التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    فلسطين.. مدفعية الاحتلال تكثف قصفها وسط جباليا بالتزامن مع نسف مباني سكنية شمالي غزة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    المستشار القانوني للزمالك يتحدث عن.. التظلم على سحب أرض أكتوبر.. وأنباء التحقيق مع إدارة النادي    بهدف رويز.. باريس سان جيرمان ينجو من فخ أنجيه في الدوري الفرنسي    مواعيد مباريات دوري المحترفين المصري اليوم السبت    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    ويجز يشعل حماس جمهور حفله في العلمين الجديدة بأغنيتي "الأيام" و"الدنيا إيه"    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    5 تصريحات جريئة ل محمد عطية: كشف تعرضه للضرب من حبيبة سابقة ويتمنى عقوبة «مؤلمة» للمتحرشين    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عادل عصمت يقتفي آثار "ناس وأماكن" ليروي تشتت الجماعة
نشر في صوت البلد يوم 28 - 10 - 2020

تشكل الكتابة عن المكان في كثير من الحالات حلقة وصل مهمة بين زمنين، يقدم الكاتب رؤيته لهما بكونه شاهداً على انعطافات وتحولات عايشها أو كان مشاركاً بها أو سمع عنها. ومثل هذا النوع من الكتابة تحتاجه المكتبة العربية، ليس فقط لأن التحولات السريعة اقتحمت أماكننا ودنيانا أسرع مما نتوقع، بل لأن هذه الكتابة تسعى في عمقها الفعلي إلى كشف وجهة نظر عن تأريخ تشتبك فيه أحداث السياسة وتغيرات المجتمع الريفي والمديني، كذلك الحديث عن انتهاء مراحل ربما لدى الأجيال القادمة حاجة لمعرفة شيء عنها، بعد أن كادت تلك الملامح تزول تماماً.
النص الذي يقدمه عادل عصمت في "ناس وأماكن" (دارالكتب خان– القاهرة 2020) ينتمي لهذا النوع من الكتابة. إنها وجهة نظر روائي يتأمل في أحوال بلدته التي تبدو جزءاً متشابهاً أو مصغراً عن الريف المصري في وجود تقاطعات مشتركة مع الريف عموماً شاهدناها في الأعمال الدرامية الجادة، وقرأنا عنها ضمن الأعمال الأدبية الكثيرة التي تناولت الريف المصري. بيد أن ما عمل عليه الكاتب في نصه هذا هو مقاربة وجهة نظره الدقيقة الراصدة لما يحدث في محيط صغير، وشبك تلك الرؤية بالكيان الأكبر لمصر ككل.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، "قرية منسية" هو عنوان الجزء الأول منه، المكان هو مدينة (طنطا) وضواحيها الريفية، والسؤال الذي يلف النص منذ البداية إلى النهاية يتلخص في فكرة "الانتماء"، التي تحضر في مواجهة الهوية الفردية. تشتت الحضور الجمعي مقابل بروز "الأنا" وحضورها وفرضها لذاتيتها. يحدث تقديم هذه الرؤية بسلاسة بالغة مع بيان الأسباب وكشف التغيرات الكثيرة، ومحاولات الثبات التي لا يمكنها أن ترمم الانشطارات التي ستحدث لاحقاً. في النتيجة عبارة "المكان بناسه" هي عبارة صحيحة جداً تنطبق على كل الأماكن، ولا يمكن للمكان الثابت الجامد أن يتغير بدوره من دون رصد ما فعله الأشخاص به، وما فعلوه بحياتهم. فالحارات التي تشعر فيها بالحياة الجماعية، ويشم الجيران رائحة طبيخ بعضهم، ويسمعون حوارات الأب وأبنائه، تلك الحياة المتلاصقة سواء في البيوت، أو في الحقول حيث العمل الجماعي للأفراد في الأرض، لم يعد لها وجود. هذا النموذج من الحياة الذي ساد في الريف حتى سنوات الخمسينيات لن يلبث أن يزول تدريجياً لتحل مكانه أساليب جديدة بدأت تعرف طريقها للقرى البعيدة. يسري هذا الكلام أيضاً على العلاقات الإنسانية على حد سواء، لنقرأ "في بداية السبعينيات، كان جيش من الشباب قد تم إفرازه من المدارس. شباب تعلموا في المدن وعادوا في الإجازات... علاقات الحب بين الشباب المتعلمين والبنات الريفيات اشتعلت وكانت تلك العلاقات مثيرة وخطرة ومختلفة عن علاقات الغيطان ذات السمة الواضحة. أثرت الجو الراكد للبلد، وخلقت موضوعات للحديث ومشاكل بين الناس... الأمر مختلف في علاقات الغيطان حيث الزمالة في الزرع والحصاد والري وتحميل المحاصيل تطبع العلاقة بين الجنسين بطابع العمل وثقافته".
