القافلة الدعوية بالدقهلية تعقد ندوة عن تجفيف منابع الغُرم (صور)    «التعليم العالي»: بدء قبول طلاب الشهادات المعادلة بمكتب التنسيق غدًا    انتهاء المرحلة الأولى من الموجة 27 في الدقهلية بتنفيذ 533 إزالة (صور)    رفض تهجير الفلسطينيين يتصدر رسائل السيسي لقادة السعودية وقطر وفرنسا واليونان    ضباط بجيش الاحتلال: ندفع ثمنًا باهظا في غزة    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المغربي تطورات القضايا الإقليمية    من واشنطن إلى آسيا| تداعيات الرسوم الأمريكية على الاستثمار العالمي    غيابات بالجملة تضرب الأهلي قبل مواجهة غزل المحلة    مرموش: اللعب بجوار هالاند يدفعني للتطور    ناجي حكما لمباراة السنغال وأوغندا في ربع نهائي أمم افريقيا للمحليين    كرة طائرة - منتخب الشباب يحقق الفوز الثاني على حساب تايلاند في بطولة العالم    مؤتمر إيدي هاو: موقف إيزاك خاسر للجميع.. ومن المؤسف أننا في هذا الوضع    حملات مكثفة.. ضبط 162 سائقًا بسبب تعاطي المخدرات أثناء القيادة    شواطئ الإسكندرية كاملة العدد، ورفع الرايات الحمراء بالقطاع الغربي (صور)    ضبط سائق نقل ذكي بتهمة سرقة لاب توب من راكب بقصر النيل    بالأرقام.. الأمن الاقتصادي يضبط آلاف القضايا خلال 24 ساعة    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سيارة على الطريق الغربي بالفيوم    إقبال جماهيري على معرض السويس الثالث للكتاب (صور)    بالصور.. نقل القطع الأثرية المكتشفة تحت مياه أبو قير إلى المسرح اليوناني الروماني بالإسكندرية    نائب وزير الصحة يتفقد منشآت طبية بدمياط ويشيد بأداء مستشفى الحميات    تسجيل مركز قصر العيني للأبحاث السريرية رسميا بالمجلس الأعلى لمراجعة أخلاقيات البحوث الطبية الإكلينيكية    حلاوة المولد، طريقة عمل "الشكلمة" فى البيت بمكونات بسيطة    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    نائب محافظ الفيوم يُكرم المشاركين في البرنامج التدريبي "العمليات التصميمية وإعداد مستندات الطرح"    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رسميًا.. دوجلاس لويز يعود إلى الدوري الإنجليزي    افتتاح مسجدين بمركزي مغاغة وأبوقرقاص في المنيا    التموين: ضبط 4 أطنان دقيق خلال 24 ساعة    العين مرآة العقل.. وهذه العلامة قد تكشف مرضًا عقليًا أو اضطراب نفسي    محافظ مطروح يستقبل رئيس جامعة الازهر لافتتاح مقر لكلية البنات الأزهرية    وزير الري: التكنولوجيا تلعب دورا محوريا في إدارة المياه والتنبؤ بمخاطر المناخ    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    الاقتصاد المصرى يتعافى    القبض على عاطل يدير ورشة لتصنيع الأسلحة البيضاء    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    رئيسة حكومة إيطاليا: قرار إسرائيل احتلال غزة يفاقم الأزمة الإنسانية فى القطاع    علاء زينهم يرفض الاعتزال ويؤكد: العمر لا يوقف الإبداع |خاص    مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي يعلن لجنة تحكيم الدورة ال32    ثائرٌ يكتُب    ناقد رياضي: بن رمضان اللاعب الأكثر ثباتًا في الأهلي.. ومواجهة المحلة صعبة    الحبس عامين ل تارك صلاة الجمعة بماليزيا.. أحمد كريمة يوضح الرأي الشرعي    «التسامح والرضا».. وصفة للسعادة تدوم مدى الحياة    غدير ماتت من سوء التغذية..