العام الهجري الجديد.. فضائل شهر محرم وأسباب تسميته بهذا الاسم؟    وزير خارجية إيران يدين تصريحات ترامب تجاه خامنئي ويصفها بالمهينة    موعد مباراة بالميراس ضد بوتافوجو والقنوات الناقلة مباشر في كأس العالم للأندية    «عنده ميزة واحدة».. أول رد من الزمالك بشأن مفاوضات محمد شريف    فاجعة جديدة في المنوفية.. مصرع 3 من أسرة واحدة في حادث على كوبري قويسنا    استشهاد 11 فلسطينيا في قصف للاحتلال استهدف خيم النازحين بحى الرمال غربى غزة    رسميًا.. موعد صيام يوم عاشوراء 2025 وأفضل الأدعية المستحبة لمحو ذنوب عام كامل    دون فلتر.. طريقة تنقية مياه الشرب داخل المنزل    قانون العمل الجديد يصدر تنظيمات صارمة لأجهزة السلامة والصحة المهنية    رئيس الجمعية الطبية المصرية: دعم استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج    ستوري نجوم كرة القدم.. مناسبة لإمام عاشور.. تهنئة شيكابالا لعضو إدارة الزمالك.. رسائل لعبدالشافي    «ملوش علاقة بأداء الأهلي في كأس العالم للأندية».. إكرامي يكشف مفاجأة عن ريبيرو    عمرها 16 عاماً ووالديها منفصلين.. إحباط زواج قاصر في قنا    انتداب المعمل الجنائى لفحص حريق بمول شهير في العبور    أسماء أبو اليزيد: الضرب في «فات الميعاد» مش حقيقي    استمرار تدريبات خطة النشاط الصيفي بمراكز الشباب في سيناء    واشنطن تؤكد لمجلس الأمن: استهدفنا قدرات إيران النووية دفاعًا عن النفس    أحمد كريمة ينفعل بسبب روبوت يقوم بالحمل ورعاية الطفل خلال ال9 أشهر| فيديو    الخارجية الأردنية تعزى مصر فى ضحايا حادث التصادم فى المنوفية    جامعة الازهر تشارك في المؤتمر الطبي الأفريقي Africa Health ExCon 2025    عراقجي: إسرائيل اضطرت للجوء إلى الولايات المتحدة لتجنب قصفنا الصاروخي    جيش الاحتلال يصيب 4 فلسطينيين بالضفة    ترامب: من الممكن التوصل إلى وقف لإطلاق النار بغزة خلال أسبوع    شيخ الأزهر ينعى فتيات قرية كفر السنابسة بالمنوفية ضحايا حادث الطريق الإقليمي    حسام الغمري: «الاختيار» حطم صورة الإخوان أمام العالم (فيديو)    طفرة فى منظومة التعليم العالى خلال 11 عامًا    أسعار الفراخ البيضاء والبلدى وكرتونة البيض في الأسواق اليوم السبت 28 يونيو 2025    أسعار الذهب اليوم وعيار 21 الآن عقب آخر تراجع ببداية تعاملات السبت 28 يونيو 2025    عبداللطيف: الزمالك يحتاج إلى التدعيم في هذه المراكز    عمرو أديب: الهلال السعودي شرَّف العرب بمونديال الأندية حقا وصدقا    نجم الزمالك السابق: الأهلي يرفع سقف طموحات الأندية المصرية    رافينيا يوجه رسالة إلى ويليامز بعد اقترابه من الانضمام إلى برشلونة    فصل الكهرباء عن قرية العلامية بكفر الشيخ وتوابعها اليوم لصيانة المُغذى    تريلات وقلابات الموت.. لماذا ندفع ثمن جشع سماسرة النقل الثقيل؟!    