*لليوم الثاني.. خدمة Premium الجديدة بقطارات السكة الحديد "كاملة العدد"    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    دعمًا للأجيال الواعدة.. حماة الوطن يكرم أبطال «UC Math» في دمياط    وزيرة البيئة تتابع جهود البرنامج الوطني لإدارة المخلفات الصلبة    الاقتصاد المصرى يتعافى    وزير الطيران المدنى يشارك باجتماعات اللجنة التنفيذية لمفوضية دول أمريكا اللاتينية    أسعار البيض اليوم الجمعة 22 أغسطس    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    نيكيتا خروتشوف يظهر فى صورة تجمع ترامب .. اعرف القصة    إدانة دولية واسعة لقرار إسرائيل بالموافقة على بناء مستوطنات بمنطقة E1 شرق القدس    رئيس الوزراء يؤكد موقف مصر الثابت الرافض لاستمرار الحرب الإسرائيلية على غزة    الخارجية الأمريكية تعلن بدأ إدارة ترامب مراجعة 55 مليون تأشيرة    إعلام إسرائيلي: إقالة 15 ضابطا بعد توقيعهم على عريضة لإنهاء حرب غزة    عائلات المحتجزين: ندعو لوقفة احتجاجية قبالة مقر نتنياهو    تحليل: إيران وقوى أوروبية تناقش المحادثات النووية والعقوبات    3 ملامح فنية.. كيف ضرب الزمالك خصمه ب 7 تمريرات فقط؟ (تحليل)    تشكيل تشيلسي المتوقع أمام وست هام يونايتد.. بيدرو يقود الهجوم    محمود ناجي يدير مباراة السنغال وأوغندا في ربع نهائي أمم افريقيا للمحليين    نجم الزمالك السابق: ألفينا يذكرني ب دوجلاس كوستا    ناشئو وناشئات الطائرة يتوجهون إلى تونس بحثًا عن التتويج الإفريقي    ناقد رياضي: بن رمضان اللاعب الأكثر ثباتًا في الأهلي.. ومواجهة المحلة صعبة    اغتصب سيدة أمام زوجها بالمقابر.. تفاصيل إعدام "إسلام"بعد 5 سنوات من التقاضى    إصابة 6 أشخاص من أسرة واحدة فى حادث انقلاب سيارة فى ترعة ببنى سويف    إغلاق "الثقب الأسود" بالهرم بعد شكاوى مواطنين عن وجود متسولين.. صور    رئيس مدينة طهطا يتفقد مصابي حادث انهيار منزل بقرية الشيخ مسعود بسوهاج    «الأرصاد» تكشف حالة طقس غدًا السبت |إنفوجراف    الداخلية تكشف تفاصيل اقتحام منزل والتعدي على أسرة بالغربية    محمد رمضان يساند أنغام ويهديها أغنية على مسرح بيروت    مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي يعلن لجنة تحكيم الدورة ال32    ثائرٌ يكتُب    مصر تكتشف مدينة أثرية كاملة تحت الماء    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    الحبس عامين ل تارك صلاة الجمعة بماليزيا.. أحمد كريمة يوضح الرأي الشرعي    للقضاء على قوائم الانتظار.. الانتهاء من 225 عملية متنوعة بمستشفى العريش    تهيئة نفسية وروتين منظم.. نصائح هامة للأطفال قبل العودة إلى المدارس    أستاذ بالأزهر: مبدأ "ضل رجل ولا ضل حيطة" ضيّع حياة كثير من البنات    ما الواجب على من فاته أداء الصلاة مدة طويلة؟.. الإفتاء توضح    للرزق وتيسير الأمور.. دعاء يوم الجمعة مستجاب (ردده الآن)    الإسكندرية السينمائي يحتفل بمئوية سعد الدين وهبة ويكرم نخبة من أدباء وشعراء مدينة الثغر    وزيرة التنمية المحلية تستعرض تقريرًا حول مشروع التنمية العمرانية بمدينة دهب    منير أديب يكتب: اختراق أم احتراق الإخوان أمام السفارات المصرية بالخارج؟    