التجويع الإسرائيلي لغزة يقتل رضيع عمرها 5 شهور    عائلات المحتجزين: ندعو لوقفة احتجاجية قبالة مقر نتنياهو    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    *لليوم الثاني.. خدمة Premium الجديدة بقطارات السكة الحديد "كاملة العدد"    تهيئة نفسية وروتين منظم.. نصائح هامة للأطفال قبل العودة إلى المدارس    أستاذ بالأزهر: مبدأ "ضل رجل ولا ضل حيطة" ضيّع حياة كثير من البنات    غدًا.. إعلان نتيجة التقديم لرياض أطفال والصف الأول الابتدائي بالأزهر| الرابط هنا    الأمن أولًا.. إدارة ترامب تعتزم مراجعة شاملة لتأشيرات 55 مليون أجنبي    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    «خير يوم طلعت عليه الشمس».. تعرف على فضل يوم الجمعة والأعمال المستحبة فيه    صفات برج الأسد الخفية .. يجمع بين القوه والدراما    محمد رمضان يستفز جمهوره في مصر ب فيديو جديد: «غيرانين وأنا عاذرهم»    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    ضبط المتهمين بالتسول واستغلال الأطفال أسفل كوبري بالجيزة    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائي الجزائري أحمد طيباوي يحتفي بالمهمّشين
نشر في صوت البلد يوم 19 - 08 - 2020

مسارات متعثّرة ومصائر عاثرة هو توصيف حركة الشخوص في رواية "اختفاء السيّد لا أحد" للروائي الجزائري أحمد طيباوي (منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف). والرواية، من العنوان إلى المتن، تحيل إلى عالمٍ مرجعيٍّ يقطنه المهمّشون والفاشلون والفقراء والمنافقون والمنقطعون عن جذورهم، ويتفاعلون فيما بينهم تفاعلاً عابراً كحيواتهم العابرة، في حي المحطة الشعبي، من مدينة الرويبة الجزائرية، ويُشكّل المقهى والشقّة والشارع والمقبرة والمستشفى الفضاءات الروائية الخاصة لهذا التفاعل، في إطار الفضاء العام الذي تشكّله المدينة. ومن خلال هذه الفضاءات، العامّة والخاصّة، يفتح أحمد طيباوي على الفساد السياسي والإداري والقضائي، البيروقراطية، النفاق، الازدواجية الاجتماعية، وسواها من المشكلات التي تعتور العالم المرجعي للرواية، في تسعينيات القرن العشرين، في ما عُرِف بسنوات العشرية الجزائرية، التي اندلعت فيها المواجهات العنيفة بين السلطة الحاكمة و"الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، والسنوات اللاحقة لها.
في العنوان، نقع على تهميشٍ مضاعف، فبطل الرواية بلا اسم، وقد أطلق عليه الكاتب تسمية "لا أحد"، وغياب الاسم مؤشّرٌ أوّل على التهميش، وتأتي كلمة "اختفاء" لتشكّل مؤشّراً ثانياً عليه. وبذلك، يتضاعف التهميش، ويشي العنوان باختفاء الاختفاء.
في المتن، يتمحور الروي في النصف الأوّل من الرواية المعنون ب"الرجل الذي خلع وجهه ورحل" حول السيّد لا أحد، من ظهوره حتى اختفائه. ويتمحور النصف الثاني منها المعنون ب"الجحيم يُطلّ من النافذة" حول المحقّق الذي يقوم بالبحث عن الرجل المختفي. وتَحُفُّ بكلٍّ من المحورين مجموعة من الشخصيات المهمّشة، على اختلاف مواقعها وأدوارها. وتجدر الإشارة إلى أن النصف الثاني يبدأ من حيث ينتهي النصف الأوّل، ويقوم بإكماله، وإن لم تتمخّض هذه العملية عن جلاء كلّ ما يتعلّق بالأوّل، فثمّة ما لا تُصرّح به الرواية، وتترك لنا مجال الاستنتاج والتأويل.
البطل المجهول
يقيم السيّد لا أحد في شقّة صغيرة لا يملكها، في حي المحطّة الشعبي، ويكون عليه الاعتناء بشيخٍ عجوز مقابل الإقامة فيها، فالرجل الذي قاده التشرّد إلى هذا المكان، يجد نفسه مضطراًّ لخدمة العجوز كي يبعد عن نفسه غائلة التشرّد، وكي يفي بعهده لمراد الابن العاقّ الذي استغلّ حاجته وتشرّده ليملي عليه شروط إيوائه، وترك والده لمصيره متهرّباً من مسؤولية الاعتناء به على عتبة الرحيل، وهاجر إلى ألمانيا يطارد ملذّاته والرّغبات.
