5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب روسي يكشف بعض الحقائق عن "دكتور جيفاغو"
نشر في صوت البلد يوم 07 - 06 - 2020

في مثل هذه الأيام قبل مئة وثلاثين عاماً وُلد الكاتب الروسي بوريس باسترناك، ليموت سوفياتياً بعد ذلك بسبعين عاماً، مخلّفاً بين أشعار وكتابات متنوعة أخرى، رواية طويلة واحدة لا شك أن في الإمكان اعتبارها الأشهر بين كل ما كُتب من أدب روائي في اللغة الروسية طوال القرن العشرين، حتى وإن لم تكن الرواية قد نُشِرت للمرة الأولى في موسكو بل في روما.
ولهذا حكاية سنعود إليها بعد سطور. أما هنا وفي عودة لا بد منها، إلى هذه الرواية، "دكتور جيفاغو"، وصاحبها لمناسبة ذكراه المزدوجة، نبدأ مما هو أكثر وضوحاً. من الرواية نفسها التي على الرغم مما سنحكيه عنها في السطور التالية ستبقى واحدة من أجمل روايات القرن الفائت، من دون أن ننسى أن فيلم ديفيد لين الذي اقتُبس عنها من بطولة عمر الشريف وجولي كريستي سيبقى من أجمل الأفلام. ناهيك بسمة أساسية للرواية تبدو منسية، وهي أنه لو أُجري استفتاءٌ بين أكبر عددٍ ممكن من نقّاد الأدب ومؤرخيه في أزمنتنا الحديثة عن أجمل رواية حب كُتِبت في كل الأزمان ستكون رواية "دكتور جيفاغو" بين الروايات العشر الأولى، بل ربما تحتل المركز الأول. وهو أمر يتناقض مع جوهر الحكاية التي نرويها هنا بالطبع!
رومانطيقية مثيرة للغضب
أجل، لا بد من القول من دون مبالغة إن "دكتور جيفاغو"، واحدة من أكبر روايات القرن العشرين. وكذلك يمكن القول إن الفيلم الساحر الذي اقتُبِس عنها فيلم كبير، مغرق كالرواية في رومانطيقيته، بخاصة من خلال إبداعه في نقل حكاية الحب التي أبدع تمثيلها في الفيلم نجمنا العربي عمر الشريف والفاتنة جولي كريستي. وأجل، أيضاً، يمكن تصوّر أن رفض باسترناك نيل جائزة نوبل للآداب التي مُنحت له بفضل هذه الرواية، كان يعتبر في موسكو على الأقل "موقفاً وطنياً شجاعاً"، ارتبط بواحدة من القضايا الأدبية الأكثر إثارة، طوال القرن العشرين. غير أن هذا كله لا يمنع أن وراء القضية والرواية، كان هناك ذلك الصراع الهائل الذي طبع الحرب الباردة أواسط ذلك القرن، وكان قطباه، ال"سي آي إي" من ناحية، وال"كا جي بي" من ناحية أخرى، أي جهاز الاستخبارات الأميركي في مقابل نظيره السوفياتي.
والحقيقة أن هذا البعد "الخفي" الذي يكمن في خلفية صدور "دكتور جيفاغو" كان معروفاً منذ زمن بعيد، لكن الأمر كان لا يزال في حاجة إلى ربط شامل وتوثيق ليلقي عليه مزيداً من الأضواء. تلك الأضواء التي تقول إن المسألة كلها لم تكن بريئة براءة نظرات الحب المتبادلة بين الدكتور جيفاغو نفسه وفاتنته لارا. والمعروف أن في الرواية جانبين أساسيين، تمثل حكاية الحب الرائع أحدهما، أما الجانب الآخر، الذي يشكل الخلفية كلها وأساس حكايتنا هنا، فإنما هو صورة الثورة الروسية كما قدمها باسترناك في الرواية. ونعرف أنها صورة بالغة السلبية، ولكن قوية الإقناع أيضاً، إلى درجة أن كُثراً يرون أن هذه الرواية قدمت المساهمة الأساسية في "تشويه" صورة الثورة البلشفية التي أدت إلى قيام الدولة الاشتراكية الكبرى، لا سيما بعد زهو الحرب العالمية الثانية. ثم بعد موت ستالين وسعي الحزب الشيوعي السوفياتي وسلطات موسكو إلى تحميله الآثام والمساوئ كلها. لقد أتت الرواية لتقول: لا، المسألة لم تبدأ مع ستالين، بل مع الثورة البلشفية نفسها. ومن هنا تبدأ الحكاية.
