طقس اليوم الثلاثاء.. ارتفاع مؤقت بالحرارة وأتربة وأمطار تضرب البلاد    الزيارة التاريخية.. 10 ملفات تتصدر أجندة مباحثات ترامب وقادة دول الخليج    تزينها 3 منتخبات عربية، قائمة المتأهلين إلى كأس العالم للشباب    موعد مباراة ريال مدريد ومايوركا في الدوري الإسباني والقنوات الناقلة    215 شهيدا من الصحفيين ضحايا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة    اصطدام قطار بجرار زراعي أعلى مزلقان في البحيرة- صور وفيديو    الخارجية الأمريكية تكشف تفاصيل وأهداف زيارة ترامب للشرق الأوسط    تشكيل بيراميدز المتوقع أمام الزمالك في الدوري المصري    لا نحتفل وهناك إبادة جماعية، نجوم سينما يربكون افتتاح مهرجان كان برسالة مفتوحة عن غزة    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط»    مفاجأة من قناة السويس لشركات الشحن العالمية لاستعادة حركة الملاحة    جرينلاند تتولى رئاسة مجلس القطب الشمالي نيابة عن الدنمارك    كان يتلقى علاجه.. استشهاد الصحفي حسن إصليح في قصف الاحتلال لمستشفى ناصر ب خان يونس    «الاقتصاد المنزلي» يعقد مؤتمره العلمي السنوي ب«نوعية المنوفية»    أسعار الفراخ اليوم الثلاثاء 13-5-2025 بعد الانخفاض الجديد وبورصة الدواجن الآن    ترتيب هدافي الدوري المصري قبل مواجهات اليوم الثلاثاء    بيان هام من محامية بوسي شلبي بشأن اتهامات خوض الأعراض: إنذار قانوني    حبس عصابة «حمادة وتوتو» بالسيدة زينب    3 شهداء وإصابات جراء قصف الاحتلال خيمة نازحين في خان يونس    حكام مباريات اليوم في الدوري| "الغندور" للزمالك وبيراميدز و"بسيوني" للأهلي وسيراميكا    مستشفى سوهاج العام يوفر أحدث المناظير لعلاج حصوات المسالك البولية للأطفال    رئيس شركة شمال القاهرة للكهرباء يفصل موظفين لاستغلال الوظيفة والتلاعب بالبيانات    «الاتصالات» تطلق برنامج التدريب الصيفي لطلاب الجامعات 2025    الدولار ب50.45 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء 13-5-2025    عيار 21 يعود لسابق عهده.. انخفاض كبير في أسعار الذهب والسبائك اليوم الثلاثاء بالصاغة    تفاصيل.. مؤتمر الاتحاد المصري لطلاب الصيدلة في نسخته الرابعة    الأهلي يحصل على توقيع موهبة جديدة 5 سنوات.. إعلامي يكشف التفاصيل    رعب أمام المدارس في الفيوم.. شاب يهدد الطالبات بصاعق كهربائي.. والأهالي يطالبون بتدخل عاجل    جولة تفقدية لمدير التأمين الصحي بالقليوبية على المنشآت الصحية ببهتيم    بعد اطمئنان السيسي.. من هو صنع الله إبراهيم؟    جدول امتحانات الشهادة الإعدادية بمحافظة المنيا للفصل الدراسي الثاني 2025    ثبات سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن الثلاثاء 13 مايو 2025 (بداية التعاملات)    السيطرة على حريق نشب في حشائش كورنيش حدائق حلوان    انفجار أسطوانة غاز السبب.. تفاصيل إصابة أم وطفليها في حريق منزل بكرداسة    كيف ردت سوريا على تصريحات ترامب بشأن رفع العقوبات؟    