التعليم تكشف تفاصيل جديدة بشأن امتحان الفيزياء بالثانوية العامة    مقتل شاب على يد ابن عمه بسبب الميراث    شيماء طالبة بالهندسة.. خرجت لتدبير مصروف دراستها فعادت جثة على الطريق الإقليمي    حزب الجبهة يقدّم 100 ألف جنيه لأسرة كل متوفى و50 ألفا لكل مصاب بحادث المنوفية    استمرار الأجواء الحارة والرطبة.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم والشبورة صباحًا    مصرع صياد وابنه غرقا في نهر النيل بالمنيا    «الزراعة»: ملتزمون بالتعاون مع إفريقيا وأوروبا لبناء سلاسل أكثر كفاءة    هدير.. طالبة التمريض التي ودّعت حلمها على الطريق الإقليمي    عماد الدين حسين: إيران وحدها من تملك الحقيقة الكاملة بشأن ضرب المنشآت النووية    عمرو أديب عن حادث المنوفية: «فقدوا أرواحهم بسبب 130 جنيه يا جدعان» (فيديو)    ستجد نفسك في قلب الأحداث.. توقعات برج الجدي اليوم 28 يونيو    الصحف المصرية: قانون الإيجار القديم يصل إلى محطته الأخيرة أمام «النواب»    لحظة إيثار النفس    «زي النهارده».. وفاة الشاعر محمد عفيفي مطر 28 يونيو 2010    مصر تفوز بعضوية مجلس الإدارة ولجنة إدارة المواصفات بالمنظمة الأفريقية للتقييس ARSO    مدارس البترول 2025 بعد الإعدادية.. المصروفات والشروط والأوراق المطلوبة    برئاسة خالد فهمي.. «الجبهة الوطنية» يعلن تشكيل أمانة البيئة والتنمية المستدامة    لماذا صامه النبي؟.. تعرف على قصة يوم عاشوراء    بعنوان "الحكمة تنادي".. تنظيم لقاء للمرأة في التعليم اللاهوتي 8 يوليو المقبل    أمانة الحماية الاجتماعية ب«الجبهة الوطنية»: خطة شاملة بأفكار لتعزيز العدالة الاجتماعية والتمكين الاقتصادي    فنانة شهيرة تصاب ب انقطاع في شبكية العين.. أعراض وأسباب مرض قد ينتهي ب العمى    اعرف فوائد الكركم وطرق إضافتة إلي الطعام    15 نقطة تبرع وماراثون توعوي.. مطروح تحتفل باليوم العالمي للتبرع بالدم بشعار تبرعك يساوي حياة    ماذا نقول عند قول المؤذن في أذان الفجر: «الصلاة خير من النوم»؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"إلياذة" هوميروس الأكثر إنسانية بين الملاحم
نشر في صوت البلد يوم 03 - 05 - 2020

يروي الباحث الجامعي الإنجليزي إدوارد لوتووك، في مقال نشره قبل فترة بملحق تايمز الأدبي، أنه كان ذات مرة في مطار لوس أنجلوس، حين استبدّت به فجأة رغبة في قراءة صفحات من "الإلياذة" مترجمة إلى الإنجليزية، فراح يبحث في مواقع بيع المطبوعات بالمطار عن مراده، لتكون المفاجأة عثوره على عشر ترجمات مختلفة للكتاب في طبعات حديثة.
طبعاً، لم يعد همّ الباحث المقارنة بين الترجمات، لمعرفة أيها خدمت نصّ هوميروس الخالد أكثر من الأخرى، بل التساؤل بدهشة عمّا يجعل هذا النص على مثل هذه الحيوية والحضور في حياتنا اليومية بعد ألوف السنين من ولادته!
بتساؤلات لوتووك أو من دونها لا شكّ أن تلك الملحمة الإغريقية لا تزال حية بيننا، ليس فقط بما تحكيه، بل بالأسلوب الذي تحكي به، بالدروس التي توصّلها إلينا، بالعواطف والعلاقات الإنسانية المؤسسة، ما يجعل من البديهي اعتبارها "ملحمة الملاحم" سواء شاركتها بذلك توأمتها "الأوديسة" لهوميروس نفسه أو لم تشاركها.
