رغم إيمانه بالثورة البلشفية في بدايتها، والآمال التي عقدها عليها، ورغم أن الحاكم الأسطوري للاتحاد السوفيتي ستالين أنقذه بنفسه من الاعتقال، وشاهد عبر سنوات عمليات مخيفة من القمع، أدت في النهاية بعد ضغط كبير إلى كفره بالشيوعية، فكتب رائعته الأشهر "دكتور زيفاجو"، التي حازت شهرة عالمية جعلته يفوز بجائزة نوبل في الآداب، ولكنه رفض استلامها، إنه الكاتب الروسي بوريس باسترناك. ولد بوريس باسترناك في 10 فبراير 1890 بالعاصمة الروسية موسكو، لأب يهودي تحول إلى الأرثوذكسية كان رساما متميزا وأستاذا في معهد الفنون، وأم عازفة بيانو مشهورة، لينشأ الطفل في جو عالمي منفتح على مختلف الثقافات، وكان من زوار والده الدائمين سيرجي رحمانينوف، ريلكه، والأديب العظيم ليو تولستوي. في سن العشرين دخل بوريس معهد الكونسيرفتوار بموسكو، لكنه سرعان ما تركه، ليدرس الفلسفة في جامعة ماربورج، ورغم نجاحه الدراسي إلا أنه رفض العمل في تدريس الفلسفة وترك الجامعة عام 1914، وهو العام ذاته الذي أصدر فيه ديوانه الأول. خلال الحرب العالمية الأولى، عمل باسترناك ودرس في مختبر للكيميائيات في جبال الأورال، وهي التجربة التي أفادته كثيرًا في رائعته "دكتور زيفاجو"، وعلى العكس من الكثيرين من أبناء طبقته، وأصدقائه، وأقاربه الذين تركوا روسيا، التي تحولت إلى الاتحاد السوفيتي بعد الثورة البلشفية، فإنه بقي في بلاده منبهرًا بشعارات الثورة، حالمًا بالتغيير عبرها. مع حلول عام 1932 كان باسترناك قد غير من أسلوبه بشكل جذري ليتوافق مع المفاهيم السوفييتة الجديدة، وجاءت مجموعته "الولادة الثانية"، التي كان جزءها القوقازي كان مبتكرا من الناحية الأدبية، لتُصيب مُحبيه في الخارج بخيبة أمل، ثم ذهب إلى أبعد من هذا في التبسيط والمباشرة في الوطنية في مجموعته التالية"قطارات مبكرة"، وهو الأمر الذي دفع الأديب نابوكوف إلى وصفه ب"البُلشفي المتباكي"، وجاءت حملات التطهير في أواخر الثلاثينات، لتُصيبه بالخذلان والخيبة من الشعارات الشيوعية، فامتنع عن نشر شعره، وتوجه إلى ترجمة الشعر العالمي إلى الروسية، فقدم أعمال شكسبير "هاملت، ماكبث، الملك لير"، ورائعة جوته "فاوست"، إضافة إلى مجموعة من الشعراء الذين كان يحبهم الزعيم السوفيتي ستالين، وهو ما أنقذه من الاعتقال أثناء حملات التطهير، حيث مُررت قائمة بأسماء من صدرت أوامر باعتقالهم أمام ستالين، فحذفه قائلًا "لا تلمسوا ساكن الغيوم هذا". وقبيل سنوات قلائل من الحرب العالمية الثانية، استقر باسترناك وزوجته في قرية صغيرة ضمت مجموعة من الكتاب والمثقفين، وهناك بدأ في كتابة روايته الأشهر "الدكتور زيفاجو"، والتي قيل إن بطلتها "لارا" تمثل عشيقته أولجا إيفنسكايا؛ ولكن بسبب الانتقاد الشديد الموجه للنظام الشيوعي، لم يجد باسترناك ناشرًا يستطيع أو يرضى بنشر الرواية في الاتحاد السوفيتي، لذلك قام بتهريبها عبر الحدود إلى إيطاليا، ونشرت عام 1957، وأحدثت أصداء واسعة كانت سلبية في الاتحاد السوفيتي، وإيجابية في الغرب، ورغم أنه لا أحد من النقاد الروس قد قرأ الرواية إلا أنهم هاجموها بعنف، بل وطالبوا بطرد باسترناك خوفًا من النظام، وفي العام التالي تم منحه جائزة نوبل للآداب، لكنه رفضها. تم تحويل رواية دكتور زيفاجو إلى فيلم سينمائي عام 1965، من إخراج ديفيد لين، وبطولة الفنان المصري عمر الشريف وجولي كريستي، وقام موريس جار بتأليف الموسيقى التصويرية، وحصد الفيلم خمسة جوائز أوسكار، ويُعد ثامن أنجح فيلم في تاريخ شباك التذاكر العالمي. توفي بوريس باسترناك في 30 مايو 1960، ولم يحضر جنازته سوى بعض المعجبين المخلصين، ولم تنشر روايته في الاتحاد السوفيتي إلا عام 1987 مع بداية سياستي البيريسترويكا والجلاسنوست الإصلاحيتين اللتان تبناهما الرئيس الأسبق ميخائيل جورباتشوف، واللتان كانتا أحد أسباب انهيار الاتحاد في بداية التسعينات.