علي صالح موسى: تجاوب عربي مع مقترح دعم خطة الاحتياجات التنموية في اليمن    أبو زهرة يهنئ المنتخب الوطني للشباب تحت 20 عاما بعد فوزه المثير على غانا    ترجمات.. «حكايات شارل بيرو» الأكثر شهرة.. «سندريلا» و«الجميلة النائمة» بصمة لا تُمحى في الأدب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 13-5-2025 في محافظة قنا    محافظ سوهاج: تشكيل لجنة لفحص أعمال وتعاقدات نادي المحليات    «التضامن الاجتماعي» توضح شروط الحصول على معاش تكافل وكرامة    الكشف على 490 مواطناً وتوزيع 308 نظارات طبية خلال قافلة طبية بدمنهور    بعت اللي وراي واللي قدامي، صبحي خليل يتحدث عن معاناة ابنته مع مرض السرطان (فيديو)    5 أبراج «لو قالوا حاجة بتحصل».. عرّافون بالفطرة ويتنبؤون بالمخاطر    يلا كورة يكشف.. التفاصيل المالية في عقد ريفيرو مع الأهلي    كشف لغز العثور على جثة بالأراضي الزراعية بالغربية    قبل عرضه على "MBC".. صلاح عبدالله ينشر صورة من كواليس مسلسل "حرب الجبالي"    أميرة سليم تحيي حفلها الأول بدار الأوبرا بمدينة الفنون والثقافة في العاصمة الإدارية    جدول امتحانات المواد غير المضافة للمجموع للصف الثاني الثانوي ببورسعيد(متى تبدأ؟)    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي أم يجوزُ لي تأجيلُه؟| الإفتاء تجيب    اعتماد 24 مدرسة من هيئة ضمان جودة التعليم والاعتماد بالوادي الجديد    سقوط طفل من مرتفع " بيارة " بنادي المنتزه بالإسماعيلية    جامعة القاهرة تحتفل بيوم المرأة العالمي في الرياضيات وتطلق شبكة المرأة العربية- (صور)    إيمان العاصي في "الجيم" ونانسي عجرم بفستان أنيق.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    طفل ينهي حياته داخل منزله بالإسماعيلية    عالم بالأزهر: هذا أجمل دعاء لمواجهة الهموم والأحزان    أهم 60 سؤالاً وإجابة شرعية عن الأضحية.. أصدرتها دار الإفتاء المصرية    موعد وقفة عرفة 2025.. فضل صيامها والأعمال والأدعية المستحبة بها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"إلياذة" هوميروس الأكثر إنسانية بين الملاحم
نشر في صوت البلد يوم 03 - 05 - 2020

يروي الباحث الجامعي الإنجليزي إدوارد لوتووك، في مقال نشره قبل فترة بملحق تايمز الأدبي، أنه كان ذات مرة في مطار لوس أنجلوس، حين استبدّت به فجأة رغبة في قراءة صفحات من "الإلياذة" مترجمة إلى الإنجليزية، فراح يبحث في مواقع بيع المطبوعات بالمطار عن مراده، لتكون المفاجأة عثوره على عشر ترجمات مختلفة للكتاب في طبعات حديثة.
طبعاً، لم يعد همّ الباحث المقارنة بين الترجمات، لمعرفة أيها خدمت نصّ هوميروس الخالد أكثر من الأخرى، بل التساؤل بدهشة عمّا يجعل هذا النص على مثل هذه الحيوية والحضور في حياتنا اليومية بعد ألوف السنين من ولادته!
بتساؤلات لوتووك أو من دونها لا شكّ أن تلك الملحمة الإغريقية لا تزال حية بيننا، ليس فقط بما تحكيه، بل بالأسلوب الذي تحكي به، بالدروس التي توصّلها إلينا، بالعواطف والعلاقات الإنسانية المؤسسة، ما يجعل من البديهي اعتبارها "ملحمة الملاحم" سواء شاركتها بذلك توأمتها "الأوديسة" لهوميروس نفسه أو لم تشاركها.