هل هي الحكاية كلها؟
حكايتنا هذه نظمها ووثقها، إذاً، كتاب صدر في موسكو ولكن بعد سقوط المنظومة الاشتراكية برمّتها، من تأليف إيفان تولستوي (لا علاقة له حسب علمنا بالكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي)، عنوانه "دكتور جيفاغو بين ال(سي آي إي) وال(كا جي بي)". والكتاب يروي الحكاية بادئاً بالتعريف ببوريس باسترناك بكونه ناقداً وشاعراً وروائياً كان معروفاً في الاتحاد السوفياتي منذ عشرينيات القرن الفائت. وباسترناك، ما إن رحل ستالين عام 1953، حتى أرسل إلى مجلة "نوفي مير" رواية ضخمة عنوانها "دكتور جيفاغو" (وهو لن يكتب غيرها) على أمل نشرها. كانت الرواية تروي، كما نعرف حكاية الثورة الروسية من خلال حياة ومغامرات طبيب مثقف هو جيفاغو نفسه. لم ترفض المجلة، ومن ورائها "السلطات الأدبية" المشرفة عليها، نشر الرواية. لكنها لم تنشرها! واستبد القلق بباسترناك. بعد ذلك بثلاث سنوات كان عضوٌ في الحزب الشيوعي الإيطالي يزور موسكو، فعرف بوجود الرواية وتمكّن من الحصول على نسخة من مخطوطتها، فأنبأ بالأمر صديقه الناشر الإيطالي الشاب فلترينيلي، الذي كان شيوعياً مشاكساً لا يتوقف عن البحث عن نصوص مثيرة لينشرها.
وعلى الفور أدرك الناشر أن بين يديه كنزاً أدبياً - وسياسياً - ثميناً. ومن هنا حين قررت "نوفي مير" في نهاية الأمر عدم نشر الرواية، اتصل فلترينيلي بباسترناك مقترحاً عليه نشرها في إيطاليا. وبالفعل، نشرت هناك بالروسية على الرغم من الضغوط التي مارسها الحزب الشيوعي الإيطالي على الناشر.
ويبدو أن الحزب الشيوعي الإيطالي كان يعرف عن الحكاية ما ظل كثرٌ يجهلونه: أي العون الذي قدمته منظمة أدبية عالمية تابعة ل"سي آي إي"، وممولة منها لنشر الرواية. وكانت هذه "منظمة حرية الثقافة"، التي روى كتاب بالإنجليزية عنوانه "من يدفع أجر الزمار" (صدر مترجماً إلى العربية قبل سنوات عن المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة في القاهرة)، حكايتها، مؤسسة أنشأتها الاستخبارات الأميركية لرفد الحرب الباردة بعناصر ثقافية، وأصدرت كتباً كثيرة كما أصدرت مجلات ثقافية في شتى اللغات ومنها مجلة "حوار" اللبنانية. والحقيقة أن فلترينيلي ما كان يمكنه أن ينشر رواية بالروسية في إيطاليا، من دون ذلك العون.