نيوكاسل يطارد المهاجم النرويجي ستراند لارسن.. وولفرهامبتون في معركة للحفاظ على نجم الهجوم    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    غدًا.. إعلان نتيجة التقديم لرياض أطفال والصف الأول الابتدائي بالأزهر| الرابط هنا    «زي النهارده«في 22 أغسطس 1945.. وفاة الشيخ مصطفى المراغي    «زي النهارده» في 22 أغسطس 1948.. استشهاد البطل أحمد عبدالعزيز    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الجمعة 22 أغسطس 2025    كيف يتصدى مركز الطوارئ بالوكالة الذرية لأخطر التهديدات النووية والإشعاعية؟    لو بطلت قهوة.. 4 تغييرات تحدث لجسمك    النصر يستعيد نجمه قبل نهائي السوبر    «خير يوم طلعت عليه الشمس».. تعرف على فضل يوم الجمعة والأعمال المستحبة فيه    صفات برج الأسد الخفية .. يجمع بين القوه والدراما    إحالة أوراق المتهم بقتل أطفاله الأربعة في القنطرة غرب إلى مفتي الجمهورية    تعليم الجيزة تواصل أعمال الصيانة والتجديد استعدادا للعام الدراسي الجديد    فطور خفيف ومغذ لصغارك، طريقة عمل البان كيك    «هتسد شهيتك وتحرق دهونك».. 4 مشروبات طبيعية تساعد على التخسيس    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    أثناء الاستحمام.. وفاة شخصين غرقًا في نهر النيل بدار السلام بسوهاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائي الجزائري أحمد طيباوي يحتفي بالمهمّشين
نشر في صوت البلد يوم 19 - 08 - 2020

مسارات متعثّرة ومصائر عاثرة هو توصيف حركة الشخوص في رواية "اختفاء السيّد لا أحد" للروائي الجزائري أحمد طيباوي (منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف). والرواية، من العنوان إلى المتن، تحيل إلى عالمٍ مرجعيٍّ يقطنه المهمّشون والفاشلون والفقراء والمنافقون والمنقطعون عن جذورهم، ويتفاعلون فيما بينهم تفاعلاً عابراً كحيواتهم العابرة، في حي المحطة الشعبي، من مدينة الرويبة الجزائرية، ويُشكّل المقهى والشقّة والشارع والمقبرة والمستشفى الفضاءات الروائية الخاصة لهذا التفاعل، في إطار الفضاء العام الذي تشكّله المدينة. ومن خلال هذه الفضاءات، العامّة والخاصّة، يفتح أحمد طيباوي على الفساد السياسي والإداري والقضائي، البيروقراطية، النفاق، الازدواجية الاجتماعية، وسواها من المشكلات التي تعتور العالم المرجعي للرواية، في تسعينيات القرن العشرين، في ما عُرِف بسنوات العشرية الجزائرية، التي اندلعت فيها المواجهات العنيفة بين السلطة الحاكمة و"الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، والسنوات اللاحقة لها.
في العنوان، نقع على تهميشٍ مضاعف، فبطل الرواية بلا اسم، وقد أطلق عليه الكاتب تسمية "لا أحد"، وغياب الاسم مؤشّرٌ أوّل على التهميش، وتأتي كلمة "اختفاء" لتشكّل مؤشّراً ثانياً عليه. وبذلك، يتضاعف التهميش، ويشي العنوان باختفاء الاختفاء.
في المتن، يتمحور الروي في النصف الأوّل من الرواية المعنون ب"الرجل الذي خلع وجهه ورحل" حول السيّد لا أحد، من ظهوره حتى اختفائه. ويتمحور النصف الثاني منها المعنون ب"الجحيم يُطلّ من النافذة" حول المحقّق الذي يقوم بالبحث عن الرجل المختفي. وتَحُفُّ بكلٍّ من المحورين مجموعة من الشخصيات المهمّشة، على اختلاف مواقعها وأدوارها. وتجدر الإشارة إلى أن النصف الثاني يبدأ من حيث ينتهي النصف الأوّل، ويقوم بإكماله، وإن لم تتمخّض هذه العملية عن جلاء كلّ ما يتعلّق بالأوّل، فثمّة ما لا تُصرّح به الرواية، وتترك لنا مجال الاستنتاج والتأويل.
