الجامعة الألمانية بالقاهرة تكرم أوائل الثانوية العامة وتقدم 64 منحة دراسية كاملة    15 ونشًا جديدًا تعزز كفاءة «هاتشيسون»    مصر تدرس حظر استيراد السيارات الكهربائية الصينية – ما القصة ؟    مشاهد غزة تعيد للأذهان مجاعات إفريقيا    إخوان.. وصهاينة!!    جوردون مايفورث مديرا فنيا ل«رجال طائرة الأهلي»    ادعت أنها ابنة مبارك.. الداخلية تضبط «بلوجر» شهّرت بالفنانة وفاء عامر    «النيل» للمعى ودرويش وزايد.. و«التقديرية» للشهاوى والمعدول وعبد اللطيف    فوز حلمي عبدالباقي ونادية مصطفى بانتخابات التجديد النصفي لنقابة الموسيقيين    أمين الفتوى: الشبكة ليست هدية بل جزء من المهر يرد في هذه الحالة    طب قصر العيني تكرم الدكتور حسام موافي بعد حصوله على جائزة الرواد    محافظ الغربية يعتمد نتيجة مسابقة الوظائف الإشرافية.. وتأهل 1222 معلمًا    بعد أزمته مع نجم كبير.. تامر حسني يعلن تصدره تطبيق "أنغامي"    قبل رمضان صبحي.. قصة اتهام مصطفى محمد بتزوير الامتحانات أثناء وجوده مع منتخب مصر    ما حدود تدخل الأهل في اختيار شريك الحياة؟.. أمين الفتوى يجيب    التريند الحقيقي.. تحفيظ القرآن الكريم للطلاب بالمجان في كفر الشيخ (فيديو وصور)    بنتايج يواصل تدريباته التأهيلية في مران الزمالك    النائب إيهاب منصور يتقدم بسؤال عاجل للحكومة بشأن الانقطاع المتكرر للكهرباء والمياه في الجيزة    وزير الثقافة: احتفالية كبرى بدار الأوبرا لتكريم الفائزين بجوائز الدولة    الداخلية تكشف ملابسات فيديو مشاجرة المطرية في القاهرة    خالد الجندي: الذكاء الاصطناعي لا يصلح لإصدار الفتاوى ويفتقر لتقييم المواقف    إكسترا نيوز ترصد تفاصيل وصول مساعدات مصرية إلى غزة ضمن قافلة "زاد العزة"    مدرب سلة الأهلى الجديد يصل القاهرة بعد أسبوعين    بدء أوكازيون تخفيض أسعار السلع 4 أغسطس المقبل    ضخ المياه بعد انتهاء إصلاح كسر خط رئيسى فى المنصورة    تأجيل محاكمة المتهم بإنهاء حياة شاب بمقابر الزرزمون بالشرقية    الخارجية الفلسطينية: الضم التدريجي لقطاع غزة مقدمة لتهجير شعبنا    38 قتيلا حصيلة ضحايا الأمطار الغزيرة والفيضانات العارمة فى الصين    ترامب: نعمل مع إسرائيل لمحاولة "تصحيح الأمور" في غزة    وزير العمل ومحافظ الإسكندرية يفتتحان ندوة للتوعية بمواد قانون العمل الجديد    إم جي تطلق سيارتها IM5 سيدان الكهربائية رسميًا في الأسواق.. صور وتفاصيل    سفيرة الاتحاد الأوروبى: مصر ركيزة الاستقرار الإقليمى وندعم جهودها لوقف حرب غزة    خاص.. الزمالك يفتح الباب أمام رحيل حارسه لنادي بيراميدز    "3 فرق يشاركون في دوري الأبطال".. خالد الغندور يزف خبرا سارا    "ياعم حرام عليك".. تعليق ناري من شوبير على زيارة صلاح للمعبد البوذي    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية - تفاصيل المناقشات    النقابات العمالية تدشن لجنة الانتقال العادل لمواجهة التحول الرقمي    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    الأردن: الكارثة في غزة وصلت لوضع لا يمكن وصفه    ماء المخلل.. هل هو مفيد؟    