تواطؤ الأمم المتحدة
وعلى هذا النحو، وكما يؤكد كتاب إيفان تولستوي بالوثائق، تحوّلت القضية الأدبية إلى قضية سياسية. بل إن منظمة حرية الثقافة التي نتحدث عنها تولت تمويل ترجمة الرواية على الفور إلى أكثر من أربعين لغة. ثم، وهنا اتخذت القضية منحى آخر تماماً، أوعزت ال"سي آي إي" بترشيح باسترناك للحصول على جائزة نوبل الأدبية عام 1958، ضد ألبرتو مورافيا، ما فتح الباب واسعاً أمام الصحافة الإيطالية لفضح الحكاية كلها في ذلك الحين، لكن ما كتبته تلك الصحافة كان أقرب إلى التخمين حينها. أما اليوم، وبعد صدور كتاب إيفان تولستوي، فإن الحكاية باتت مختلفة إلى درجة أن صحيفة "آ بي سي" الإسبانية رجحت أن من عمل لحصول باسترناك على نوبل، كان داغ همرشولد، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، الذي كان في الوقت نفسه، حسب الصحيفة، "عميلاً ل"سي آي إي" وعضواً في لجنة نوبل.
المهم أن باسترناك فاز يومها بالجائزة العالمية، لكنه رفض تسلمها؟ فهل كان الرفض من تلقائه؟ أبداً... كان - بالتأكيد - تحت ضغط ال"كي جي بي"، التي كانت تجابه المساعي الاستخباراتية الأميركية لحظة بلحظة. فإذا كانت ال"سي آي إي" قد طبعت ألوف النسخ من الرواية لتوزعها مجاناً في معرض بروكسل عام 1958 تحت سمع الوفد السوفياتي وبصره، وإذا كان العالم قد سمع بعد ذلك بأيام بأن باسترناك فاز بجائزة نوبل، فإن العالم نفسه دهش حين علم على الفور، بعد ذلك أن باسترناك لن يكتفي بعدم التوجّه إلى ستوكهولم للحصول على الجائزة، بل سيرفضها أيضاً.
باسترناك مات بعد ذلك بفترة قصيرة، لكن الرواية عاشت من بعده، ثم عاشت على شكل فيلم سينمائي خالد، ولا يزال والرواية يعتبران عملين كبيرين حتى بعد زوال ال"كا جي بي" والحرب الباردة كلها.
في مثل هذه الأيام قبل مئة وثلاثين عاماً وُلد الكاتب الروسي بوريس باسترناك، ليموت سوفياتياً بعد ذلك بسبعين عاماً، مخلّفاً بين أشعار وكتابات متنوعة أخرى، رواية طويلة واحدة لا شك أن في الإمكان اعتبارها الأشهر بين كل ما كُتب من أدب روائي في اللغة الروسية طوال القرن العشرين، حتى وإن لم تكن الرواية قد نُشِرت للمرة الأولى في موسكو بل في روما.
ولهذا حكاية سنعود إليها بعد سطور. أما هنا وفي عودة لا بد منها، إلى هذه الرواية، "دكتور جيفاغو"، وصاحبها لمناسبة ذكراه المزدوجة، نبدأ مما هو أكثر وضوحاً. من الرواية نفسها التي على الرغم مما سنحكيه عنها في السطور التالية ستبقى واحدة من أجمل روايات القرن الفائت، من دون أن ننسى أن فيلم ديفيد لين الذي اقتُبس عنها من بطولة عمر الشريف وجولي كريستي سيبقى من أجمل الأفلام. ناهيك بسمة أساسية للرواية تبدو منسية، وهي أنه لو أُجري استفتاءٌ بين أكبر عددٍ ممكن من نقّاد الأدب ومؤرخيه في أزمنتنا الحديثة عن أجمل رواية حب كُتِبت في كل الأزمان ستكون رواية "دكتور جيفاغو" بين الروايات العشر الأولى، بل ربما تحتل المركز الأول. وهو أمر يتناقض مع جوهر الحكاية التي نرويها هنا بالطبع!