في مستهل الرواية، نقع على شخصية الرجل المجهول الذي يعهد إليه الكاتب بعملية الروي في النصف الأوّل المتعلّق به تعويضاً عن تجهيله، فنقع على رجل متوحّد، زاهدٍ في كلّ شيء، معرضٍ عن الدنيا والناس. وبمتابعة القراءة، نقع على المقدّمات التي آلت إلى هذه النتائج؛ فنرى طفلاً يتييم الأم والأب، تهتم به زوجة عمّه التي لا تُنجب ذكوراً، ويتمّ خطفه صبياًّ على يد جماعة إرهابية، فينقذه أحد ابناء قريته، سرج الغول شمالي سطيف، من موتٍ محتّم. ينتقل بعدها للإقامة عند خالته، حتى إذا ما ماتت، يرحل عن البيت، ويقوم بأعمالٍ متواضعة، فيعمل حمّالاً وزبّالاً ومتشرّداً، ويعاني الفقر والجوع واليتم والتهميش والاختلال العقلي، وحين تقوده خطاه إلى مراد، ذات تشرّد، يؤمّن له المأوى مقابل اهتمامه بوالده العجوز، فيشكّل بديلاً عن ضائع، وهو الذي كثيراً ما يحسّ أنّه زائد عن الحاجة، وينتابه إحساس مرَضيٌّ بالذنب والتقصير إزاء الآخرين.
تتّخذ علاقته بالعجوز المريض سليمان بن لؤي، المجاهد القديم المتحدّر من برج منايل، طابعاً جدلياًّ، فالعجوز الذي يعاني عقوق ابنه الوحيد مراد وتخلّيه عنه يرى فيه بديلاً من الابن، وكثيراً ما يناديه باسمه، والأخير يرى في العجوز بديلاً من والده الرحل، وتعويضاً له عن أبوّة مفقودة. ولذلك، يأخذ على عاتقه الاهتمام به التزاماً منه بالعهد الذي قطعه لابنه، وثمناً للمأوى الذ ي أمّنه له. وإزاء الأعمالٍ التي يقوم بها في إطار هذا الاهتمام ، من تنظيف، وتغيير حفاظات صحية، وإطعام، ومرافقة في المستشفى، وغيرها من أعمال يأنف كثيرون من القيام بها، يعيش "لا أحد" صراعاً بين التزامه ورغبته في التحرّر منه والذهاب في سبيله، ينتصر بموجبه الأوّل على الثاني، انطلاقاً من إحساسه المرَضي بالمسؤولية، ووفاءً لصورة الأب المفقود التي يجسّدها الشيخ المريض. ولذلك، يقرّر ملازمته والاستمرار في الاعتناء به، حتى إذا ما مات المريض، يختفي عن الوجود نهائياًّ مضيفاً إلى اختفاء الاسم اختفاء المسمّى.
في إطار العلاقات الأخرى العابرة التي تنخرط فيها هذه الشخصية، نتعرّف إلى مجموعة من الشخصيات، ذات المنشأ الريفي تعيش على هامش المدينة، وتصطدم بها، ما يعود عليها بالتهميش، وينعكس تعثّراً في مساراتها وعثاراً في مصائرها. وهي شخصيات تتعاطى معه غالباً من موقع الاستغلال والابتزاز والتهديد، وكثيراً ما يرضخ لها تحت وطأة الحاجة إلى المال أو التخفّي، لهربه، ذات يوم، من مستشفى للأمراض العقلية، حتى إذا ما اكتشف، في نهاية المطاف، أن حجم الجنون خارج المستشفى أكبر منه داخله بات يفكّر في العودة إليه، مرّةً أخرى. وحسبنا الأشارة إلى خمس شخصيات، في هذا الإطار.