فلئن كنّا نعرف تاريخياً أن لكل أمة من أمم الأرض ملحمتها أو ملحمتها الخاصة بها تطل من خلالها على الإنسانية، لا شكّ أن في إمكان الإغريق أن يفتخروا دائماً بأن ملحمتهم هي الأكثر إنسانية من بين كل الملاحم، بل حتى الأكثر ارتباطاً بالكرامة الإنسانية، كما سنلاحظ بعد سطور.
البداية من مصر
وفي انتظار ذلك قد يكون علينا أن نتذكّر أن نصوص هوميروس كان مقدّراً لها أن تضيع إلى الأبد، لولا العثور على كمية كبيرة من أوراق البردي في مصر ذات يوم، تبيّن بعد الدراسة والتمحيص أنها تحوي، بين الفقرات ال590 التي تحتويها، على 454 فقرة من "الإلياذة"، ما مكّن بالتالي من مواصلة البحث حتى العثور على فقرات لاحقة أوصلت ملحمتي هوميروس الكبيرتين إلى الناس، وليس إلى اليونانيين وحدهم بالطبع، طالما نعرف أن الملحمتين ترجمتا إلى كل لغات العالم تقريباً، لكن دائماً من دون أن يتمكّن أحدٌ من الإجابة عن أسئلة بدت دائماً بديهية: هل وُجد هوميروس حقّاً؟ وهل كان حقّاً شاعراً ضريراً؟ ومتى "كتب" أو بالأحرى "حكى" ملحمتيه، هو الحكواتي الأول والأشطر في تاريخ البشرية؟ ثم أين عاش فعلاً؟ وأين ولد وأين مات؟ وأكان ذلك في القرن الحادي عشر قبل الميلاد أم في التاسع أم الثامن أم السادس؟
كثرٌ زعموا ويزعم أكثر منهم اليوم أنهم عثروا على الأجوبة. لكن الحقيقة أنها كلها تخمينات، حتى وإن كان ثمة يقينٌ واحدٌ على الأقل يتعلق بالوقائع التاريخية التي "ترويها" "الإلياذة وتوأمتها": وقائع الحروب الطروادية من حول مدينة طروادة التي غلب الظن أنها تقع على ساحل البوسفور في بحر إيجة في ما يسمّى اليوم تركيا.
نعرفُ أن "الإلياذة" تتحدّث عن فصول أساسية، بل ختامية من الحروب الطروادية. بل حتى، أساساً، عن أعوامها الأخيرة وكيف انتهت، حيث نلاحظ كيف أن هوميروس يحوِّل تلك الحرب في نهاية الأمر إلى مسألة شخصية كونها اندلعت، بالنسبة إليه، وهو ما يتنافى طبعاً مع أي منطق، بل حتى مع الواقع التاريخي الذي يمكننا أن نقول إنه مدوّن، اندلعت كما يقول بسبب اختطاف باريس ابن ملك طروادة هيلينا الملكة الإغريقية، وتجمّع ملوك اليونان لمهاجمة طروادة، واستعادة الملكة خلال تلك المرحلة الأخيرة بما في ذلك مقتل باريس والصراع الذي سيدور بين أغاممنون وآخيل أحد كبار أبطال الحرب اليونانيين وما إلى ذلك، وصولاً إلى حيلة الحصان الخشبي التي مكّنت اليونانيين من الانتصار على الطرواديين وتدمير مدينتهم، بحيث لم تعد تقوم لها قائمة في التاريخ.