البطل المجهول
يقيم السيّد لا أحد في شقّة صغيرة لا يملكها، في حي المحطّة الشعبي، ويكون عليه الاعتناء بشيخٍ عجوز مقابل الإقامة فيها، فالرجل الذي قاده التشرّد إلى هذا المكان، يجد نفسه مضطراًّ لخدمة العجوز كي يبعد عن نفسه غائلة التشرّد، وكي يفي بعهده لمراد الابن العاقّ الذي استغلّ حاجته وتشرّده ليملي عليه شروط إيوائه، وترك والده لمصيره متهرّباً من مسؤولية الاعتناء به على عتبة الرحيل، وهاجر إلى ألمانيا يطارد ملذّاته والرّغبات.
في مستهل الرواية، نقع على شخصية الرجل المجهول الذي يعهد إليه الكاتب بعملية الروي في النصف الأوّل المتعلّق به تعويضاً عن تجهيله، فنقع على رجل متوحّد، زاهدٍ في كلّ شيء، معرضٍ عن الدنيا والناس. وبمتابعة القراءة، نقع على المقدّمات التي آلت إلى هذه النتائج؛ فنرى طفلاً يتييم الأم والأب، تهتم به زوجة عمّه التي لا تُنجب ذكوراً، ويتمّ خطفه صبياًّ على يد جماعة إرهابية، فينقذه أحد ابناء قريته، سرج الغول شمالي سطيف، من موتٍ محتّم. ينتقل بعدها للإقامة عند خالته، حتى إذا ما ماتت، يرحل عن البيت، ويقوم بأعمالٍ متواضعة، فيعمل حمّالاً وزبّالاً ومتشرّداً، ويعاني الفقر والجوع واليتم والتهميش والاختلال العقلي، وحين تقوده خطاه إلى مراد، ذات تشرّد، يؤمّن له المأوى مقابل اهتمامه بوالده العجوز، فيشكّل بديلاً عن ضائع، وهو الذي كثيراً ما يحسّ أنّه زائد عن الحاجة، وينتابه إحساس مرَضيٌّ بالذنب والتقصير إزاء الآخرين.
تتّخذ علاقته بالعجوز المريض سليمان بن لؤي، المجاهد القديم المتحدّر من برج منايل، طابعاً جدلياًّ، فالعجوز الذي يعاني عقوق ابنه الوحيد مراد وتخلّيه عنه يرى فيه بديلاً من الابن، وكثيراً ما يناديه باسمه، والأخير يرى في العجوز بديلاً من والده الرحل، وتعويضاً له عن أبوّة مفقودة. ولذلك، يأخذ على عاتقه الاهتمام به التزاماً منه بالعهد الذي قطعه لابنه، وثمناً للمأوى الذ ي أمّنه له. وإزاء الأعمالٍ التي يقوم بها في إطار هذا الاهتمام ، من تنظيف، وتغيير حفاظات صحية، وإطعام، ومرافقة في المستشفى، وغيرها من أعمال يأنف كثيرون من القيام بها، يعيش "لا أحد" صراعاً بين التزامه ورغبته في التحرّر منه والذهاب في سبيله، ينتصر بموجبه الأوّل على الثاني، انطلاقاً من إحساسه المرَضي بالمسؤولية، ووفاءً لصورة الأب المفقود التي يجسّدها الشيخ المريض. ولذلك، يقرّر ملازمته والاستمرار في الاعتناء به، حتى إذا ما مات المريض، يختفي عن الوجود نهائياًّ مضيفاً إلى اختفاء الاسم اختفاء المسمّى.
في إطار العلاقات الأخرى العابرة التي تنخرط فيها هذه الشخصية، نتعرّف إلى مجموعة من الشخصيات، ذات المنشأ الريفي تعيش على هامش المدينة، وتصطدم بها، ما يعود عليها بالتهميش، وينعكس تعثّراً في مساراتها وعثاراً في مصائرها. وهي شخصيات تتعاطى معه غالباً من موقع الاستغلال والابتزاز والتهديد، وكثيراً ما يرضخ لها تحت وطأة الحاجة إلى المال أو التخفّي، لهربه، ذات يوم، من مستشفى للأمراض العقلية، حتى إذا ما اكتشف، في نهاية المطاف، أن حجم الجنون خارج المستشفى أكبر منه داخله بات يفكّر في العودة إليه، مرّةً أخرى. وحسبنا الأشارة إلى خمس شخصيات، في هذا الإطار.