الهجرة نحو المدينة
ليست العلاقة بين الشاب والفتاة هي التي تحولت هنا فقط، بل انحسار مرحلة الحياة الزراعية وتقلصها بحيث لم تعد تمثل الهوية الأساسية للبلدات الريفية. مثل هذا الرصد يمكن تطبيقه على سائر الريف المصري فيما حدث من تحول أهله عن الزراعة ونزوحهم نحو المدينة أو سفرهم للعمل خارجاً.
يختم الكاتب هذا الجزء بعنوان "شاخت الأرض"، وفي هذه المقالة يبدو كما لو أن ثمة مرحلة من حياة الريف المصري قد تلاشت ليحل مكانها واقع جديد. وتتبدى ملامحه أكثر مع القسم الثاني الذي حمل عنوان "أطياف المدينة"، حيث يتناول عادل عصمت في هذا الجزء سيرة أشخاص وأماكن وأحداث بارزة أيضاً، مثل مولد "السيد البدوي"، وما يرافقه من طقوس وتجليات وظهور لأشخاص لا يحضرون إلا في هذه المناسبة السنوية. يقول: إن "طقس زيارة المولد، هو إجراء للحماية، يدبره الناس لكي تستمر حياتهم. الرجال يمارسون ما لا يمارسونه في قراهم، وكذلك بعض النساء، والمولد هو ساحة الشباب للاكتشاف... يبدون للناظر من الخارج سذجاً لا يمكن فهم سلوكهم، لماذا يقطعون كل تلك المسافات ليأتوا كل عام إلى المولد؟".
لا تخلو النصوص من الحديث عن البعد الخفي والماورائي لمدينة طنطا المحروسة بصاحب المقام السيد البدوي، وعن قناعات أهلها بأن ثمة سراً غامضاً لروح المدينة، هذه التلميحات تحضر في أكثر من حكاية، ومع عدة شخصيات.
سيرة مكان
تمثل سيرة مقاهي المدينة في هذا القسم، محوراً مهماً أيضاً لفهم تحولات المكان، المقاهي هنا لكل منها هوية خاصة ومستقلة عن غيرها، مقهى "الأقصر" هو الوحيد الذي اشتمل على بار"، ويحكى عنه أن توفيق الحكيم كان من رواده عندما عمل نائباً في الأرياف. أما "القهوة المصرية" فهو مقهى له طابع شبابي ظل محافظاً عليه حتى مطلع الثمانينيات. في مقهى الأقصر تدور النقاشات السياسية الجادة، وفي "الليل أثناء الصيف يصبح المقهى شاعرياً"، مع الضوء الباهت وشجرة البونسيانا التي تتساقط ورداتها الحمراء على الشرفة. لكن نهاية هذا المقهى جاءت بشكل دراماتيكي حين هُدم في عز توهجه في نهاية الثمانينيات لصالح مستثمر شاب وبنى مكانه برجاً على الطراز الحديث. ولم يبق من المكان إلا أطلال حكايات يتداولها رواده القدامى، لن تلبث أن تتلاشى من الذاكرة. هناك أيضاً "القهوة التجارية"، التي جذبت رواد مقهى الأقصر، لكن الفرق بين رواد المكانين فرق كبير، يقول "المستقبل في ذهن شباب التجارية يضع فساد المجتمع في خلفية اللوحة ويركز على اكتشاف الثقوب التي تسمح بالحياة".
ليست المقاهي فقط التي يتوقف الكاتب أمام تحولاتها، بل الأحياء والشوارع، ودور السينما، وألوان الثياب وتسريحات الشعر، ثم ظهور محلات جديدة وأكشاك تصوير الورق، ومحلات البيتزا، وسايبر النت وغيرها من الأماكن التي تمددت في المدينة وشغلت مناطق كانت مهجورة في وقت ما. كل هذا انعكس على حياة البشر ويومياتهم، على الطلاب وسنوات الدراسة الجامعية التي من الممكن أن تنتهي بالحياة التقليدية أو بالمناصب العليا، أو بالموت بسبب جرعة مخدرات زائدة، أو برغبة الشباب بالفرار في قوارب الموت نحو "أماكن بعيدة"، فينتهي مصيرهم بأن يكونوا غرقى وضحايا يقذف البحر أشلاءهم إلى اليابسة، فيما يظلون أحياء في مخيلة ذويهم، تقام حولهم أوهام لا حصر لها، بأنهم يعيشون عيشة هنية في تلك البلاد البعيدة.