الأمراض المتوطنة.. مذكرة تفاهم بين معهد تيودور بلهارس وجامعة ووهان الصينية    بالأرقام.. رئيس هيئة الإسعاف يكشف تفاصيل نقل الأطفال المبتسرين منذ بداية 2025    تحرير (144) مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    جامعة مصر للمعلوماتية تتعاون مع شركة اديبون لتدريب طلبة الهندسة بإسبانيا    المياه أغرقت الشوارع.. كسر في خط مياه رئيسي بالدقهلية    الطب البيطري بسوهاج يتفقد مجزر البلينا للتأكد من سلامة وجودة اللحوم المذبوحة    بالصور.. اندلاع حريق بمخلفات الأشجار على طريق البراجيل    مقتل وإصابة خمسة أشخاص في إطلاق نار بولاية نيفادا الأمريكية    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى نحو مليون و51 ألفا و300 فرد منذ بداية الحرب    بمشاركة وزير السياحة.. البابا تواضروس يفتتح معرض لوجوس للمؤسسات الخدمية والثقافية    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    ريال مدريد يعلن انتقال لاعبه إلى خيتافي    المصري يدرس تجميد محمود جاد    بالفيديو.. الأرصاد تكشف موعد انكسار موجة الطقس الحارة    انطلاق تصوير فيلم «ريد فلاج» بطولة أحمد حاتم    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    5 أبراج «معاهم مفاتيح النجاح».. موهوبون تُفتح لهم الأبواب ويصعدون بثبات نحو القمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دوستويفسكي ينطلق روائيًّا عبر "الفقراء" لتسديد ديونه
نشر في صوت البلد يوم 22 - 09 - 2020

تقول الحكاية، ودائماً لدى الحكايات ما تقوله حتى من دون أن يكون ما تقوله دقيقاً، أن الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي لم يكن يريد من ناحية مبدئية أن يحترف كتابة الرواية. لكنه ذات يوم إذ وجد نفسه مثقلاً بديون لا يعرف من سبيل لسدادها، وجد أمامه فرصة سانحة لكسب بعض ما يحتاجه من مال عن طريق نشر رواية مسلسلة، وكانت الروايات المسلسلة على الطرقتين الإنجليزية (ديكنز...) والفرنسية (فيكتور هوغو....)، رائجة يتخاطف القراء الصحف التي تنشر حلقاتها، قرر أن أسرع طريقة لتحقيق بعض الربح تكمن في كتابة رواية. وهكذا كتب روايته الأولى "الفقراء" وهو لا يكف عن إبداء الامتعاض. ولئن كان دوستويفسكي قد أعلن في ذلك الحين "أننا جميعاً إنما خرجنا من معطف غوغول" وأبدى اعتقاده بأبوية بوشكين للأدب الروسي الحديث، فإنه "لغيظه" لم يتوانَ عن توجيه سهام نقده داخل نص هذه الرواية للاثنين معاً. ومع ذلك يقول النقاد ومؤرخو الأدب عادة أن رواية "الفقراء" تدين بالكثير لهذين الرائدين الكبيرين مبدين دهشتهم لموقف الكاتب الشاب منهما.
مهما يكن، ستشكل تلك الرواية التي أنجزها دوستويفسكي بين عامي 1844 و1845 لتنشر للمرة الأولى في دورية "مجموعة سانت بطرسبرغ" التي كان يصدرها نيكراسوف، نقطة الإنطلاق التي سيغزو الكاتب من خلالها عالم الأدب ويصبح منذ ذلك الحين وبالتدريج، واحداً من كبار الروائيين الروس بل واحداً من كبار روائيي العالم في زمنه وفي الأزمان كافة. صحيح أن قراءة "الفقراء" لا تعد كثيراً بذلك، لكنها ستمهد لولادة ذلك الكاتب الاستثنائيّ.
يا لهؤلاء القصاصين!