فلئن كنّا نعرف تاريخياً أن لكل أمة من أمم الأرض ملحمتها أو ملحمتها الخاصة بها تطل من خلالها على الإنسانية، لا شكّ أن في إمكان الإغريق أن يفتخروا دائماً بأن ملحمتهم هي الأكثر إنسانية من بين كل الملاحم، بل حتى الأكثر ارتباطاً بالكرامة الإنسانية، كما سنلاحظ بعد سطور.
البداية من مصر
وفي انتظار ذلك قد يكون علينا أن نتذكّر أن نصوص هوميروس كان مقدّراً لها أن تضيع إلى الأبد، لولا العثور على كمية كبيرة من أوراق البردي في مصر ذات يوم، تبيّن بعد الدراسة والتمحيص أنها تحوي، بين الفقرات ال590 التي تحتويها، على 454 فقرة من "الإلياذة"، ما مكّن بالتالي من مواصلة البحث حتى العثور على فقرات لاحقة أوصلت ملحمتي هوميروس الكبيرتين إلى الناس، وليس إلى اليونانيين وحدهم بالطبع، طالما نعرف أن الملحمتين ترجمتا إلى كل لغات العالم تقريباً، لكن دائماً من دون أن يتمكّن أحدٌ من الإجابة عن أسئلة بدت دائماً بديهية: هل وُجد هوميروس حقّاً؟ وهل كان حقّاً شاعراً ضريراً؟ ومتى "كتب" أو بالأحرى "حكى" ملحمتيه، هو الحكواتي الأول والأشطر في تاريخ البشرية؟ ثم أين عاش فعلاً؟ وأين ولد وأين مات؟ وأكان ذلك في القرن الحادي عشر قبل الميلاد أم في التاسع أم الثامن أم السادس؟
كثرٌ زعموا ويزعم أكثر منهم اليوم أنهم عثروا على الأجوبة. لكن الحقيقة أنها كلها تخمينات، حتى وإن كان ثمة يقينٌ واحدٌ على الأقل يتعلق بالوقائع التاريخية التي "ترويها" "الإلياذة وتوأمتها": وقائع الحروب الطروادية من حول مدينة طروادة التي غلب الظن أنها تقع على ساحل البوسفور في بحر إيجة في ما يسمّى اليوم تركيا.
نعرفُ أن "الإلياذة" تتحدّث عن فصول أساسية، بل ختامية من الحروب الطروادية. بل حتى، أساساً، عن أعوامها الأخيرة وكيف انتهت، حيث نلاحظ كيف أن هوميروس يحوِّل تلك الحرب في نهاية الأمر إلى مسألة شخصية كونها اندلعت، بالنسبة إليه، وهو ما يتنافى طبعاً مع أي منطق، بل حتى مع الواقع التاريخي الذي يمكننا أن نقول إنه مدوّن، اندلعت كما يقول بسبب اختطاف باريس ابن ملك طروادة هيلينا الملكة الإغريقية، وتجمّع ملوك اليونان لمهاجمة طروادة، واستعادة الملكة خلال تلك المرحلة الأخيرة بما في ذلك مقتل باريس والصراع الذي سيدور بين أغاممنون وآخيل أحد كبار أبطال الحرب اليونانيين وما إلى ذلك، وصولاً إلى حيلة الحصان الخشبي التي مكّنت اليونانيين من الانتصار على الطرواديين وتدمير مدينتهم، بحيث لم تعد تقوم لها قائمة في التاريخ.