فتّش عن المرأة
إذن، الحكاية بالنسبة إلى هوميروس هي حكاية "فتش عن المرأة" من ناحية، وحكاية "غضب البطل آخيل" من ناحية أخرى. فهل هذا منطقيٌّ؟
في الحقيقة، إن مقارنة سريعة بين هذه الفرضية التي تكاد تكون "حكاية عائلية" في نص "الإلياذة"، والحكاية التي نجدها في خلفية "الأوديسة" أي حكاية يوليسيس وعودته إلى وطنه اليوناني في إيتاكا وإلى امرأته المحبة والمخلصة بينيلوب بعد غيبة سنوات طويلة قضاها مشاركاً في الحروب الطروادية، تجعلنا في دهشة لغلبة "الإلياذة" على "الأوديسة"، فتبعاً لكل منطق، كان يجب أن تكون المكانة الأولى للأخيرة، وعلى الأقل بالتوازي مع المكانة الكبيرة التي ستكون ليوليسيس نفسه في تاريخ الأدب والإبداع، هو الذي بالكاد نعثر عليه في الملحمة الأولى. فهل نحن هنا أمام مفارقة ما؟
بالتأكيد. لكنها مفارقة يمكن فهمها. فالحال أن يوليسيس بوصفه بطل الإلياذة بطل فرد يقوم برحلة عودة طويلة لا تخلو من المغامرات والبطولات والتدخلات السماوية والخبطات المسرحية التي تدور جميعها من حوله ومن حول أفعاله التي جعلت شخصيته تروق للقراء على مدى القرون والترجمات في شتى أنحاء العالم، لنجده حيناً يختفي خلف السندباد وحيناً في خلفية رواية "يوليسيس" لجيمس جويس، كي لا نذكر سوى هذين الحضورين الأشهر له. "الأوديسة" تُقرأ من أجل شخصية هذا البطل، ما يجعلها أقرب إلى أن تكون رواية مغامرات تتحلّق من حول فرد ذي مواصفات محددة ومعينة. أو هكذا فُهِم هذا العمل على أي حال.
بين منطقين
في المقابل، تتسّم "الإلياذة" بالسمات الملحمية البعيدة كل البعد عن "بيكارية" الأوديسّة، إذ حتى لو أخذنا بالعليّة العائلية الغرامية التي يقترحها علينا هوميروس، مع أننا نعرف أنّ الحروب الطروادية إنما اندلعت حقّاً طوال ما يقرب من قرن كامل هو القرن التاسع قبل المسيح ولأسباب تجارية واقتصادية تتعلق بمحاولة طروادة السيطرة على تلك الطرق البحرية التي كانت تصل بين مدن شرقيّ البحر الأبيض المتوسط ما جعل شتّى الشعوب الإغريقية تتحالف ضدها، وتشنّ عليها تلك الحرب التي أبادتها، إذن حتى لو أخذنا بفرضية هوميروس، من موقع إيماننا بأن ليس على الإبداع أن يتبع مجرى التاريخ حرفياً، بل يمكنه أن ينتخب منه ما يشاء شرط أن يكون المبدَع نفسه جديراً بذلك، سنجدنا أمام واحدٍ من أول النصوص التي جعلت البطولة معقودة للإنسان نفسه في علاقاته وأهوائه، خصوصاً في دفاعه المستميت عن كرامته الإنسانية.
ولئن كانت آلهة الملاحم، إغريقية أو غير إغريقية، خالدة دائماً ومعصومة عن أي محاسبة بالتالي وبالناتج لا تحتاج إلى أي مبرر لتصرّفاتها ينبني على أيّ من القيم الإنسانية التي يُفترض بالبشر التحلي بها، وهي تلك التي تمتلئ بها الملاحم وحتى عبر ملوك و"أنصاف آلهة" يتطلعون في مغامراتهم وصراعاتهم ومساعيهم إلى التشبّه بالآلهة، فإننا في "الإلياذة" أمام بشر قد يكونون أبطالاً استثنائيين أو ملوكاً أو محاربين لهم من شعبيتهم ما لهم، غير أنهم في نهاية الأمر بشرٌ يحبون ويغضبون ويستميتون في سبيل أن لا يحيق الظلم بهم، وهم في لحظات كثيرة يعيشون وإن بصمت وكرامة موتاً مؤكداً، ويغارون ويحقدون ويسامحون. وهم إذا كانوا يفعلون هذا فإنهم يفعلونه بوصفهم بشراً، لا باعتبارهم بشراً متفوقين.