ولعل الطريف هو أن الكاتب يفتتح روايته بفقرة ينسبها إلى الأمير أودويفسكي ستبدو في الإطار هنا لافتة بل حتى واضحة في استفزازيتها. يقول الأمير: "يا لهؤلاء الكتاب القصاصين. إنهم بدلاً من أن يقصّوا علينا شيئاً نافعاً ممتعاً، مريحاً، يهتكون جميع أسرار الحياة على الأرض ويزيحون الحجب عن جميع مبائس الوجود! ولو كان الأمر لي لنهيتهم عن الكتابة! فكروا في النتالئج التي يؤدي إليها هذا: إن المرء يقرأ ما يكتبون، فإذا هو على غير إرادة منه يأخذ يتأمل... وإذا بجميع الأفكار العجيبة المستحيلة تغزو رأسه. حقاً لو كان الأمر لي لنهيتهم عن الكتابة، أو لمنعتهم من نشر ما يكتبون!". ترى هل ما ينقله دوستويفسكي هنا وعيد أو فعل إيمان؟ هل تراه يتبنى القول أم أنه يضع الحقائق صريحة أمام قارئه ويتركه لمصيره؟ في الأحوال كافة سيبدو غريباً هنا على أية حال أن يكون كاتبنا قد انطلق في مشروع روائي طويل عريض بمثل هذا القول. لكن ما يبرره هو أن ما فيه ينطبق مسبقاً على كل ما سوف يقوله دوستويفسكي ليس في تلك الرواية الأولى فحسب، بل في مجمل نتاجه الروائي الذي سوف يربو عما لا يقل عن دزينتين من أعمال كبيرة شامخة. حتى وإن كان من يقرأ "الفقراء" لن يمكنه أبداً أن يتصور روعة ما سيليها بدءاً من تاليتها "القرين"، مروراً بأعمال مثل "الجريمة والعقاب" و"الليالي البيضاء" و"الأبله" و"المراهق" وصولاً طبعا إلى "الإخوة كارامازوف".
بيد أن الناقد الروسي الكبير بيلنسكي لم يكن من رأينا فهو إذ كان من أول الذين قرأوا "الفقراء" عام صدورها صرخ إعجاباً بكاتبها وبأدبه الكبير، حتى قبل أن يعرف أنه لا يزال شاباً في السادسة والعشرين. وهو كان من أوائل الذين رأوا تماثلاً بين أكاكي أكاكيفتش بطل "المعطف" لغوغول، وماكار ديفوشكين بطل "الفقراء". فالإثنان ينطلقان من التمسك ب"مثل أعلى" واحد: ففي مقابل معطف أكاكيفتش هناك الحب والرحمة لدى ديفوشكين يحركان حياته ويمليان عليه تصرفاته.
لكن قد يكون المفيد هنا أن نتوقف عند هذه الشخصية التي كانت من أوائل تلك الشخصيات الرائعة والعميقة التي ابتكرها دوستويفسكي، من دون أن يفوتنا أن نذكر أنها سوف تكون لاحقاً الأساس الذي سيبني عليه الكاتب تلك الشخصية الرائعة التي سيكونها الأمير ميشكين بطل "الأبله".
"المعطف" كتاب المهانة!
يُقدَّم ماكار ديفوشكين إلينا منذ البداية من خلال رسائل يتبادلها مع قريبته الصبية باربارا التي تعيش الآن في سانت بطرسبرغ بعدما تركت ريفهما المشترك الذي لا تحبه كثيراً. ولئن كانت الرسائل في البداية لا تنم عن أكثر من قرابة، بعيدة بعض الشيء، وصداقة تزدهر مع مرور الوقت وتبادل الرسائل، فإنها سوف تكشف لاحقاً عن حكاية حب تقوم بين الاثنين من دون أن يجرؤ أيّ منهما على الاعتراف بها. بخاصة ديفوشكين الذي يشعر دائماً أن ليس لديه الكثير يقدّمه إلى الصبية فيفضل لها وإن ضمنياً، أن ترتبط بمن هو أفضل منه. وهي من ناحيتها إذا كانت تبدي في رسائلها التي غالباً ما تكون جوابية، الكثير من التحفظ حياله، فإنها ستحس بالتدريج أنه بات يشكل جزءاً من حياتها ليس من السهل الاستغناء عنه. غير أن التعبير عن تنامي العلاقة بينهما سوف يتخذ شكل تبادل هدايا صغيرة خلال زيارات قليلة بينهما إذ إنهما يعيشان في حيّ واحد. وغالباً ما تكون الهدايا كتباً. وسيحدث ذات مرة أن يشعر دوفشكين بشيء من المهانة حين تهديه نسخة من "المعطف". لماذا؟ بكل بساطة لأن قراءته رواية غوغول ستنبهه إلى كم أن وضعه يشبه وضع بطل الرواية أكاكي أكاكيفيتش، ويتساءل عما إذا كان مقصوداً من ناحيتها أن تذكّره بوضعه من خلال الرواية؟
