أتابع على التلفزيون، كما يفعل أغلب العالم، الحشود التي تخرج الى ميادينها، في نداءات ومطالب. أمر غريب فيّ لا يجتذبني الى الشوارع والساحات، هاتفة ومُطالبة. كما لا تجتذبني لدرجة المشاركة، كل الشعارات التي تُرفع، كما لو في بالي شعار ملك أحتفظ به لوقت الشدّة، يلخص كل مطالبي ويتفوّق بالضرورة على كل الشعارات المرفوعة. بالرغم من ذلك، مدمنة أنا على متابعة المسيرات، أقرأ فيها خصائص شعب هذا البلد وذاك، من هتافاته وطريقة تعبيره عن غضبه. مرّة وحيدة تمنيت فيها لو كنت مع الناس، هي في ميدان التحرير في مصر. ثمة نبرة هتافهم الجاّد والساخر في آن، تملأني . كما حسبت أنني في ميدان التحرير ألتقي أصحابي جميعهم في خبطة واحدة. أغواني فعلاً ميدان التحرير، وحرّض مخيلتي على النزول، وأمدّني بعزيمة بقيت افتراضيةً، لكنها تاقت الى الإصطفاف مع الناس. تمنيت فعلاً لو كنت مع المصريين ولا أعرف السبب تماماً لكنني أقول هذا صادقة، فلا أحد يُجبرني على كتابة ما أكتب. تحسّرت على أننا لا نملك ميدان تحرير بالمعنى المصري الحرفي، ولم أتحسّر بهذا القدر من قبل على أمر على علاقة بالميادين والناس والتجمهر. عندما ينتابني الحماس لسبب أو لآخر، أذكرّ نفسي أن لا جدوى من الحماس (هذا تعلمته في حياتي اللبنانية)، وأهدّىء من تسارع أنفاسي لكي لا أفقد السيطرة على نفسي وأخرج الى الشارع على نحو مدّو. مُحصنّة من إغواء شعاراتنا اللبنانية، وعندي قدر كبير من التحفّظ حيال الإرتماء في أحضان فئة أو جهة سياسية بعينها. أملك ما يكفي من الحسّ النقدي تجاه المراحل التي تبدو وضّاءة في البداية الى أن تُذبلها نهاياتها المرتبكة. أعرف العطب الأساسي الطائفي الذي يحكم البلد وناسه، ومنه تحفّظي الذي يحميني. كما أن أمورا قد تبدو تافهة جداً، تشغل بالي وتمنحني السلام الداخلي وتعفيني من الإنخراط في التظاهر والشعارات ذات الجذر الجدلي البيزنطي الذي لم يستقم حتى اللحظة على بديهة المواطنة الحقّة. أمور تافهة تبدو، تُشغل بالي وتلهيني: الكتب التي أقرأها، القصائد التي أكتبها، الهوس بتنظيف البيت، الحبّ الذي أكنّهُ لمدينتي الجميلة، سماع الموسيقى، الغناء، الوقوع في غرام الضعفاء والمُعذبين والمرضى، البساطة في كل شيء ورياضة المشي وقراءة وجوه الغرباء وحركة أجسادهم. أمور تافهة جداً يمكن تأجيلها الى يوم آخر، والإنخراط مع العالم في حراكه الإحتجاجي، لكن لا. لا أثق بأيّ أمر خارج حدسي وعمّا تعوّدت الوثوق فيه. على كل حال، الذين يخرجون الى التظاهر، لا يحتاجونني. أمكنني التثبّت من عدم حاجتهم إليّ، ذلك أن لا أحد يُنادي على اسمي بالميكروفونات أو يسأل عنيّ. عندما تنتهي تظاهرتهم ويؤوبون الى بيوتهم، لا يتفقّد أحدهم من غاب عن التظاهر أو من حضر. أثق أنهم لا يحتاجونني، وأرتاح لفكرة أنني كبّرت عقلي وعزفت عن المشاركة وتجنّبتُ أمراً ثقيلاً، فأفرح وأروح أعبُّ هواء نقياً أزفرهُ ببطء وبجرعات مدروسة. أخشى الحشود فلا أندّس بينها ولا أرفع شعاراتها. من الصعب جداً أن أنضوي تحت يافطة أعرف سلفاً اضطراب تعبيرها والشرخ الأساسي الذي يعتريها. صعب جداً في لبنان أن أتفيأ ظل يافطة تبدو في الشكل متّزنة، بينما مع قليل الإنتباه والتأمل تكون تئن من ضوضاء شعارها الفارغ. أشعر بقدر أكبرمن الإطمئنان لو كتبت ما أؤمن به، وأنا أفعل غالباً. الكتابة تُخلصّني من ثقل كبير، وفي الكلمات أحيا بمثل خفة لمعان البّلور. مع ذلك أحترم، بل مفتونة بالجماهير التي تخرج الى الميادين وتعبّر عن مطالبها بإيمان كبير. لقد اختاروا مصائرهم، وأخلصوا لآمالهم وارتضوا كل أذى يلحق بهم، عارفين أنهم يكونون موضع اعتداء وحشي ربما، وانهم قد يُنتزعون من الحياة نفسها، وكل واحد منهم مُهدّد بالفناء في سبيل حريته الموعودة. أنا عادية جداً، واهتماماتي عادية، واكثر إضجاراً من أن اهتف أو أتظاهر، وليس لغرابة موقفي أهمية في نظري، إلا في أنني أستميت في الدفاع عن عاديتي وضجري. أحبّ ان أعبّر من خلال الكتابة، من دون أيّ هتاف يُذكر، وأميل الى صبّ آمالي وأحلامي وحسيّ الوطني والأخلاقي في حروف مسبوكة بصدق، تاركة للكلمات الحلول بدل الصراخ والضوضاء. أكتب في رغبة أن أكون أنا نفسي فكرة مُلحّة عن الجنس البشري النقيّ، وأكتب ليأتي خطابي مختلفاً، مختلفاً عن خطابات الآخرين وعن كل شيء. طبعاً، ليست الكتابة من أجل مجد الكتابة، ولكن لكي أنحت عذابي وعذابات الآخرين في كلمات صنعتها حرفاً حرفاً. سألتني صديقتي، ونحن نرى الى جماهير الغاضبين ونسمع هتافاتهم النبيلة: ألا يؤّثر فيك هذا؟ ألا تريدين أن نخرج، ننضم اليهم ونهتف معهم هتاف الحرية والتغيير؟ أفردت أمامها ذراعيّ دليلاً على عجزي عن رغبتها واستكانتي الى طريقتي بالتعبير. الوضوح المخيف يبهرني، وهو نادر ولا أجده في الشعار المرفوع بل في الكتابة. ليس لي قلت لها- من آمال ورغبات إلإ ما يلزم لأملأ صفحات قليلة، بكلمات احتجاج أشّد فتكاً من أيّ صراخ.