الدفاع عما نملك
في "الإلياذة" آلهة وأفعال إلهية بالتأكيد، وهو شيء حتميٌّ نجده حتى في أكثر روايات القرن العشرين، وما قبله حداثة وقوة، ويمتلك هؤلاء سلطة غير محدودة من المستحيل مقاومتها يُعبَّر عنها بسُلطة الأقدار.
لكن، في المقابل لا بدّ لنا من أن نلاحظ كيف أن البشر، في "الأوديسة" نفسها في ما يعنينا هنا، يمتلكون في المقابل ما يمكننا أن نسميه اليوم كرامتهم الإنسانية، تلك التي يدافعون عنها ويحتضنونها ويموتون في سبيلها بأكثر مما يموتون في سبيل الأوطان والحبيبات والأرض، وما إلى ذلك.
وفي يقيننا أن هذا الواقع في حدّ ذاته، هو الذي يسبغ على "الإلياذة" قوتها وكينونتها. بكلمات أكثر اختصاراً: أبطال الملاحم يسعون عادة للحصول على ما لا يملكون: الخلود والألوهية والتفوق، فيما لا يفعل أبطال "الإلياذة" أكثر من الدفاع عن تلك الثروة التي يمتلكونها بالفعل، وتجعل إنسانيتهم ما هي عليه: الكرامة الإنسانية.
يروي الباحث الجامعي الإنجليزي إدوارد لوتووك، في مقال نشره قبل فترة بملحق تايمز الأدبي، أنه كان ذات مرة في مطار لوس أنجلوس، حين استبدّت به فجأة رغبة في قراءة صفحات من "الإلياذة" مترجمة إلى الإنجليزية، فراح يبحث في مواقع بيع المطبوعات بالمطار عن مراده، لتكون المفاجأة عثوره على عشر ترجمات مختلفة للكتاب في طبعات حديثة.
طبعاً، لم يعد همّ الباحث المقارنة بين الترجمات، لمعرفة أيها خدمت نصّ هوميروس الخالد أكثر من الأخرى، بل التساؤل بدهشة عمّا يجعل هذا النص على مثل هذه الحيوية والحضور في حياتنا اليومية بعد ألوف السنين من ولادته!
بتساؤلات لوتووك أو من دونها لا شكّ أن تلك الملحمة الإغريقية لا تزال حية بيننا، ليس فقط بما تحكيه، بل بالأسلوب الذي تحكي به، بالدروس التي توصّلها إلينا، بالعواطف والعلاقات الإنسانية المؤسسة، ما يجعل من البديهي اعتبارها "ملحمة الملاحم" سواء شاركتها بذلك توأمتها "الأوديسة" لهوميروس نفسه أو لم تشاركها.
فلئن كنّا نعرف تاريخياً أن لكل أمة من أمم الأرض ملحمتها أو ملحمتها الخاصة بها تطل من خلالها على الإنسانية، لا شكّ أن في إمكان الإغريق أن يفتخروا دائماً بأن ملحمتهم هي الأكثر إنسانية من بين كل الملاحم، بل حتى الأكثر ارتباطاً بالكرامة الإنسانية، كما سنلاحظ بعد سطور.
البداية من مصر
وفي انتظار ذلك قد يكون علينا أن نتذكّر أن نصوص هوميروس كان مقدّراً لها أن تضيع إلى الأبد، لولا العثور على كمية كبيرة من أوراق البردي في مصر ذات يوم، تبيّن بعد الدراسة والتمحيص أنها تحوي، بين الفقرات ال590 التي تحتويها، على 454 فقرة من "الإلياذة"، ما مكّن بالتالي من مواصلة البحث حتى العثور على فقرات لاحقة أوصلت ملحمتي هوميروس الكبيرتين إلى الناس، وليس إلى اليونانيين وحدهم بالطبع، طالما نعرف أن الملحمتين ترجمتا إلى كل لغات العالم تقريباً، لكن دائماً من دون أن يتمكّن أحدٌ من الإجابة عن أسئلة بدت دائماً بديهية: هل وُجد هوميروس حقّاً؟ وهل كان حقّاً شاعراً ضريراً؟ ومتى "كتب" أو بالأحرى "حكى" ملحمتيه، هو الحكواتي الأول والأشطر في تاريخ البشرية؟ ثم أين عاش فعلاً؟ وأين ولد وأين مات؟ وأكان ذلك في القرن الحادي عشر قبل الميلاد أم في التاسع أم الثامن أم السادس؟
كثرٌ زعموا ويزعم أكثر منهم اليوم أنهم عثروا على الأجوبة. لكن الحقيقة أنها كلها تخمينات، حتى وإن كان ثمة يقينٌ واحدٌ على الأقل يتعلق بالوقائع التاريخية التي "ترويها" "الإلياذة وتوأمتها": وقائع الحروب الطروادية من حول مدينة طروادة التي غلب الظن أنها تقع على ساحل البوسفور في بحر إيجة في ما يسمّى اليوم تركيا.