فتّش عن المرأة
إذن، الحكاية بالنسبة إلى هوميروس هي حكاية "فتش عن المرأة" من ناحية، وحكاية "غضب البطل آخيل" من ناحية أخرى. فهل هذا منطقيٌّ؟
في الحقيقة، إن مقارنة سريعة بين هذه الفرضية التي تكاد تكون "حكاية عائلية" في نص "الإلياذة"، والحكاية التي نجدها في خلفية "الأوديسة" أي حكاية يوليسيس وعودته إلى وطنه اليوناني في إيتاكا وإلى امرأته المحبة والمخلصة بينيلوب بعد غيبة سنوات طويلة قضاها مشاركاً في الحروب الطروادية، تجعلنا في دهشة لغلبة "الإلياذة" على "الأوديسة"، فتبعاً لكل منطق، كان يجب أن تكون المكانة الأولى للأخيرة، وعلى الأقل بالتوازي مع المكانة الكبيرة التي ستكون ليوليسيس نفسه في تاريخ الأدب والإبداع، هو الذي بالكاد نعثر عليه في الملحمة الأولى. فهل نحن هنا أمام مفارقة ما؟
بالتأكيد. لكنها مفارقة يمكن فهمها. فالحال أن يوليسيس بوصفه بطل الإلياذة بطل فرد يقوم برحلة عودة طويلة لا تخلو من المغامرات والبطولات والتدخلات السماوية والخبطات المسرحية التي تدور جميعها من حوله ومن حول أفعاله التي جعلت شخصيته تروق للقراء على مدى القرون والترجمات في شتى أنحاء العالم، لنجده حيناً يختفي خلف السندباد وحيناً في خلفية رواية "يوليسيس" لجيمس جويس، كي لا نذكر سوى هذين الحضورين الأشهر له. "الأوديسة" تُقرأ من أجل شخصية هذا البطل، ما يجعلها أقرب إلى أن تكون رواية مغامرات تتحلّق من حول فرد ذي مواصفات محددة ومعينة. أو هكذا فُهِم هذا العمل على أي حال.
بين منطقين
في المقابل، تتسّم "الإلياذة" بالسمات الملحمية البعيدة كل البعد عن "بيكارية" الأوديسّة، إذ حتى لو أخذنا بالعليّة العائلية الغرامية التي يقترحها علينا هوميروس، مع أننا نعرف أنّ الحروب الطروادية إنما اندلعت حقّاً طوال ما يقرب من قرن كامل هو القرن التاسع قبل المسيح ولأسباب تجارية واقتصادية تتعلق بمحاولة طروادة السيطرة على تلك الطرق البحرية التي كانت تصل بين مدن شرقيّ البحر الأبيض المتوسط ما جعل شتّى الشعوب الإغريقية تتحالف ضدها، وتشنّ عليها تلك الحرب التي أبادتها، إذن حتى لو أخذنا بفرضية هوميروس، من موقع إيماننا بأن ليس على الإبداع أن يتبع مجرى التاريخ حرفياً، بل يمكنه أن ينتخب منه ما يشاء شرط أن يكون المبدَع نفسه جديراً بذلك، سنجدنا أمام واحدٍ من أول النصوص التي جعلت البطولة معقودة للإنسان نفسه في علاقاته وأهوائه، خصوصاً في دفاعه المستميت عن كرامته الإنسانية.
ولئن كانت آلهة الملاحم، إغريقية أو غير إغريقية، خالدة دائماً ومعصومة عن أي محاسبة بالتالي وبالناتج لا تحتاج إلى أي مبرر لتصرّفاتها ينبني على أيّ من القيم الإنسانية التي يُفترض بالبشر التحلي بها، وهي تلك التي تمتلئ بها الملاحم وحتى عبر ملوك و"أنصاف آلهة" يتطلعون في مغامراتهم وصراعاتهم ومساعيهم إلى التشبّه بالآلهة، فإننا في "الإلياذة" أمام بشر قد يكونون أبطالاً استثنائيين أو ملوكاً أو محاربين لهم من شعبيتهم ما لهم، غير أنهم في نهاية الأمر بشرٌ يحبون ويغضبون ويستميتون في سبيل أن لا يحيق الظلم بهم، وهم في لحظات كثيرة يعيشون وإن بصمت وكرامة موتاً مؤكداً، ويغارون ويحقدون ويسامحون. وهم إذا كانوا يفعلون هذا فإنهم يفعلونه بوصفهم بشراً، لا باعتبارهم بشراً متفوقين.