لعل المتابع لأعمال عادل عصمت الروائية مثل "حكايات يوسف تادروس" و"الوصايا" وغيرها من الأعمال الروائية يلاحظ كيف أن هذا الكاتب يمضي بخطوات ثابتة ورصينة في مشروعه الإبداعي وضعته ضمن أبرز الأسماء على الساحة الأدبية في مصر. كما أن هذا النص لا ينفصل أيضاً عن طريقة كتابته الروائية التي تمتاز بالتماسك وعمق الرؤية أسلوباً ومضموناً، دون نبرات عالية في عرض أفكاره، حيث يميل لاختيار الأفعال والمفردات التي تصل إلى جوهر الفكرة بعيداً عن الاستطرادات اللغوية التي تثقل النص وتشعّبه أكثر مما تؤدي به إلى غايته.
تشكل الكتابة عن المكان في كثير من الحالات حلقة وصل مهمة بين زمنين، يقدم الكاتب رؤيته لهما بكونه شاهداً على انعطافات وتحولات عايشها أو كان مشاركاً بها أو سمع عنها. ومثل هذا النوع من الكتابة تحتاجه المكتبة العربية، ليس فقط لأن التحولات السريعة اقتحمت أماكننا ودنيانا أسرع مما نتوقع، بل لأن هذه الكتابة تسعى في عمقها الفعلي إلى كشف وجهة نظر عن تأريخ تشتبك فيه أحداث السياسة وتغيرات المجتمع الريفي والمديني، كذلك الحديث عن انتهاء مراحل ربما لدى الأجيال القادمة حاجة لمعرفة شيء عنها، بعد أن كادت تلك الملامح تزول تماماً.
النص الذي يقدمه عادل عصمت في "ناس وأماكن" (دارالكتب خان– القاهرة 2020) ينتمي لهذا النوع من الكتابة. إنها وجهة نظر روائي يتأمل في أحوال بلدته التي تبدو جزءاً متشابهاً أو مصغراً عن الريف المصري في وجود تقاطعات مشتركة مع الريف عموماً شاهدناها في الأعمال الدرامية الجادة، وقرأنا عنها ضمن الأعمال الأدبية الكثيرة التي تناولت الريف المصري. بيد أن ما عمل عليه الكاتب في نصه هذا هو مقاربة وجهة نظره الدقيقة الراصدة لما يحدث في محيط صغير، وشبك تلك الرؤية بالكيان الأكبر لمصر ككل.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، "قرية منسية" هو عنوان الجزء الأول منه، المكان هو مدينة (طنطا) وضواحيها الريفية، والسؤال الذي يلف النص منذ البداية إلى النهاية يتلخص في فكرة "الانتماء"، التي تحضر في مواجهة الهوية الفردية. تشتت الحضور الجمعي مقابل بروز "الأنا" وحضورها وفرضها لذاتيتها. يحدث تقديم هذه الرؤية بسلاسة بالغة مع بيان الأسباب وكشف التغيرات الكثيرة، ومحاولات الثبات التي لا يمكنها أن ترمم الانشطارات التي ستحدث لاحقاً. في النتيجة عبارة "المكان بناسه" هي عبارة صحيحة جداً تنطبق على كل الأماكن، ولا يمكن للمكان الثابت الجامد أن يتغير بدوره من دون رصد ما فعله الأشخاص به، وما فعلوه بحياتهم. فالحارات التي تشعر فيها بالحياة الجماعية، ويشم الجيران رائحة طبيخ بعضهم، ويسمعون حوارات الأب وأبنائه، تلك الحياة المتلاصقة سواء في البيوت، أو في الحقول حيث العمل الجماعي للأفراد في الأرض، لم يعد لها وجود. هذا النموذج من الحياة الذي ساد في الريف حتى سنوات الخمسينيات لن يلبث أن يزول تدريجياً لتحل مكانه أساليب جديدة بدأت تعرف طريقها للقرى البعيدة. يسري هذا الكلام أيضاً على العلاقات الإنسانية على حد سواء، لنقرأ "في بداية السبعينيات، كان جيش من الشباب قد تم إفرازه من المدارس. شباب تعلموا في المدن وعادوا في الإجازات... علاقات الحب بين الشباب المتعلمين والبنات الريفيات اشتعلت وكانت تلك العلاقات مثيرة وخطرة ومختلفة عن علاقات الغيطان ذات السمة الواضحة. أثرت الجو الراكد للبلد، وخلقت موضوعات للحديث ومشاكل بين الناس... الأمر مختلف في علاقات الغيطان حيث الزمالة في الزرع والحصاد والري وتحميل المحاصيل تطبع العلاقة بين الجنسين بطابع العمل وثقافته".
الهجرة نحو المدينة
ليست العلاقة بين الشاب والفتاة هي التي تحولت هنا فقط، بل انحسار مرحلة الحياة الزراعية وتقلصها بحيث لم تعد تمثل الهوية الأساسية للبلدات الريفية. مثل هذا الرصد يمكن تطبيقه على سائر الريف المصري فيما حدث من تحول أهله عن الزراعة ونزوحهم نحو المدينة أو سفرهم للعمل خارجاً.