شخصيّات هامشية
الشخصية الأولى هي "عمّي مبارك" الشيخ الذي يبحث عن الاحترام في أوساط المحيطين به، ويُحبّ أن ينادوه بهذا الاسم. ولعلّه يفعل ذلك تعويضاً عن حاجة تنقصه. يتحدّر من أصول ريفية، فقد قدم المدينة وحيداً، جائعاً، واشتغل كثور ليجمع المال، حتى إذا ما فعل، يصبح من أهل الجمع والمنع، فيمتنع عن إقراض القليل منه للراوي كي يؤمّن الطعام للشيخ المريض، ويزمع الزواج في نهاية العمر من أربعينية تنجب له صبياًّ، فلا ينتقل المال إلى أصهرته الكسالى.
الشخصية الثانية هي عثمان لاقوش، صاحب المكتبة، الذي يحب الجدل، الآتي من ماضٍ سياسيٍّ وثقافيٍّ محبط ظناًّ منه أنّه مشروع زعيمٍ أو مثقّف، حتّى إذا ما فشل في الانتخابات البلدية، يتردّى في هوّة الإحباط، ويصبّ جام نقمته على المثقّفين. ويزيد الطين بلّة كساد تجارته الكتبيّة، وتخلّي زوجته عنه لفقره وعجزه الجنسي وارتباطها بآخر، فيجمع بين الفشلين المعنوي والجسدي. وإزاء تردّي أحواله، ومعاناته الجوع، بعد إقفال مكتبته، يُضطرّ إلى الخدمة في بيت "عمّي مبارك" مقابل الطعام، ما يُشكّل سقوطاً مريعاً لأحلامه الكبيرة المجهضة، ويدفع به إلى الارتماء تحت عجلات القطار.
الشخصية الثالثة هي قادة البيّاع، المخبر لدى السلطات الأمنية، المتحدّر من تجربة فاشلة في ممارسة الإرهاب، حتى إذا ما تمّ القبض عليه، ويُسام صنوف التعذيب، يتحوّل إلى مخبرٍ رخيص يتربّص بأهل الحي الدوائر، فَيُسَمّونه ب"كلب الشرطة"، في إشارة روائية واضحة إلى رفض العالم المرجعي هذه المهمّة واحتقاره القائمين بها.
الشخصية الرابعة هي جلال، حارس المقبرة الملقّب ب" الأعمش". وهو شخص "بربع عقل لحياة مجنونة"، منسيٌّ، يمارس الانتقام من كبار الموتى ببيع عظامهم سراًّ ليعيل أسرته.
المحقّق الفاشل
في النصف الثاني من الرواية، يؤول الدور المحوري إلى رفيق ناصري، المحقّق الكفوء الذي يُكلّف البحث عن المختفي. وهنا، يسند الكاتب الروي إلى الراوي العليم، فيرصد الشخصية في قيامها بمهمّتها إجراءات ونتائج. ومن خلال هذا الرصد، يرسم الروائي / الراوي بورتريه شخصية تجمع بين صفات مثالية، من جهة، وصفات واقعية أو ما دون واقعية، من جهة ثانية. ولعلّ الأخيرة هي التي عزّزت الأولى. فالمحقق كفوء، نزيه، مبدئي، ومتفانِ في عمله. لكنّه، في الوقت نفسه، وحيدٌ، محروم، عقيم، متردّد، ومقطوع من شجرة، ما يجعله يُغرِق نفسه في العمل، وينجح فيه. لذلك، يقوم، في إطار تنفيذ مهمّته، بجميع الإجراءات لجلاء سرّ اختفاء "لا أحد"، من زيارات ميدانية، ومراجعة مستندات، وضبط إفادات، ومراقبة أمكنة، وغيرها. وإذ يصطدم بتناقض الإفادات وتضارب التوصيفات وتضليل التحقيق، ويخفق في الوصول إلى النتائج المرجوّة، يصرّ على طلب الإعفاء من مهمّته، لكنه يستمرّ في القيام بها، خارج التكليف الرسمي، جاعلاً منها قضيّته الخاصة، لوجود تشابه بين الباحث والمبحوث عنه، إلى حدّ التماهي بينهما، فيصبح البحث عن الآخر بحثاً عن الذات، لكنه يعود من الغنيمة بالإياب.
