جامعة الفيوم تطلق البرنامج التدريبي "القيادة الإدارية المتقدمة" لمديري العموم والكليات    الأعلى للإعلام: تطوير المحتوى الرياضي ضرورة للارتقاء بالمهنية والموضوعية    ندوة بالإسكندرية تحذر من العنف في الأعمال الدرامية والثقافة الأجنبية بوسائل التواصل    لتعزيز التعاون بين القطاع القضائي والمؤسسات الأكاديمية، مساعد وزير العدل يزور حقوق عين شمس    بسبب الصيانة، قطع مياه الشرب 12 ساعة عن بعض قرى الفيوم    ارتفاع أسعار العملات الأجنبية في ختام تعاملات اليوم 8 ديسمبر 2025    وزير الدولة للإنتاج الحربي يستقبل محافظيّ القاهرة والقليوبية لبحث سبل تعزيز التعاون المشترك    ب100 مليار جنيه.. نتائج أعمال إيجابية ل "بنك بيت التمويل الكويتي – مصر" بنهاية سبتمبر 2025    البورصة تخسر 14 مليار جنيه في ختام تعاملات اليوم    وثيقة الأمن القومي الأمريكية تعلن حربًا باردة من نوع آخر على التكامل الأوروبي    الدعم السريع يسيطر على حقل هجليج النفطي جنوب كردفان    يغيب 4 أشهر.. ريال مدريد يكشف طبيعة إصابة ميليتاو    تخزين سلاح حماس!    السعودية وقطر توقعان اتفاقية الربط بالقطار الكهربائي السريع بين البلدين    ريال مدريد يفقد ميليتاو حتى نهاية الموسم    مصدر بالزمالك: تصريحات وزير الإسكان تسكت المشككين.. ونسعى لاستعادة الأرض    بعد تعثر صفقة دياباتي .. الأهلي يكثف مفاوضاته لضم الكولومبي بابلو الصباغ    محافظ كفر الشيخ يتابع تنفيذ محاكاة حية للتعامل الفوري مع مياه الأمطار    محافظ بني سويف يكرم مشرف بالإسعاف لإنقاذه عامل نظافة تعرض لتوقف تنفس مفاجئ أثناء عمله    فرقة القاهرة للعرائس تحصد جوائز مهرجان مصر الدولي لمسرح الطفل والعرائس    تعليق ناري من محمد فراج على انتقادات دوره في فيلم الست    عاجل- الاحتلال الإسرائيلى يواصل خروقاته لوقف إطلاق النار لليوم ال59 وقصف مكثف يطال غزة    موجة تعيينات قضائية غير مسبوقة لدفعات 2024.. فتح باب التقديم في جميع الهيئات لتجديد الدماء وتمكين الشباب    حبس زوجين وشقيق الزوجة لقطع عضو شخص بالمنوفية    ضبط المدير المسئول عن إدارة كيان تعليمى "دون ترخيص" بالجيزة    جيرارد مارتن: أشعر بالراحة كقلب دفاع.. واللعب في كامب نو محفز    مسار يختتم استعداداته للبنك الأهلي في مواجهة مؤجلة بدوري الكرة النسائية    محمد مصطفى كمال يكتب: تلف مئات الوثائق المصرية في اللوفر.. هل أصبحت آثارنا بالخارج في خطر؟    محافظ جنوب سيناء وسفراء قبرص واليونان يهنئون مطران دير سانت كاترين بذكرى استشهاد القديسة كاترينا    بورسعيد الدولية تختبر 73 متسابقة فى حفظ القرآن للإناث الكبار.. فيديو وصور    الصحة: توفير ألبان الأطفال العلاجية بمراكز الأمراض الوراثية مجانا    وزير الثقافة: أسبوع باكو مساحة مهمة للحوار وتبادل الخبرات    الحكومة تستعرض خطة تنمية منطقة غرب رأس الحكمة بمحافظة مطروح    4 بلاغات جديدة و«ناني».. ارتفاع ضحايا الاعتداء الجنسي من جنايني مدرسة دولية بالإسكندرية    أمطار شتوية مبكرة تضرب الفيوم اليوم وسط أجواء باردة ورياح نشطة.. صور    قرار جديد من المحكمة بشأن المتهمين في واقعة السباح يوسف    وزارة العمل تحتفي باليوم العالمي لذوي