الدفاع عما نملك
في "الإلياذة" آلهة وأفعال إلهية بالتأكيد، وهو شيء حتميٌّ نجده حتى في أكثر روايات القرن العشرين، وما قبله حداثة وقوة، ويمتلك هؤلاء سلطة غير محدودة من المستحيل مقاومتها يُعبَّر عنها بسُلطة الأقدار.
لكن، في المقابل لا بدّ لنا من أن نلاحظ كيف أن البشر، في "الأوديسة" نفسها في ما يعنينا هنا، يمتلكون في المقابل ما يمكننا أن نسميه اليوم كرامتهم الإنسانية، تلك التي يدافعون عنها ويحتضنونها ويموتون في سبيلها بأكثر مما يموتون في سبيل الأوطان والحبيبات والأرض، وما إلى ذلك.
وفي يقيننا أن هذا الواقع في حدّ ذاته، هو الذي يسبغ على "الإلياذة" قوتها وكينونتها. بكلمات أكثر اختصاراً: أبطال الملاحم يسعون عادة للحصول على ما لا يملكون: الخلود والألوهية والتفوق، فيما لا يفعل أبطال "الإلياذة" أكثر من الدفاع عن تلك الثروة التي يمتلكونها بالفعل، وتجعل إنسانيتهم ما هي عليه: الكرامة الإنسانية.
يروي الباحث الجامعي الإنجليزي إدوارد لوتووك، في مقال نشره قبل فترة بملحق تايمز الأدبي، أنه كان ذات مرة في مطار لوس أنجلوس، حين استبدّت به فجأة رغبة في قراءة صفحات من "الإلياذة" مترجمة إلى الإنجليزية، فراح يبحث في مواقع بيع المطبوعات بالمطار عن مراده، لتكون المفاجأة عثوره على عشر ترجمات مختلفة للكتاب في طبعات حديثة.
طبعاً، لم يعد همّ الباحث المقارنة بين الترجمات، لمعرفة أيها خدمت نصّ هوميروس الخالد أكثر من الأخرى، بل التساؤل بدهشة عمّا يجعل هذا النص على مثل هذه الحيوية والحضور في حياتنا اليومية بعد ألوف السنين من ولادته!
بتساؤلات لوتووك أو من دونها لا شكّ أن تلك الملحمة الإغريقية لا تزال حية بيننا، ليس فقط بما تحكيه، بل بالأسلوب الذي تحكي به، بالدروس التي توصّلها إلينا، بالعواطف والعلاقات الإنسانية المؤسسة، ما يجعل من البديهي اعتبارها "ملحمة الملاحم" سواء شاركتها بذلك توأمتها "الأوديسة" لهوميروس نفسه أو لم تشاركها.
فلئن كنّا نعرف تاريخياً أن لكل أمة من أمم الأرض ملحمتها أو ملحمتها الخاصة بها تطل من خلالها على الإنسانية، لا شكّ أن في إمكان الإغريق أن يفتخروا دائماً بأن ملحمتهم هي الأكثر إنسانية من بين كل الملاحم، بل حتى الأكثر ارتباطاً بالكرامة الإنسانية، كما سنلاحظ بعد سطور.