من خلال هذه الأحداث، يلقي أحمد طيباوي الضوء على شريحة من المهمّشين في العالم المرجعي الذي يُحيل إليه. ويلقي من خلالهم الضوء على مشكلات يعاني مها هذا العالم، سبقت الإشارة إليها. وهو يفعل ذلك بتقنيات بسيطة، ولغة طازجة لا تتورّع عن تسمية الأشياء بأسمائها، واستخدام المفردات "النابية"، والتشابيه الطريفة، ما يمنح النصّ طزاجته، والأحداث صدقيتها، ويجعل الرواية مادّة للمتعة والفائدة.
مسارات متعثّرة ومصائر عاثرة هو توصيف حركة الشخوص في رواية "اختفاء السيّد لا أحد" للروائي الجزائري أحمد طيباوي (منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف). والرواية، من العنوان إلى المتن، تحيل إلى عالمٍ مرجعيٍّ يقطنه المهمّشون والفاشلون والفقراء والمنافقون والمنقطعون عن جذورهم، ويتفاعلون فيما بينهم تفاعلاً عابراً كحيواتهم العابرة، في حي المحطة الشعبي، من مدينة الرويبة الجزائرية، ويُشكّل المقهى والشقّة والشارع والمقبرة والمستشفى الفضاءات الروائية الخاصة لهذا التفاعل، في إطار الفضاء العام الذي تشكّله المدينة. ومن خلال هذه الفضاءات، العامّة والخاصّة، يفتح أحمد طيباوي على الفساد السياسي والإداري والقضائي، البيروقراطية، النفاق، الازدواجية الاجتماعية، وسواها من المشكلات التي تعتور العالم المرجعي للرواية، في تسعينيات القرن العشرين، في ما عُرِف بسنوات العشرية الجزائرية، التي اندلعت فيها المواجهات العنيفة بين السلطة الحاكمة و"الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، والسنوات اللاحقة لها.
في العنوان، نقع على تهميشٍ مضاعف، فبطل الرواية بلا اسم، وقد أطلق عليه الكاتب تسمية "لا أحد"، وغياب الاسم مؤشّرٌ أوّل على التهميش، وتأتي كلمة "اختفاء" لتشكّل مؤشّراً ثانياً عليه. وبذلك، يتضاعف التهميش، ويشي العنوان باختفاء الاختفاء.
في المتن، يتمحور الروي في النصف الأوّل من الرواية المعنون ب"الرجل الذي خلع وجهه ورحل" حول السيّد لا أحد، من ظهوره حتى اختفائه. ويتمحور النصف الثاني منها المعنون ب"الجحيم يُطلّ من النافذة" حول المحقّق الذي يقوم بالبحث عن الرجل المختفي. وتَحُفُّ بكلٍّ من المحورين مجموعة من الشخصيات المهمّشة، على اختلاف مواقعها وأدوارها. وتجدر الإشارة إلى أن النصف الثاني يبدأ من حيث ينتهي النصف الأوّل، ويقوم بإكماله، وإن لم تتمخّض هذه العملية عن جلاء كلّ ما يتعلّق بالأوّل، فثمّة ما لا تُصرّح به الرواية، وتترك لنا مجال الاستنتاج والتأويل.
البطل المجهول
يقيم السيّد لا أحد في شقّة صغيرة لا يملكها، في حي المحطّة الشعبي، ويكون عليه الاعتناء بشيخٍ عجوز مقابل الإقامة فيها، فالرجل الذي قاده التشرّد إلى هذا المكان، يجد نفسه مضطراًّ لخدمة العجوز كي يبعد عن نفسه غائلة التشرّد، وكي يفي بعهده لمراد الابن العاقّ الذي استغلّ حاجته وتشرّده ليملي عليه شروط إيوائه، وترك والده لمصيره متهرّباً من مسؤولية الاعتناء به على عتبة الرحيل، وهاجر إلى ألمانيا يطارد ملذّاته والرّغبات.