بؤس الرسالة الأخيرة
لكن العلاقة عبر الرسائل بينهما سوف تتتابع حتى وإن كانت باربارا ستخبره ذات لحظة أنها ستنتقل إلى حي آخر من المدينة حيث لديها حظوظ بأن تعمل مربية، يشعر ديفوشكين أن ثمة غدراً به في ذلك الانتقال بخاصة أن وضعه المالي لا يسمح له بأن يقدم لها أية مساعدة تردعها عن قرارها. لكن فجأة يشفق رئيسه في العمل لحاله ويعطيه مئة روبل تجعله ثرياً بعض الشيء، فيسارع من فوره الى إرسال جزء من المبلغ إلى فاتنته التي سرعان ما ترد له جزءاً كبيراً مما أرسل معلنة أنها في الحقيقة ليست في حاجة إلى ذلك المال. وتكون النتيجة أن يشعر صاحبنا بضربة خنجر جديدة حتى وإن كان الوقت لا يزال أبكر من أن يجعله يتساءل عما إذا كان ذلك التصرف إيذاناً بنهاية "العلاقة" بينهما. في المقابل كانت هي تملك جواباً لو أنه سألها، وسوف يكون عملياً. فهو يرسل إليها في نهاية الأمر رسائل لا تجيب عنها إذ هي منهمكة، كما تخبره، في تجهيز نفسها ل... الزواج الذي كانت تحدّثه قبلاً عن المشتريات المتعلقة به وكأنها تحدّث صديقة حميمة عن شؤون سعادتها! فيكتب لها في نهاية الرسالة الأخيرة: "أواه يا يمامتي، أودعك الله أودعك... ناشدتك الله، أجيبي عن رسالتي هذه، أجيبي بأي شيء ولكن لا تدعيني أنتظر طويلاً". وباربارا ستجيب عن هذه الرسالة بالطبع ولكن لتقول له: "تحققت مشيئة الأقدار. تقرر مصيري. أنا أجهل ما سيكون هذا المصير... ولكنني أذعن لإرادة الرب. سنسافر غداً. أودعك الآن آخر مرة يا صديقي العزيز، يا من أحسنت اليّ وكنت بمثابة الأب! لا يؤلمنك سفري... عشْ سعيداً. تذكرني...".
باختصار تقول باربارا في الرسالة الأخيرة هذه أن كل شيء بينهما قد انتهى حتى وإن كانت تعرف أنه لم يكن ثمة في الحقيقة شيء بينهما. أما ديفوشكين فيقول لها في رسالته الأخيرة التي من المؤكد أنها لن تصل أبداً إلى باربارا إنه يحبها – وهو ما لم يكن قد قاله أبداً بمثل هذا الوضوح من قبل – وأنه سيموت حين يتركها.
هكذا تنتهي تلك الرواية الأولى التي كتبها دوستويفسكي. رواية قد لا يكون من الصعب أن نرى فيها إرهاصات بنائه المحكم للشخصيات ولخيبة العلاقات ضمن شرط إنساني سيتطور لديه من رواية إلى أخرى، هو الذي لم يكن يريد أن يخوض المغامرة الروائية أصلاً!
تقول الحكاية، ودائماً لدى الحكايات ما تقوله حتى من دون أن يكون ما تقوله دقيقاً، أن الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي لم يكن يريد من ناحية مبدئية أن يحترف كتابة الرواية. لكنه ذات يوم إذ وجد نفسه مثقلاً بديون لا يعرف من سبيل لسدادها، وجد أمامه فرصة سانحة لكسب بعض ما يحتاجه من مال عن طريق نشر رواية مسلسلة، وكانت الروايات المسلسلة على الطرقتين الإنجليزية (ديكنز...) والفرنسية (فيكتور هوغو....)، رائجة يتخاطف القراء الصحف التي تنشر حلقاتها، قرر أن أسرع طريقة لتحقيق بعض الربح تكمن في كتابة رواية. وهكذا كتب روايته الأولى "الفقراء" وهو لا يكف عن إبداء الامتعاض. ولئن كان دوستويفسكي قد أعلن في ذلك الحين "أننا جميعاً إنما خرجنا من معطف غوغول" وأبدى اعتقاده بأبوية بوشكين للأدب الروسي الحديث، فإنه "لغيظه" لم يتوانَ عن توجيه سهام نقده داخل نص هذه الرواية للاثنين معاً. ومع ذلك يقول النقاد ومؤرخو الأدب عادة أن رواية "الفقراء" تدين بالكثير لهذين الرائدين الكبيرين مبدين دهشتهم لموقف الكاتب الشاب منهما.
