالية" - والتي انضوي تحتها أسماء رواياته وأعماله الابداعية؛ مثل: خان الخليلى وزقاق المدق ودرب المهابيل، وهو ما يعني أن "محفوظ" يتكلم بلسان "الناس" ويروي همومهم؛ ففى "درب المهابيل" نجد أبرز شخصيتين: "قفة" بطريقه ملابسه، وشخصية "شيخ الكتاب" بطريقة نشوئه، والذي كان يقوم بدور المصلح فى الحارة، واكتشفت فى حوار كبير مع نجيب محفوظ أن هذه الشخصية أخذها من شخصية شيخه "الشيخ البحيرى" الذى تتلمذ على يديه فى درب "قرمز" فى الحسين؛ فمحفوظ كان يقف أمام هذه الشخصيات ويأخذ علامات أو بعض الوصفيات، ثم يقوم برسم الشخصيات باتقان. وأضافت: إن شخصيات نجيب محفوظ تتحدث بحرية، كأنها خلقت نفسها، عبر الإطار الذي وضعه لها، لتشق فيما بعد طريقها، ففى فيلم "جعلونى مجرمًا"، تجد شخصية "المعلمة دواهي" رغم أنها تعتبر دورًا ثانويًا، إلا أنها وبإمعان النظر فيها تجدها رمز حقيقي موجود وسط واقعنا؛ بكل تفصيلاتها؛ فهي في سوق الخضار تضع حبلًا حول عنقها، وفى نهاية الحبل كيس تضع فيه النقود، وعلما النفس يحللون تلك الظاهرة، بأنه دليل علي مدي عشقها للمال، فهي شخصية مادية.. وبذلك نجد أن شخصيات نجيب محفوظ السينمائية والروائية، إنما هي تجسيد لواقعنا؛ شخصيات ملموسة، باقية بقاء إبداعاته.