في مستهل الرواية، نقع على شخصية الرجل المجهول الذي يعهد إليه الكاتب بعملية الروي في النصف الأوّل المتعلّق به تعويضاً عن تجهيله، فنقع على رجل متوحّد، زاهدٍ في كلّ شيء، معرضٍ عن الدنيا والناس. وبمتابعة القراءة، نقع على المقدّمات التي آلت إلى هذه النتائج؛ فنرى طفلاً يتييم الأم والأب، تهتم به زوجة عمّه التي لا تُنجب ذكوراً، ويتمّ خطفه صبياًّ على يد جماعة إرهابية، فينقذه أحد ابناء قريته، سرج الغول شمالي سطيف، من موتٍ محتّم. ينتقل بعدها للإقامة عند خالته، حتى إذا ما ماتت، يرحل عن البيت، ويقوم بأعمالٍ متواضعة، فيعمل حمّالاً وزبّالاً ومتشرّداً، ويعاني الفقر والجوع واليتم والتهميش والاختلال العقلي، وحين تقوده خطاه إلى مراد، ذات تشرّد، يؤمّن له المأوى مقابل اهتمامه بوالده العجوز، فيشكّل بديلاً عن ضائع، وهو الذي كثيراً ما يحسّ أنّه زائد عن الحاجة، وينتابه إحساس مرَضيٌّ بالذنب والتقصير إزاء الآخرين.
تتّخذ علاقته بالعجوز المريض سليمان بن لؤي، المجاهد القديم المتحدّر من برج منايل، طابعاً جدلياًّ، فالعجوز الذي يعاني عقوق ابنه الوحيد مراد وتخلّيه عنه يرى فيه بديلاً من الابن، وكثيراً ما يناديه باسمه، والأخير يرى في العجوز بديلاً من والده الرحل، وتعويضاً له عن أبوّة مفقودة. ولذلك، يأخذ على عاتقه الاهتمام به التزاماً منه بالعهد الذي قطعه لابنه، وثمناً للمأوى الذ ي أمّنه له. وإزاء الأعمالٍ التي يقوم بها في إطار هذا الاهتمام ، من تنظيف، وتغيير حفاظات صحية، وإطعام، ومرافقة في المستشفى، وغيرها من أعمال يأنف كثيرون من القيام بها، يعيش "لا أحد" صراعاً بين التزامه ورغبته في التحرّر منه والذهاب في سبيله، ينتصر بموجبه الأوّل على الثاني، انطلاقاً من إحساسه المرَضي بالمسؤولية، ووفاءً لصورة الأب المفقود التي يجسّدها الشيخ المريض. ولذلك، يقرّر ملازمته والاستمرار في الاعتناء به، حتى إذا ما مات المريض، يختفي عن الوجود نهائياًّ مضيفاً إلى اختفاء الاسم اختفاء المسمّى.
في إطار العلاقات الأخرى العابرة التي تنخرط فيها هذه الشخصية، نتعرّف إلى مجموعة من الشخصيات، ذات المنشأ الريفي تعيش على هامش المدينة، وتصطدم بها، ما يعود عليها بالتهميش، وينعكس تعثّراً في مساراتها وعثاراً في مصائرها. وهي شخصيات تتعاطى معه غالباً من موقع الاستغلال والابتزاز والتهديد، وكثيراً ما يرضخ لها تحت وطأة الحاجة إلى المال أو التخفّي، لهربه، ذات يوم، من مستشفى للأمراض العقلية، حتى إذا ما اكتشف، في نهاية المطاف، أن حجم الجنون خارج المستشفى أكبر منه داخله بات يفكّر في العودة إليه، مرّةً أخرى. وحسبنا الأشارة إلى خمس شخصيات، في هذا الإطار.
شخصيّات هامشية
الشخصية الأولى هي "عمّي مبارك" الشيخ الذي يبحث عن الاحترام في أوساط المحيطين به، ويُحبّ أن ينادوه بهذا الاسم. ولعلّه يفعل ذلك تعويضاً عن حاجة تنقصه. يتحدّر من أصول ريفية، فقد قدم المدينة وحيداً، جائعاً، واشتغل كثور ليجمع المال، حتى إذا ما فعل، يصبح من أهل الجمع والمنع، فيمتنع عن إقراض القليل منه للراوي كي يؤمّن الطعام للشيخ المريض، ويزمع الزواج في نهاية العمر من أربعينية تنجب له صبياًّ، فلا ينتقل المال إلى أصهرته الكسالى.