مهما يكن، ستشكل تلك الرواية التي أنجزها دوستويفسكي بين عامي 1844 و1845 لتنشر للمرة الأولى في دورية "مجموعة سانت بطرسبرغ" التي كان يصدرها نيكراسوف، نقطة الإنطلاق التي سيغزو الكاتب من خلالها عالم الأدب ويصبح منذ ذلك الحين وبالتدريج، واحداً من كبار الروائيين الروس بل واحداً من كبار روائيي العالم في زمنه وفي الأزمان كافة. صحيح أن قراءة "الفقراء" لا تعد كثيراً بذلك، لكنها ستمهد لولادة ذلك الكاتب الاستثنائيّ.
يا لهؤلاء القصاصين!
ولعل الطريف هو أن الكاتب يفتتح روايته بفقرة ينسبها إلى الأمير أودويفسكي ستبدو في الإطار هنا لافتة بل حتى واضحة في استفزازيتها. يقول الأمير: "يا لهؤلاء الكتاب القصاصين. إنهم بدلاً من أن يقصّوا علينا شيئاً نافعاً ممتعاً، مريحاً، يهتكون جميع أسرار الحياة على الأرض ويزيحون الحجب عن جميع مبائس الوجود! ولو كان الأمر لي لنهيتهم عن الكتابة! فكروا في النتالئج التي يؤدي إليها هذا: إن المرء يقرأ ما يكتبون، فإذا هو على غير إرادة منه يأخذ يتأمل... وإذا بجميع الأفكار العجيبة المستحيلة تغزو رأسه. حقاً لو كان الأمر لي لنهيتهم عن الكتابة، أو لمنعتهم من نشر ما يكتبون!". ترى هل ما ينقله دوستويفسكي هنا وعيد أو فعل إيمان؟ هل تراه يتبنى القول أم أنه يضع الحقائق صريحة أمام قارئه ويتركه لمصيره؟ في الأحوال كافة سيبدو غريباً هنا على أية حال أن يكون كاتبنا قد انطلق في مشروع روائي طويل عريض بمثل هذا القول. لكن ما يبرره هو أن ما فيه ينطبق مسبقاً على كل ما سوف يقوله دوستويفسكي ليس في تلك الرواية الأولى فحسب، بل في مجمل نتاجه الروائي الذي سوف يربو عما لا يقل عن دزينتين من أعمال كبيرة شامخة. حتى وإن كان من يقرأ "الفقراء" لن يمكنه أبداً أن يتصور روعة ما سيليها بدءاً من تاليتها "القرين"، مروراً بأعمال مثل "الجريمة والعقاب" و"الليالي البيضاء" و"الأبله" و"المراهق" وصولاً طبعا إلى "الإخوة كارامازوف".
بيد أن الناقد الروسي الكبير بيلنسكي لم يكن من رأينا فهو إذ كان من أول الذين قرأوا "الفقراء" عام صدورها صرخ إعجاباً بكاتبها وبأدبه الكبير، حتى قبل أن يعرف أنه لا يزال شاباً في السادسة والعشرين. وهو كان من أوائل الذين رأوا تماثلاً بين أكاكي أكاكيفتش بطل "المعطف" لغوغول، وماكار ديفوشكين بطل "الفقراء". فالإثنان ينطلقان من التمسك ب"مثل أعلى" واحد: ففي مقابل معطف أكاكيفتش هناك الحب والرحمة لدى ديفوشكين يحركان حياته ويمليان عليه تصرفاته.
لكن قد يكون المفيد هنا أن نتوقف عند هذه الشخصية التي كانت من أوائل تلك الشخصيات الرائعة والعميقة التي ابتكرها دوستويفسكي، من دون أن يفوتنا أن نذكر أنها سوف تكون لاحقاً الأساس الذي سيبني عليه الكاتب تلك الشخصية الرائعة التي سيكونها الأمير ميشكين بطل "الأبله".
"المعطف" كتاب المهانة!