نعرفُ أن "الإلياذة" تتحدّث عن فصول أساسية، بل ختامية من الحروب الطروادية. بل حتى، أساساً، عن أعوامها الأخيرة وكيف انتهت، حيث نلاحظ كيف أن هوميروس يحوِّل تلك الحرب في نهاية الأمر إلى مسألة شخصية كونها اندلعت، بالنسبة إليه، وهو ما يتنافى طبعاً مع أي منطق، بل حتى مع الواقع التاريخي الذي يمكننا أن نقول إنه مدوّن، اندلعت كما يقول بسبب اختطاف باريس ابن ملك طروادة هيلينا الملكة الإغريقية، وتجمّع ملوك اليونان لمهاجمة طروادة، واستعادة الملكة خلال تلك المرحلة الأخيرة بما في ذلك مقتل باريس والصراع الذي سيدور بين أغاممنون وآخيل أحد كبار أبطال الحرب اليونانيين وما إلى ذلك، وصولاً إلى حيلة الحصان الخشبي التي مكّنت اليونانيين من الانتصار على الطرواديين وتدمير مدينتهم، بحيث لم تعد تقوم لها قائمة في التاريخ.
فتّش عن المرأة
إذن، الحكاية بالنسبة إلى هوميروس هي حكاية "فتش عن المرأة" من ناحية، وحكاية "غضب البطل آخيل" من ناحية أخرى. فهل هذا منطقيٌّ؟
في الحقيقة، إن مقارنة سريعة بين هذه الفرضية التي تكاد تكون "حكاية عائلية" في نص "الإلياذة"، والحكاية التي نجدها في خلفية "الأوديسة" أي حكاية يوليسيس وعودته إلى وطنه اليوناني في إيتاكا وإلى امرأته المحبة والمخلصة بينيلوب بعد غيبة سنوات طويلة قضاها مشاركاً في الحروب الطروادية، تجعلنا في دهشة لغلبة "الإلياذة" على "الأوديسة"، فتبعاً لكل منطق، كان يجب أن تكون المكانة الأولى للأخيرة، وعلى الأقل بالتوازي مع المكانة الكبيرة التي ستكون ليوليسيس نفسه في تاريخ الأدب والإبداع، هو الذي بالكاد نعثر عليه في الملحمة الأولى. فهل نحن هنا أمام مفارقة ما؟
بالتأكيد. لكنها مفارقة يمكن فهمها. فالحال أن يوليسيس بوصفه بطل الإلياذة بطل فرد يقوم برحلة عودة طويلة لا تخلو من المغامرات والبطولات والتدخلات السماوية والخبطات المسرحية التي تدور جميعها من حوله ومن حول أفعاله التي جعلت شخصيته تروق للقراء على مدى القرون والترجمات في شتى أنحاء العالم، لنجده حيناً يختفي خلف السندباد وحيناً في خلفية رواية "يوليسيس" لجيمس جويس، كي لا نذكر سوى هذين الحضورين الأشهر له. "الأوديسة" تُقرأ من أجل شخصية هذا البطل، ما يجعلها أقرب إلى أن تكون رواية مغامرات تتحلّق من حول فرد ذي مواصفات محددة ومعينة. أو هكذا فُهِم هذا العمل على أي حال.