الإعاقة بجمعية المكفوفين    المقاولون عن أزمة محمد صلاح : أرني سلوت هو الخسران من استبعاد محمد صلاح ونرشح له الدوري السعودي    أخصائي تغذية: العسل الأسود أهم فائدة من عسل النحل    الرئيس السيسي يؤكد دعم مصر الكامل لسيادة واستقرار ليبيا    محمود جهاد يقود وسط الزمالك في لقاء كهرباء الإسماعيلية    وزير الإعلام الكمبودى:مقتل وإصابة 14 مدنيا خلال الاشتباكات الحدودية مع تايلاند    وزير الزراعة يكشف موعد افتتاح «حديقة الحيوان» النهائي    رئيس الوزراء: مصر تتوسع في البرامج التي تستهدف تحقيق الأمن الغذائي    كامل الوزير يوجه بإنشاء محطة شحن بضائع بقوص ضمن القطار السريع لخدمة المنطقة الصناعية    الإفتاء تؤكد جواز اقتناء التماثيل للزينة مالم يُقصد بها العبادة    النيابة تطلب تقرير الصفة التشريحية لجثة سيدة قتلها طليق ابنتها فى الزاوية الحمراء    ملفات إيلون ماسك السوداء… "كتاب جديد" يكشف الوجه الخفي لأخطر رجل في وادي السيليكون    ضمن مبادرة «صحّح مفاهيمك».. أوقاف الغربية تعقد ندوات علمية بالمدارس حول "نبذ التشاؤم والتحلّي بالتفاؤل"    أعضاء المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو" يزورون المتحف المصري الكبير    وزير الصحة يترأس اجتماعا لمتابعة مشروع «النيل» أول مركز محاكاة طبي للتميز في مصر    علاج 2.245 مواطنًا ضمن قافلة طبية بقرية في الشرقية    نيللي كريم تعلن انطلاق تصوير مسلسل "على قد الحب"    عيد ميلاد عبلة كامل.. سيدة التمثيل الهادئ التي لا تغيب عن قلوب المصريين    مواقيت الصلاه اليوم الإثنين 8 ديسمبر 2025 فى المنيا    مستشار الرئيس للصحة: نرصد جميع الفيروسات.. وأغلب الحالات إنفلونزا موسمية    متحدث "الأوقاف" يوضح شروط المسابقة العالمية للقرآن الكريم    الأوقاف: المسابقة العالمية للقرآن الكريم تشمل فهم المعاني وتفسير الآيات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية تشيكية ترثي الوحدة والضعف الإنساني
نشر في صوت البلد يوم 07 - 04 - 2020

يمزج الكاتب التشيكي بوهوميل هرابال في روايته "خدمت ملك إنجلترا"، الصادرة حديثًا عن دار صفصافة القاهرية، بين الخيال وبين وقائع حقيقية عايشها فعليًّا، تتجلى التفاصيل فيها مفعمة بالتناقضات والسذاجة، والعبثية، والسخرية والدموع، والمواقف التي لا تُصدق. ورغم أن المؤلف التزم ببدايات تقليدية لكل فصول الرواية الخمسة، أو القصص الخمس التي تشكل الرواية، فإن النهايات جاءت جذابة ومدهشة.
في الرواية التي ترجمها الدكتور خالد البلتاجي وجه هرابال نصيحة أشبه بالتحذير لقرائه، يدعوهم فيها للانتباه لرسالته، حيث يقول في بداية كل فصل: "اسمعوا وعوا ما سأقصه الآن عليكم". وعند كل نهاية من الفصول الخمسة يختتم بعبارة: "هل اكتفيتم؟ هذا كل ما لدي اليوم". وقد جاء كل فصل من فصولها في مقطع واحد، وبجمل طويلة مركبة. وتجلت طريقة هرابال المعهودة القائمة على الانفراط في السرد، حيث تتبدل لغة الراوي حسب حالته النفسية، كما أن محاولاته الساذجة في ارتقاء درجات السلم الاجتماعي تترك أثرها في لغته حيث يحاول انتقاء الكلمات وتهذيبها، فيختلط ما هو دارج بما هو فصيح، كما تختلط العبارات الأجنبية بالتشيكية.