شخصيّات هامشية
الشخصية الأولى هي "عمّي مبارك" الشيخ الذي يبحث عن الاحترام في أوساط المحيطين به، ويُحبّ أن ينادوه بهذا الاسم. ولعلّه يفعل ذلك تعويضاً عن حاجة تنقصه. يتحدّر من أصول ريفية، فقد قدم المدينة وحيداً، جائعاً، واشتغل كثور ليجمع المال، حتى إذا ما فعل، يصبح من أهل الجمع والمنع، فيمتنع عن إقراض القليل منه للراوي كي يؤمّن الطعام للشيخ المريض، ويزمع الزواج في نهاية العمر من أربعينية تنجب له صبياًّ، فلا ينتقل المال إلى أصهرته الكسالى.
الشخصية الثانية هي عثمان لاقوش، صاحب المكتبة، الذي يحب الجدل، الآتي من ماضٍ سياسيٍّ وثقافيٍّ محبط ظناًّ منه أنّه مشروع زعيمٍ أو مثقّف، حتّى إذا ما فشل في الانتخابات البلدية، يتردّى في هوّة الإحباط، ويصبّ جام نقمته على المثقّفين. ويزيد الطين بلّة كساد تجارته الكتبيّة، وتخلّي زوجته عنه لفقره وعجزه الجنسي وارتباطها بآخر، فيجمع بين الفشلين المعنوي والجسدي. وإزاء تردّي أحواله، ومعاناته الجوع، بعد إقفال مكتبته، يُضطرّ إلى الخدمة في بيت "عمّي مبارك" مقابل الطعام، ما يُشكّل سقوطاً مريعاً لأحلامه الكبيرة المجهضة، ويدفع به إلى الارتماء تحت عجلات القطار.
الشخصية الثالثة هي قادة البيّاع، المخبر لدى السلطات الأمنية، المتحدّر من تجربة فاشلة في ممارسة الإرهاب، حتى إذا ما تمّ القبض عليه، ويُسام صنوف التعذيب، يتحوّل إلى مخبرٍ رخيص يتربّص بأهل الحي الدوائر، فَيُسَمّونه ب"كلب الشرطة"، في إشارة روائية واضحة إلى رفض العالم المرجعي هذه المهمّة واحتقاره القائمين بها.
الشخصية الرابعة هي جلال، حارس المقبرة الملقّب ب" الأعمش". وهو شخص "بربع عقل لحياة مجنونة"، منسيٌّ، يمارس الانتقام من كبار الموتى ببيع عظامهم سراًّ ليعيل أسرته.
المحقّق الفاشل
في النصف الثاني من الرواية، يؤول الدور المحوري إلى رفيق ناصري، المحقّق الكفوء الذي يُكلّف البحث عن المختفي. وهنا، يسند الكاتب الروي إلى الراوي العليم، فيرصد الشخصية في قيامها بمهمّتها إجراءات ونتائج. ومن خلال هذا الرصد، يرسم الروائي / الراوي بورتريه شخصية تجمع بين صفات مثالية، من جهة، وصفات واقعية أو ما دون واقعية، من جهة ثانية. ولعلّ الأخيرة هي التي عزّزت الأولى. فالمحقق كفوء، نزيه، مبدئي، ومتفانِ في عمله. لكنّه، في الوقت نفسه، وحيدٌ، محروم، عقيم، متردّد، ومقطوع من شجرة، ما يجعله يُغرِق نفسه في العمل، وينجح فيه. لذلك، يقوم، في إطار تنفيذ مهمّته، بجميع الإجراءات لجلاء سرّ اختفاء "لا أحد"، من زيارات ميدانية، ومراجعة مستندات، وضبط إفادات، ومراقبة أمكنة، وغيرها. وإذ يصطدم بتناقض الإفادات وتضارب التوصيفات وتضليل التحقيق، ويخفق في الوصول إلى النتائج المرجوّة، يصرّ على طلب الإعفاء من مهمّته، لكنه يستمرّ في القيام بها، خارج التكليف الرسمي، جاعلاً منها قضيّته الخاصة، لوجود تشابه بين الباحث والمبحوث عنه، إلى حدّ التماهي بينهما، فيصبح البحث عن الآخر بحثاً عن الذات، لكنه يعود من الغنيمة بالإياب.