يختم الكاتب هذا الجزء بعنوان "شاخت الأرض"، وفي هذه المقالة يبدو كما لو أن ثمة مرحلة من حياة الريف المصري قد تلاشت ليحل مكانها واقع جديد. وتتبدى ملامحه أكثر مع القسم الثاني الذي حمل عنوان "أطياف المدينة"، حيث يتناول عادل عصمت في هذا الجزء سيرة أشخاص وأماكن وأحداث بارزة أيضاً، مثل مولد "السيد البدوي"، وما يرافقه من طقوس وتجليات وظهور لأشخاص لا يحضرون إلا في هذه المناسبة السنوية. يقول: إن "طقس زيارة المولد، هو إجراء للحماية، يدبره الناس لكي تستمر حياتهم. الرجال يمارسون ما لا يمارسونه في قراهم، وكذلك بعض النساء، والمولد هو ساحة الشباب للاكتشاف... يبدون للناظر من الخارج سذجاً لا يمكن فهم سلوكهم، لماذا يقطعون كل تلك المسافات ليأتوا كل عام إلى المولد؟".
لا تخلو النصوص من الحديث عن البعد الخفي والماورائي لمدينة طنطا المحروسة بصاحب المقام السيد البدوي، وعن قناعات أهلها بأن ثمة سراً غامضاً لروح المدينة، هذه التلميحات تحضر في أكثر من حكاية، ومع عدة شخصيات.
سيرة مكان
تمثل سيرة مقاهي المدينة في هذا القسم، محوراً مهماً أيضاً لفهم تحولات المكان، المقاهي هنا لكل منها هوية خاصة ومستقلة عن غيرها، مقهى "الأقصر" هو الوحيد الذي اشتمل على بار"، ويحكى عنه أن توفيق الحكيم كان من رواده عندما عمل نائباً في الأرياف. أما "القهوة المصرية" فهو مقهى له طابع شبابي ظل محافظاً عليه حتى مطلع الثمانينيات. في مقهى الأقصر تدور النقاشات السياسية الجادة، وفي "الليل أثناء الصيف يصبح المقهى شاعرياً"، مع الضوء الباهت وشجرة البونسيانا التي تتساقط ورداتها الحمراء على الشرفة. لكن نهاية هذا المقهى جاءت بشكل دراماتيكي حين هُدم في عز توهجه في نهاية الثمانينيات لصالح مستثمر شاب وبنى مكانه برجاً على الطراز الحديث. ولم يبق من المكان إلا أطلال حكايات يتداولها رواده القدامى، لن تلبث أن تتلاشى من الذاكرة. هناك أيضاً "القهوة التجارية"، التي جذبت رواد مقهى الأقصر، لكن الفرق بين رواد المكانين فرق كبير، يقول "المستقبل في ذهن شباب التجارية يضع فساد المجتمع في خلفية اللوحة ويركز على اكتشاف الثقوب التي تسمح بالحياة".
ليست المقاهي فقط التي يتوقف الكاتب أمام تحولاتها، بل الأحياء والشوارع، ودور السينما، وألوان الثياب وتسريحات الشعر، ثم ظهور محلات جديدة وأكشاك تصوير الورق، ومحلات البيتزا، وسايبر النت وغيرها من الأماكن التي تمددت في المدينة وشغلت مناطق كانت مهجورة في وقت ما. كل هذا انعكس على حياة البشر ويومياتهم، على الطلاب وسنوات الدراسة الجامعية التي من الممكن أن تنتهي بالحياة التقليدية أو بالمناصب العليا، أو بالموت بسبب جرعة مخدرات زائدة، أو برغبة الشباب بالفرار في قوارب الموت نحو "أماكن بعيدة"، فينتهي مصيرهم بأن يكونوا غرقى وضحايا يقذف البحر أشلاءهم إلى اليابسة، فيما يظلون أحياء في مخيلة ذويهم، تقام حولهم أوهام لا حصر لها، بأنهم يعيشون عيشة هنية في تلك البلاد البعيدة.
لعل المتابع لأعمال عادل عصمت الروائية مثل "حكايات يوسف تادروس" و"الوصايا" وغيرها من الأعمال الروائية يلاحظ كيف أن هذا الكاتب يمضي بخطوات ثابتة ورصينة في مشروعه الإبداعي وضعته ضمن أبرز الأسماء على الساحة الأدبية في مصر. كما أن هذا النص لا ينفصل أيضاً عن طريقة كتابته الروائية التي تمتاز بالتماسك وعمق الرؤية أسلوباً ومضموناً، دون نبرات عالية في عرض أفكاره، حيث يميل لاختيار الأفعال والمفردات التي تصل إلى جوهر الفكرة بعيداً عن الاستطرادات اللغوية التي تثقل النص وتشعّبه أكثر مما تؤدي به إلى غايته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.