رومانطيقية مثيرة للغضب
أجل، لا بد من القول من دون مبالغة إن "دكتور جيفاغو"، واحدة من أكبر روايات القرن العشرين. وكذلك يمكن القول إن الفيلم الساحر الذي اقتُبِس عنها فيلم كبير، مغرق كالرواية في رومانطيقيته، بخاصة من خلال إبداعه في نقل حكاية الحب التي أبدع تمثيلها في الفيلم نجمنا العربي عمر الشريف والفاتنة جولي كريستي. وأجل، أيضاً، يمكن تصوّر أن رفض باسترناك نيل جائزة نوبل للآداب التي مُنحت له بفضل هذه الرواية، كان يعتبر في موسكو على الأقل "موقفاً وطنياً شجاعاً"، ارتبط بواحدة من القضايا الأدبية الأكثر إثارة، طوال القرن العشرين. غير أن هذا كله لا يمنع أن وراء القضية والرواية، كان هناك ذلك الصراع الهائل الذي طبع الحرب الباردة أواسط ذلك القرن، وكان قطباه، ال"سي آي إي" من ناحية، وال"كا جي بي" من ناحية أخرى، أي جهاز الاستخبارات الأميركي في مقابل نظيره السوفياتي.
والحقيقة أن هذا البعد "الخفي" الذي يكمن في خلفية صدور "دكتور جيفاغو" كان معروفاً منذ زمن بعيد، لكن الأمر كان لا يزال في حاجة إلى ربط شامل وتوثيق ليلقي عليه مزيداً من الأضواء. تلك الأضواء التي تقول إن المسألة كلها لم تكن بريئة براءة نظرات الحب المتبادلة بين الدكتور جيفاغو نفسه وفاتنته لارا. والمعروف أن في الرواية جانبين أساسيين، تمثل حكاية الحب الرائع أحدهما، أما الجانب الآخر، الذي يشكل الخلفية كلها وأساس حكايتنا هنا، فإنما هو صورة الثورة الروسية كما قدمها باسترناك في الرواية. ونعرف أنها صورة بالغة السلبية، ولكن قوية الإقناع أيضاً، إلى درجة أن كُثراً يرون أن هذه الرواية قدمت المساهمة الأساسية في "تشويه" صورة الثورة البلشفية التي أدت إلى قيام الدولة الاشتراكية الكبرى، لا سيما بعد زهو الحرب العالمية الثانية. ثم بعد موت ستالين وسعي الحزب الشيوعي السوفياتي وسلطات موسكو إلى تحميله الآثام والمساوئ كلها. لقد أتت الرواية لتقول: لا، المسألة لم تبدأ مع ستالين، بل مع الثورة البلشفية نفسها. ومن هنا تبدأ الحكاية.
هل هي الحكاية كلها؟
حكايتنا هذه نظمها ووثقها، إذاً، كتاب صدر في موسكو ولكن بعد سقوط المنظومة الاشتراكية برمّتها، من تأليف إيفان تولستوي (لا علاقة له حسب علمنا بالكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي)، عنوانه "دكتور جيفاغو بين ال(سي آي إي) وال(كا جي بي)". والكتاب يروي الحكاية بادئاً بالتعريف ببوريس باسترناك بكونه ناقداً وشاعراً وروائياً كان معروفاً في الاتحاد السوفياتي منذ عشرينيات القرن الفائت. وباسترناك، ما إن رحل ستالين عام 1953، حتى أرسل إلى مجلة "نوفي مير" رواية ضخمة عنوانها "دكتور جيفاغو" (وهو لن يكتب غيرها) على أمل نشرها. كانت الرواية تروي، كما نعرف حكاية الثورة الروسية من خلال حياة ومغامرات طبيب مثقف هو جيفاغو نفسه. لم ترفض المجلة، ومن ورائها "السلطات الأدبية" المشرفة عليها، نشر الرواية. لكنها لم تنشرها! واستبد القلق بباسترناك. بعد ذلك بثلاث سنوات كان عضوٌ في الحزب الشيوعي الإيطالي يزور موسكو، فعرف بوجود الرواية وتمكّن من الحصول على نسخة من مخطوطتها، فأنبأ بالأمر صديقه الناشر الإيطالي الشاب فلترينيلي، الذي كان شيوعياً مشاكساً لا يتوقف عن البحث عن نصوص مثيرة لينشرها.