البداية من مصر
وفي انتظار ذلك قد يكون علينا أن نتذكّر أن نصوص هوميروس كان مقدّراً لها أن تضيع إلى الأبد، لولا العثور على كمية كبيرة من أوراق البردي في مصر ذات يوم، تبيّن بعد الدراسة والتمحيص أنها تحوي، بين الفقرات ال590 التي تحتويها، على 454 فقرة من "الإلياذة"، ما مكّن بالتالي من مواصلة البحث حتى العثور على فقرات لاحقة أوصلت ملحمتي هوميروس الكبيرتين إلى الناس، وليس إلى اليونانيين وحدهم بالطبع، طالما نعرف أن الملحمتين ترجمتا إلى كل لغات العالم تقريباً، لكن دائماً من دون أن يتمكّن أحدٌ من الإجابة عن أسئلة بدت دائماً بديهية: هل وُجد هوميروس حقّاً؟ وهل كان حقّاً شاعراً ضريراً؟ ومتى "كتب" أو بالأحرى "حكى" ملحمتيه، هو الحكواتي الأول والأشطر في تاريخ البشرية؟ ثم أين عاش فعلاً؟ وأين ولد وأين مات؟ وأكان ذلك في القرن الحادي عشر قبل الميلاد أم في التاسع أم الثامن أم السادس؟
كثرٌ زعموا ويزعم أكثر منهم اليوم أنهم عثروا على الأجوبة. لكن الحقيقة أنها كلها تخمينات، حتى وإن كان ثمة يقينٌ واحدٌ على الأقل يتعلق بالوقائع التاريخية التي "ترويها" "الإلياذة وتوأمتها": وقائع الحروب الطروادية من حول مدينة طروادة التي غلب الظن أنها تقع على ساحل البوسفور في بحر إيجة في ما يسمّى اليوم تركيا.
نعرفُ أن "الإلياذة" تتحدّث عن فصول أساسية، بل ختامية من الحروب الطروادية. بل حتى، أساساً، عن أعوامها الأخيرة وكيف انتهت، حيث نلاحظ كيف أن هوميروس يحوِّل تلك الحرب في نهاية الأمر إلى مسألة شخصية كونها اندلعت، بالنسبة إليه، وهو ما يتنافى طبعاً مع أي منطق، بل حتى مع الواقع التاريخي الذي يمكننا أن نقول إنه مدوّن، اندلعت كما يقول بسبب اختطاف باريس ابن ملك طروادة هيلينا الملكة الإغريقية، وتجمّع ملوك اليونان لمهاجمة طروادة، واستعادة الملكة خلال تلك المرحلة الأخيرة بما في ذلك مقتل باريس والصراع الذي سيدور بين أغاممنون وآخيل أحد كبار أبطال الحرب اليونانيين وما إلى ذلك، وصولاً إلى حيلة الحصان الخشبي التي مكّنت اليونانيين من الانتصار على الطرواديين وتدمير مدينتهم، بحيث لم تعد تقوم لها قائمة في التاريخ.
فتّش عن المرأة
إذن، الحكاية بالنسبة إلى هوميروس هي حكاية "فتش عن المرأة" من ناحية، وحكاية "غضب البطل آخيل" من ناحية أخرى. فهل هذا منطقيٌّ؟
في الحقيقة، إن مقارنة سريعة بين هذه الفرضية التي تكاد تكون "حكاية عائلية" في نص "الإلياذة"، والحكاية التي نجدها في خلفية "الأوديسة" أي حكاية يوليسيس وعودته إلى وطنه اليوناني في إيتاكا وإلى امرأته المحبة والمخلصة بينيلوب بعد غيبة سنوات طويلة قضاها مشاركاً في الحروب الطروادية، تجعلنا في دهشة لغلبة "الإلياذة" على "الأوديسة"، فتبعاً لكل منطق، كان يجب أن تكون المكانة الأولى للأخيرة، وعلى الأقل بالتوازي مع المكانة الكبيرة التي ستكون ليوليسيس نفسه في تاريخ الأدب والإبداع، هو الذي بالكاد نعثر عليه في الملحمة الأولى. فهل نحن هنا أمام مفارقة ما؟
بالتأكيد. لكنها مفارقة يمكن فهمها. فالحال أن يوليسيس بوصفه بطل الإلياذة بطل فرد يقوم برحلة عودة طويلة لا تخلو من المغامرات والبطولات والتدخلات السماوية والخبطات المسرحية التي تدور جميعها من حوله ومن حول أفعاله التي جعلت شخصيته تروق للقراء على مدى القرون والترجمات في شتى أنحاء العالم، لنجده حيناً يختفي خلف السندباد وحيناً في خلفية رواية "يوليسيس" لجيمس جويس، كي لا نذكر سوى هذين الحضورين الأشهر له. "الأوديسة" تُقرأ من أجل شخصية هذا البطل، ما يجعلها أقرب إلى أن تكون رواية مغامرات تتحلّق من حول فرد ذي مواصفات محددة ومعينة. أو هكذا فُهِم هذا العمل على أي حال.