من خلال هذه الأحداث، يلقي أحمد طيباوي الضوء على شريحة من المهمّشين في العالم المرجعي الذي يُحيل إليه. ويلقي من خلالهم الضوء على مشكلات يعاني مها هذا العالم، سبقت الإشارة إليها. وهو يفعل ذلك بتقنيات بسيطة، ولغة طازجة لا تتورّع عن تسمية الأشياء بأسمائها، واستخدام المفردات "النابية"، والتشابيه الطريفة، ما يمنح النصّ طزاجته، والأحداث صدقيتها، ويجعل الرواية مادّة للمتعة والفائدة.
مسارات متعثّرة ومصائر عاثرة هو توصيف حركة الشخوص في رواية "اختفاء السيّد لا أحد" للروائي الجزائري أحمد طيباوي (منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف). والرواية، من العنوان إلى المتن، تحيل إلى عالمٍ مرجعيٍّ يقطنه المهمّشون والفاشلون والفقراء والمنافقون والمنقطعون عن جذورهم، ويتفاعلون فيما بينهم تفاعلاً عابراً كحيواتهم العابرة، في حي المحطة الشعبي، من مدينة الرويبة الجزائرية، ويُشكّل المقهى والشقّة والشارع والمقبرة والمستشفى الفضاءات الروائية الخاصة لهذا التفاعل، في إطار الفضاء العام الذي تشكّله المدينة. ومن خلال هذه الفضاءات، العامّة والخاصّة، يفتح أحمد طيباوي على الفساد السياسي والإداري والقضائي، البيروقراطية، النفاق، الازدواجية الاجتماعية، وسواها من المشكلات التي تعتور العالم المرجعي للرواية، في تسعينيات القرن العشرين، في ما عُرِف بسنوات العشرية الجزائرية، التي اندلعت فيها المواجهات العنيفة بين السلطة الحاكمة و"الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، والسنوات اللاحقة لها.
في العنوان، نقع على تهميشٍ مضاعف، فبطل الرواية بلا اسم، وقد أطلق عليه الكاتب تسمية "لا أحد"، وغياب الاسم مؤشّرٌ أوّل على التهميش، وتأتي كلمة "اختفاء" لتشكّل مؤشّراً ثانياً عليه. وبذلك، يتضاعف التهميش، ويشي العنوان باختفاء الاختفاء.
في المتن، يتمحور الروي في النصف الأوّل من الرواية المعنون ب"الرجل الذي خلع وجهه ورحل" حول السيّد لا أحد، من ظهوره حتى اختفائه. ويتمحور النصف الثاني منها المعنون ب"الجحيم يُطلّ من النافذة" حول المحقّق الذي يقوم بالبحث عن الرجل المختفي. وتَحُفُّ بكلٍّ من المحورين مجموعة من الشخصيات المهمّشة، على اختلاف مواقعها وأدوارها. وتجدر الإشارة إلى أن النصف الثاني يبدأ من حيث ينتهي النصف الأوّل، ويقوم بإكماله، وإن لم تتمخّض هذه العملية عن جلاء كلّ ما يتعلّق بالأوّل، فثمّة ما لا تُصرّح به الرواية، وتترك لنا مجال الاستنتاج والتأويل.
البطل المجهول
يقيم السيّد لا أحد في شقّة صغيرة لا يملكها، في حي المحطّة الشعبي، ويكون عليه الاعتناء بشيخٍ عجوز مقابل الإقامة فيها، فالرجل الذي قاده التشرّد إلى هذا المكان، يجد نفسه مضطراًّ لخدمة العجوز كي يبعد عن نفسه غائلة التشرّد، وكي يفي بعهده لمراد الابن العاقّ الذي استغلّ حاجته وتشرّده ليملي عليه شروط إيوائه، وترك والده لمصيره متهرّباً من مسؤولية الاعتناء به على عتبة الرحيل، وهاجر إلى ألمانيا يطارد ملذّاته والرّغبات.