وعلى الفور أدرك الناشر أن بين يديه كنزاً أدبياً - وسياسياً - ثميناً. ومن هنا حين قررت "نوفي مير" في نهاية الأمر عدم نشر الرواية، اتصل فلترينيلي بباسترناك مقترحاً عليه نشرها في إيطاليا. وبالفعل، نشرت هناك بالروسية على الرغم من الضغوط التي مارسها الحزب الشيوعي الإيطالي على الناشر.
ويبدو أن الحزب الشيوعي الإيطالي كان يعرف عن الحكاية ما ظل كثرٌ يجهلونه: أي العون الذي قدمته منظمة أدبية عالمية تابعة ل"سي آي إي"، وممولة منها لنشر الرواية. وكانت هذه "منظمة حرية الثقافة"، التي روى كتاب بالإنجليزية عنوانه "من يدفع أجر الزمار" (صدر مترجماً إلى العربية قبل سنوات عن المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة في القاهرة)، حكايتها، مؤسسة أنشأتها الاستخبارات الأميركية لرفد الحرب الباردة بعناصر ثقافية، وأصدرت كتباً كثيرة كما أصدرت مجلات ثقافية في شتى اللغات ومنها مجلة "حوار" اللبنانية. والحقيقة أن فلترينيلي ما كان يمكنه أن ينشر رواية بالروسية في إيطاليا، من دون ذلك العون.
تواطؤ الأمم المتحدة
وعلى هذا النحو، وكما يؤكد كتاب إيفان تولستوي بالوثائق، تحوّلت القضية الأدبية إلى قضية سياسية. بل إن منظمة حرية الثقافة التي نتحدث عنها تولت تمويل ترجمة الرواية على الفور إلى أكثر من أربعين لغة. ثم، وهنا اتخذت القضية منحى آخر تماماً، أوعزت ال"سي آي إي" بترشيح باسترناك للحصول على جائزة نوبل الأدبية عام 1958، ضد ألبرتو مورافيا، ما فتح الباب واسعاً أمام الصحافة الإيطالية لفضح الحكاية كلها في ذلك الحين، لكن ما كتبته تلك الصحافة كان أقرب إلى التخمين حينها. أما اليوم، وبعد صدور كتاب إيفان تولستوي، فإن الحكاية باتت مختلفة إلى درجة أن صحيفة "آ بي سي" الإسبانية رجحت أن من عمل لحصول باسترناك على نوبل، كان داغ همرشولد، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، الذي كان في الوقت نفسه، حسب الصحيفة، "عميلاً ل"سي آي إي" وعضواً في لجنة نوبل.
المهم أن باسترناك فاز يومها بالجائزة العالمية، لكنه رفض تسلمها؟ فهل كان الرفض من تلقائه؟ أبداً... كان - بالتأكيد - تحت ضغط ال"كي جي بي"، التي كانت تجابه المساعي الاستخباراتية الأميركية لحظة بلحظة. فإذا كانت ال"سي آي إي" قد طبعت ألوف النسخ من الرواية لتوزعها مجاناً في معرض بروكسل عام 1958 تحت سمع الوفد السوفياتي وبصره، وإذا كان العالم قد سمع بعد ذلك بأيام بأن باسترناك فاز بجائزة نوبل، فإن العالم نفسه دهش حين علم على الفور، بعد ذلك أن باسترناك لن يكتفي بعدم التوجّه إلى ستوكهولم للحصول على الجائزة، بل سيرفضها أيضاً.
باسترناك مات بعد ذلك بفترة قصيرة، لكن الرواية عاشت من بعده، ثم عاشت على شكل فيلم سينمائي خالد، ولا يزال والرواية يعتبران عملين كبيرين حتى بعد زوال ال"كا جي بي" والحرب الباردة كلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.