الشخصية الثانية هي عثمان لاقوش، صاحب المكتبة، الذي يحب الجدل، الآتي من ماضٍ سياسيٍّ وثقافيٍّ محبط ظناًّ منه أنّه مشروع زعيمٍ أو مثقّف، حتّى إذا ما فشل في الانتخابات البلدية، يتردّى في هوّة الإحباط، ويصبّ جام نقمته على المثقّفين. ويزيد الطين بلّة كساد تجارته الكتبيّة، وتخلّي زوجته عنه لفقره وعجزه الجنسي وارتباطها بآخر، فيجمع بين الفشلين المعنوي والجسدي. وإزاء تردّي أحواله، ومعاناته الجوع، بعد إقفال مكتبته، يُضطرّ إلى الخدمة في بيت "عمّي مبارك" مقابل الطعام، ما يُشكّل سقوطاً مريعاً لأحلامه الكبيرة المجهضة، ويدفع به إلى الارتماء تحت عجلات القطار.
الشخصية الثالثة هي قادة البيّاع، المخبر لدى السلطات الأمنية، المتحدّر من تجربة فاشلة في ممارسة الإرهاب، حتى إذا ما تمّ القبض عليه، ويُسام صنوف التعذيب، يتحوّل إلى مخبرٍ رخيص يتربّص بأهل الحي الدوائر، فَيُسَمّونه ب"كلب الشرطة"، في إشارة روائية واضحة إلى رفض العالم المرجعي هذه المهمّة واحتقاره القائمين بها.
الشخصية الرابعة هي جلال، حارس المقبرة الملقّب ب" الأعمش". وهو شخص "بربع عقل لحياة مجنونة"، منسيٌّ، يمارس الانتقام من كبار الموتى ببيع عظامهم سراًّ ليعيل أسرته.
المحقّق الفاشل
في النصف الثاني من الرواية، يؤول الدور المحوري إلى رفيق ناصري، المحقّق الكفوء الذي يُكلّف البحث عن المختفي. وهنا، يسند الكاتب الروي إلى الراوي العليم، فيرصد الشخصية في قيامها بمهمّتها إجراءات ونتائج. ومن خلال هذا الرصد، يرسم الروائي / الراوي بورتريه شخصية تجمع بين صفات مثالية، من جهة، وصفات واقعية أو ما دون واقعية، من جهة ثانية. ولعلّ الأخيرة هي التي عزّزت الأولى. فالمحقق كفوء، نزيه، مبدئي، ومتفانِ في عمله. لكنّه، في الوقت نفسه، وحيدٌ، محروم، عقيم، متردّد، ومقطوع من شجرة، ما يجعله يُغرِق نفسه في العمل، وينجح فيه. لذلك، يقوم، في إطار تنفيذ مهمّته، بجميع الإجراءات لجلاء سرّ اختفاء "لا أحد"، من زيارات ميدانية، ومراجعة مستندات، وضبط إفادات، ومراقبة أمكنة، وغيرها. وإذ يصطدم بتناقض الإفادات وتضارب التوصيفات وتضليل التحقيق، ويخفق في الوصول إلى النتائج المرجوّة، يصرّ على طلب الإعفاء من مهمّته، لكنه يستمرّ في القيام بها، خارج التكليف الرسمي، جاعلاً منها قضيّته الخاصة، لوجود تشابه بين الباحث والمبحوث عنه، إلى حدّ التماهي بينهما، فيصبح البحث عن الآخر بحثاً عن الذات، لكنه يعود من الغنيمة بالإياب.
من خلال هذه الأحداث، يلقي أحمد طيباوي الضوء على شريحة من المهمّشين في العالم المرجعي الذي يُحيل إليه. ويلقي من خلالهم الضوء على مشكلات يعاني مها هذا العالم، سبقت الإشارة إليها. وهو يفعل ذلك بتقنيات بسيطة، ولغة طازجة لا تتورّع عن تسمية الأشياء بأسمائها، واستخدام المفردات "النابية"، والتشابيه الطريفة، ما يمنح النصّ طزاجته، والأحداث صدقيتها، ويجعل الرواية مادّة للمتعة والفائدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.