في مستهل الرواية، نقع على شخصية الرجل المجهول الذي يعهد إليه الكاتب بعملية الروي في النصف الأوّل المتعلّق به تعويضاً عن تجهيله، فنقع على رجل متوحّد، زاهدٍ في كلّ شيء، معرضٍ عن الدنيا والناس. وبمتابعة القراءة، نقع على المقدّمات التي آلت إلى هذه النتائج؛ فنرى طفلاً يتييم الأم والأب، تهتم به زوجة عمّه التي لا تُنجب ذكوراً، ويتمّ خطفه صبياًّ على يد جماعة إرهابية، فينقذه أحد ابناء قريته، سرج الغول شمالي سطيف، من موتٍ محتّم. ينتقل بعدها للإقامة عند خالته، حتى إذا ما ماتت، يرحل عن البيت، ويقوم بأعمالٍ متواضعة، فيعمل حمّالاً وزبّالاً ومتشرّداً، ويعاني الفقر والجوع واليتم والتهميش والاختلال العقلي، وحين تقوده خطاه إلى مراد، ذات تشرّد، يؤمّن له المأوى مقابل اهتمامه بوالده العجوز، فيشكّل بديلاً عن ضائع، وهو الذي كثيراً ما يحسّ أنّه زائد عن الحاجة، وينتابه إحساس مرَضيٌّ بالذنب والتقصير إزاء الآخرين.
تتّخذ علاقته بالعجوز المريض سليمان بن لؤي، المجاهد القديم المتحدّر من برج منايل، طابعاً جدلياًّ، فالعجوز الذي يعاني عقوق ابنه الوحيد مراد وتخلّيه عنه يرى فيه بديلاً من الابن، وكثيراً ما يناديه باسمه، والأخير يرى في العجوز بديلاً من والده الرحل، وتعويضاً له عن أبوّة مفقودة. ولذلك، يأخذ على عاتقه الاهتمام به التزاماً منه بالعهد الذي قطعه لابنه، وثمناً للمأوى الذ ي أمّنه له. وإزاء الأعمالٍ التي يقوم بها في إطار هذا الاهتمام ، من تنظيف، وتغيير حفاظات صحية، وإطعام، ومرافقة في المستشفى، وغيرها من أعمال يأنف كثيرون من القيام بها، يعيش "لا أحد" صراعاً بين التزامه ورغبته في التحرّر منه والذهاب في سبيله، ينتصر بموجبه الأوّل على الثاني، انطلاقاً من إحساسه المرَضي بالمسؤولية، ووفاءً لصورة الأب المفقود التي يجسّدها الشيخ المريض. ولذلك، يقرّر ملازمته والاستمرار في الاعتناء به، حتى إذا ما مات المريض، يختفي عن الوجود نهائياًّ مضيفاً إلى اختفاء الاسم اختفاء المسمّى.
في إطار العلاقات الأخرى العابرة التي تنخرط فيها هذه الشخصية، نتعرّف إلى مجموعة من الشخصيات، ذات المنشأ الريفي تعيش على هامش المدينة، وتصطدم بها، ما يعود عليها بالتهميش، وينعكس تعثّراً في مساراتها وعثاراً في مصائرها. وهي شخصيات تتعاطى معه غالباً من موقع الاستغلال والابتزاز والتهديد، وكثيراً ما يرضخ لها تحت وطأة الحاجة إلى المال أو التخفّي، لهربه، ذات يوم، من مستشفى للأمراض العقلية، حتى إذا ما اكتشف، في نهاية المطاف، أن حجم الجنون خارج المستشفى أكبر منه داخله بات يفكّر في العودة إليه، مرّةً أخرى. وحسبنا الأشارة إلى خمس شخصيات، في هذا الإطار.
شخصيّات هامشية
الشخصية الأولى هي "عمّي مبارك" الشيخ الذي يبحث عن الاحترام في أوساط المحيطين به، ويُحبّ أن ينادوه بهذا الاسم. ولعلّه يفعل ذلك تعويضاً عن حاجة تنقصه. يتحدّر من أصول ريفية، فقد قدم المدينة وحيداً، جائعاً، واشتغل كثور ليجمع المال، حتى إذا ما فعل، يصبح من أهل الجمع والمنع، فيمتنع عن إقراض القليل منه للراوي كي يؤمّن الطعام للشيخ المريض، ويزمع الزواج في نهاية العمر من أربعينية تنجب له صبياًّ، فلا ينتقل المال إلى أصهرته الكسالى.