بين منطقين
في المقابل، تتسّم "الإلياذة" بالسمات الملحمية البعيدة كل البعد عن "بيكارية" الأوديسّة، إذ حتى لو أخذنا بالعليّة العائلية الغرامية التي يقترحها علينا هوميروس، مع أننا نعرف أنّ الحروب الطروادية إنما اندلعت حقّاً طوال ما يقرب من قرن كامل هو القرن التاسع قبل المسيح ولأسباب تجارية واقتصادية تتعلق بمحاولة طروادة السيطرة على تلك الطرق البحرية التي كانت تصل بين مدن شرقيّ البحر الأبيض المتوسط ما جعل شتّى الشعوب الإغريقية تتحالف ضدها، وتشنّ عليها تلك الحرب التي أبادتها، إذن حتى لو أخذنا بفرضية هوميروس، من موقع إيماننا بأن ليس على الإبداع أن يتبع مجرى التاريخ حرفياً، بل يمكنه أن ينتخب منه ما يشاء شرط أن يكون المبدَع نفسه جديراً بذلك، سنجدنا أمام واحدٍ من أول النصوص التي جعلت البطولة معقودة للإنسان نفسه في علاقاته وأهوائه، خصوصاً في دفاعه المستميت عن كرامته الإنسانية.
ولئن كانت آلهة الملاحم، إغريقية أو غير إغريقية، خالدة دائماً ومعصومة عن أي محاسبة بالتالي وبالناتج لا تحتاج إلى أي مبرر لتصرّفاتها ينبني على أيّ من القيم الإنسانية التي يُفترض بالبشر التحلي بها، وهي تلك التي تمتلئ بها الملاحم وحتى عبر ملوك و"أنصاف آلهة" يتطلعون في مغامراتهم وصراعاتهم ومساعيهم إلى التشبّه بالآلهة، فإننا في "الإلياذة" أمام بشر قد يكونون أبطالاً استثنائيين أو ملوكاً أو محاربين لهم من شعبيتهم ما لهم، غير أنهم في نهاية الأمر بشرٌ يحبون ويغضبون ويستميتون في سبيل أن لا يحيق الظلم بهم، وهم في لحظات كثيرة يعيشون وإن بصمت وكرامة موتاً مؤكداً، ويغارون ويحقدون ويسامحون. وهم إذا كانوا يفعلون هذا فإنهم يفعلونه بوصفهم بشراً، لا باعتبارهم بشراً متفوقين.
الدفاع عما نملك
في "الإلياذة" آلهة وأفعال إلهية بالتأكيد، وهو شيء حتميٌّ نجده حتى في أكثر روايات القرن العشرين، وما قبله حداثة وقوة، ويمتلك هؤلاء سلطة غير محدودة من المستحيل مقاومتها يُعبَّر عنها بسُلطة الأقدار.
لكن، في المقابل لا بدّ لنا من أن نلاحظ كيف أن البشر، في "الأوديسة" نفسها في ما يعنينا هنا، يمتلكون في المقابل ما يمكننا أن نسميه اليوم كرامتهم الإنسانية، تلك التي يدافعون عنها ويحتضنونها ويموتون في سبيلها بأكثر مما يموتون في سبيل الأوطان والحبيبات والأرض، وما إلى ذلك.
وفي يقيننا أن هذا الواقع في حدّ ذاته، هو الذي يسبغ على "الإلياذة" قوتها وكينونتها. بكلمات أكثر اختصاراً: أبطال الملاحم يسعون عادة للحصول على ما لا يملكون: الخلود والألوهية والتفوق، فيما لا يفعل أبطال "الإلياذة" أكثر من الدفاع عن تلك الثروة التي يمتلكونها بالفعل، وتجعل إنسانيتهم ما هي عليه: الكرامة الإنسانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.