بين منطقين
في المقابل، تتسّم "الإلياذة" بالسمات الملحمية البعيدة كل البعد عن "بيكارية" الأوديسّة، إذ حتى لو أخذنا بالعليّة العائلية الغرامية التي يقترحها علينا هوميروس، مع أننا نعرف أنّ الحروب الطروادية إنما اندلعت حقّاً طوال ما يقرب من قرن كامل هو القرن التاسع قبل المسيح ولأسباب تجارية واقتصادية تتعلق بمحاولة طروادة السيطرة على تلك الطرق البحرية التي كانت تصل بين مدن شرقيّ البحر الأبيض المتوسط ما جعل شتّى الشعوب الإغريقية تتحالف ضدها، وتشنّ عليها تلك الحرب التي أبادتها، إذن حتى لو أخذنا بفرضية هوميروس، من موقع إيماننا بأن ليس على الإبداع أن يتبع مجرى التاريخ حرفياً، بل يمكنه أن ينتخب منه ما يشاء شرط أن يكون المبدَع نفسه جديراً بذلك، سنجدنا أمام واحدٍ من أول النصوص التي جعلت البطولة معقودة للإنسان نفسه في علاقاته وأهوائه، خصوصاً في دفاعه المستميت عن كرامته الإنسانية.
ولئن كانت آلهة الملاحم، إغريقية أو غير إغريقية، خالدة دائماً ومعصومة عن أي محاسبة بالتالي وبالناتج لا تحتاج إلى أي مبرر لتصرّفاتها ينبني على أيّ من القيم الإنسانية التي يُفترض بالبشر التحلي بها، وهي تلك التي تمتلئ بها الملاحم وحتى عبر ملوك و"أنصاف آلهة" يتطلعون في مغامراتهم وصراعاتهم ومساعيهم إلى التشبّه بالآلهة، فإننا في "الإلياذة" أمام بشر قد يكونون أبطالاً استثنائيين أو ملوكاً أو محاربين لهم من شعبيتهم ما لهم، غير أنهم في نهاية الأمر بشرٌ يحبون ويغضبون ويستميتون في سبيل أن لا يحيق الظلم بهم، وهم في لحظات كثيرة يعيشون وإن بصمت وكرامة موتاً مؤكداً، ويغارون ويحقدون ويسامحون. وهم إذا كانوا يفعلون هذا فإنهم يفعلونه بوصفهم بشراً، لا باعتبارهم بشراً متفوقين.
الدفاع عما نملك
في "الإلياذة" آلهة وأفعال إلهية بالتأكيد، وهو شيء حتميٌّ نجده حتى في أكثر روايات القرن العشرين، وما قبله حداثة وقوة، ويمتلك هؤلاء سلطة غير محدودة من المستحيل مقاومتها يُعبَّر عنها بسُلطة الأقدار.
لكن، في المقابل لا بدّ لنا من أن نلاحظ كيف أن البشر، في "الأوديسة" نفسها في ما يعنينا هنا، يمتلكون في المقابل ما يمكننا أن نسميه اليوم كرامتهم الإنسانية، تلك التي يدافعون عنها ويحتضنونها ويموتون في سبيلها بأكثر مما يموتون في سبيل الأوطان والحبيبات والأرض، وما إلى ذلك.
وفي يقيننا أن هذا الواقع في حدّ ذاته، هو الذي يسبغ على "الإلياذة" قوتها وكينونتها. بكلمات أكثر اختصاراً: أبطال الملاحم يسعون عادة للحصول على ما لا يملكون: الخلود والألوهية والتفوق، فيما لا يفعل أبطال "الإلياذة" أكثر من الدفاع عن تلك الثروة التي يمتلكونها بالفعل، وتجعل إنسانيتهم ما هي عليه: الكرامة الإنسانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.