الشخصية الثانية هي عثمان لاقوش، صاحب المكتبة، الذي يحب الجدل، الآتي من ماضٍ سياسيٍّ وثقافيٍّ محبط ظناًّ منه أنّه مشروع زعيمٍ أو مثقّف، حتّى إذا ما فشل في الانتخابات البلدية، يتردّى في هوّة الإحباط، ويصبّ جام نقمته على المثقّفين. ويزيد الطين بلّة كساد تجارته الكتبيّة، وتخلّي زوجته عنه لفقره وعجزه الجنسي وارتباطها بآخر، فيجمع بين الفشلين المعنوي والجسدي. وإزاء تردّي أحواله، ومعاناته الجوع، بعد إقفال مكتبته، يُضطرّ إلى الخدمة في بيت "عمّي مبارك" مقابل الطعام، ما يُشكّل سقوطاً مريعاً لأحلامه الكبيرة المجهضة، ويدفع به إلى الارتماء تحت عجلات القطار.
الشخصية الثالثة هي قادة البيّاع، المخبر لدى السلطات الأمنية، المتحدّر من تجربة فاشلة في ممارسة الإرهاب، حتى إذا ما تمّ القبض عليه، ويُسام صنوف التعذيب، يتحوّل إلى مخبرٍ رخيص يتربّص بأهل الحي الدوائر، فَيُسَمّونه ب"كلب الشرطة"، في إشارة روائية واضحة إلى رفض العالم المرجعي هذه المهمّة واحتقاره القائمين بها.
الشخصية الرابعة هي جلال، حارس المقبرة الملقّب ب" الأعمش". وهو شخص "بربع عقل لحياة مجنونة"، منسيٌّ، يمارس الانتقام من كبار الموتى ببيع عظامهم سراًّ ليعيل أسرته.
المحقّق الفاشل
في النصف الثاني من الرواية، يؤول الدور المحوري إلى رفيق ناصري، المحقّق الكفوء الذي يُكلّف البحث عن المختفي. وهنا، يسند الكاتب الروي إلى الراوي العليم، فيرصد الشخصية في قيامها بمهمّتها إجراءات ونتائج. ومن خلال هذا الرصد، يرسم الروائي / الراوي بورتريه شخصية تجمع بين صفات مثالية، من جهة، وصفات واقعية أو ما دون واقعية، من جهة ثانية. ولعلّ الأخيرة هي التي عزّزت الأولى. فالمحقق كفوء، نزيه، مبدئي، ومتفانِ في عمله. لكنّه، في الوقت نفسه، وحيدٌ، محروم، عقيم، متردّد، ومقطوع من شجرة، ما يجعله يُغرِق نفسه في العمل، وينجح فيه. لذلك، يقوم، في إطار تنفيذ مهمّته، بجميع الإجراءات لجلاء سرّ اختفاء "لا أحد"، من زيارات ميدانية، ومراجعة مستندات، وضبط إفادات، ومراقبة أمكنة، وغيرها. وإذ يصطدم بتناقض الإفادات وتضارب التوصيفات وتضليل التحقيق، ويخفق في الوصول إلى النتائج المرجوّة، يصرّ على طلب الإعفاء من مهمّته، لكنه يستمرّ في القيام بها، خارج التكليف الرسمي، جاعلاً منها قضيّته الخاصة، لوجود تشابه بين الباحث والمبحوث عنه، إلى حدّ التماهي بينهما، فيصبح البحث عن الآخر بحثاً عن الذات، لكنه يعود من الغنيمة بالإياب.
من خلال هذه الأحداث، يلقي أحمد طيباوي الضوء على شريحة من المهمّشين في العالم المرجعي الذي يُحيل إليه. ويلقي من خلالهم الضوء على مشكلات يعاني مها هذا العالم، سبقت الإشارة إليها. وهو يفعل ذلك بتقنيات بسيطة، ولغة طازجة لا تتورّع عن تسمية الأشياء بأسمائها، واستخدام المفردات "النابية"، والتشابيه الطريفة، ما يمنح النصّ طزاجته، والأحداث صدقيتها، ويجعل الرواية مادّة للمتعة والفائدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.