يُقدَّم ماكار ديفوشكين إلينا منذ البداية من خلال رسائل يتبادلها مع قريبته الصبية باربارا التي تعيش الآن في سانت بطرسبرغ بعدما تركت ريفهما المشترك الذي لا تحبه كثيراً. ولئن كانت الرسائل في البداية لا تنم عن أكثر من قرابة، بعيدة بعض الشيء، وصداقة تزدهر مع مرور الوقت وتبادل الرسائل، فإنها سوف تكشف لاحقاً عن حكاية حب تقوم بين الاثنين من دون أن يجرؤ أيّ منهما على الاعتراف بها. بخاصة ديفوشكين الذي يشعر دائماً أن ليس لديه الكثير يقدّمه إلى الصبية فيفضل لها وإن ضمنياً، أن ترتبط بمن هو أفضل منه. وهي من ناحيتها إذا كانت تبدي في رسائلها التي غالباً ما تكون جوابية، الكثير من التحفظ حياله، فإنها ستحس بالتدريج أنه بات يشكل جزءاً من حياتها ليس من السهل الاستغناء عنه. غير أن التعبير عن تنامي العلاقة بينهما سوف يتخذ شكل تبادل هدايا صغيرة خلال زيارات قليلة بينهما إذ إنهما يعيشان في حيّ واحد. وغالباً ما تكون الهدايا كتباً. وسيحدث ذات مرة أن يشعر دوفشكين بشيء من المهانة حين تهديه نسخة من "المعطف". لماذا؟ بكل بساطة لأن قراءته رواية غوغول ستنبهه إلى كم أن وضعه يشبه وضع بطل الرواية أكاكي أكاكيفيتش، ويتساءل عما إذا كان مقصوداً من ناحيتها أن تذكّره بوضعه من خلال الرواية؟
بؤس الرسالة الأخيرة
لكن العلاقة عبر الرسائل بينهما سوف تتتابع حتى وإن كانت باربارا ستخبره ذات لحظة أنها ستنتقل إلى حي آخر من المدينة حيث لديها حظوظ بأن تعمل مربية، يشعر ديفوشكين أن ثمة غدراً به في ذلك الانتقال بخاصة أن وضعه المالي لا يسمح له بأن يقدم لها أية مساعدة تردعها عن قرارها. لكن فجأة يشفق رئيسه في العمل لحاله ويعطيه مئة روبل تجعله ثرياً بعض الشيء، فيسارع من فوره الى إرسال جزء من المبلغ إلى فاتنته التي سرعان ما ترد له جزءاً كبيراً مما أرسل معلنة أنها في الحقيقة ليست في حاجة إلى ذلك المال. وتكون النتيجة أن يشعر صاحبنا بضربة خنجر جديدة حتى وإن كان الوقت لا يزال أبكر من أن يجعله يتساءل عما إذا كان ذلك التصرف إيذاناً بنهاية "العلاقة" بينهما. في المقابل كانت هي تملك جواباً لو أنه سألها، وسوف يكون عملياً. فهو يرسل إليها في نهاية الأمر رسائل لا تجيب عنها إذ هي منهمكة، كما تخبره، في تجهيز نفسها ل... الزواج الذي كانت تحدّثه قبلاً عن المشتريات المتعلقة به وكأنها تحدّث صديقة حميمة عن شؤون سعادتها! فيكتب لها في نهاية الرسالة الأخيرة: "أواه يا يمامتي، أودعك الله أودعك... ناشدتك الله، أجيبي عن رسالتي هذه، أجيبي بأي شيء ولكن لا تدعيني أنتظر طويلاً". وباربارا ستجيب عن هذه الرسالة بالطبع ولكن لتقول له: "تحققت مشيئة الأقدار. تقرر مصيري. أنا أجهل ما سيكون هذا المصير... ولكنني أذعن لإرادة الرب. سنسافر غداً. أودعك الآن آخر مرة يا صديقي العزيز، يا من أحسنت اليّ وكنت بمثابة الأب! لا يؤلمنك سفري... عشْ سعيداً. تذكرني...".
باختصار تقول باربارا في الرسالة الأخيرة هذه أن كل شيء بينهما قد انتهى حتى وإن كانت تعرف أنه لم يكن ثمة في الحقيقة شيء بينهما. أما ديفوشكين فيقول لها في رسالته الأخيرة التي من المؤكد أنها لن تصل أبداً إلى باربارا إنه يحبها – وهو ما لم يكن قد قاله أبداً بمثل هذا الوضوح من قبل – وأنه سيموت حين يتركها.
هكذا تنتهي تلك الرواية الأولى التي كتبها دوستويفسكي. رواية قد لا يكون من الصعب أن نرى فيها إرهاصات بنائه المحكم للشخصيات ولخيبة العلاقات ضمن شرط إنساني سيتطور لديه من رواية إلى أخرى، هو الذي لم يكن يريد أن يخوض المغامرة الروائية أصلاً!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.