كتب هرابال "خدمت ملك إنجلترا" مطلع سبعينات القرن العشرين، وقد قامت السلطات بمنعها من النشر حتى سقوط الشيوعية في التشيك عام 1989. وكانت المشاهد الجنسية الصارخة من أسباب المنع الرئيسية عند ظهور الرواية عام 1971. لكنها لم تكن بكل تأكيد متسقة مع الآيديولوجية الشيوعية وقتها. حيث يسخر هرابال فيها من كل الأنظمة المستبدة، فهو لا يرى الإنسان التشيكي بمرآة وردية، كما يرفض رؤية الأحداث من وجهين لا ثالث لهما، بخاصة أحداث الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها.
ويعمد هربال إلى إدهاش قرائه من خلال صراحته، والشخصيات التي تعبر عن نفسها بوضوح، ودون مواربة. يقول في إحدى صفحات الرواية: عندما يصل الطفل الراوي لسن 14 عامًا يعمل في فندق براغ، ثم ينتقل إلى فندق تيتشوتا وبعده يلتحق بفندق باريس، وكان رئيسه سكوفانيك يتمتع بإمكانيات كبيرة، وكان كلما سأله أحد كيف تعلمت كل هذا كان يفاخر بأنه خدم ملك إنجلترا، المدهش في أمر هذا الرجل أنه حظي بزيارة إمبراطور الحبشة ونال الطفل ديتيا إعجابه لكنه اتهم في نهاية الاستقبال بسرقة ملعقة ذهبية كاد يعاقب على أثرها، لكن أنقذه أنهم وجدوها في ركام المطبخ.
يتابع هرابال في الرواية سيرة بطل الرئيسي "ديتيا"، ومعناه "طفل" بالتشيكية. ويظل "ديتيا" مطاردًا طيلة حياته تحت وطأة شعور بالدونية نتيجة قصر قامته، يحاول أن يباري وجهاء المدينة في جاههم ومالهم. يحالفه نجم سعده ويدفعه إلى الأمام إلى مجد ينشده، وثراء طالما حلم به، وحب امرأة جميلة، لكن كل هذا يأتيه في اللحظة الخاطئة. لم يشعر يومًا بأنه سعيد، وظل دائم السعي، ولا يكاد يبلغ هدفه حتى يتأكد أن مبتغاه لا قيمة له، ولا يرضيه. بل كان على العكس، كلما علا وارتفع تزايد تجاهل المجتمع له. فقد كان يراه إنسانًا انتهازيًّا، يغتنم المواقف، ويقف في صف القوي.
تبدو الرواية وكأنها شكل من أشكال الرواية التاريخية. فالذات الساردة تتتبع نمو شخصية البطل، ويحيل المؤلف من خلالها إلى كتابات أدباء مثل جوته، وتوماس مان، وجونتر جراس وغيرهم. كما تنعكس في قصة حياة البطل لحظات حاسمة في تاريخ وسط أوروبا في القرن العشرين، تتقاطع فيها ظلال من حياة الكاتب نفسه، ويحكيها الراوي بأسلوب الثرثرة التي تشيع في المقاهي وجلسات الوحدة القاتلة.
سارت حياة البطل على هذه الوتيرة من الشعور بعدم التحقق والدونية، حتى الحب الذي ظهر في حياته لم يخرجه من ورطته النفسية والمجتمعية، كان تحولاً كبيرًا عندما وقع في حب فتاة قادمة من أقلية ألمانية يكرها التشيك. ظن "ديتيا" أن حياته معها ستبدأ من جديد، وسيحقق معها المكانة التي ينشدها. تنتهي بها حالة القهر التي يعيشها، فقد كان منبوذًا، وحيدًا على حافة المجتمع، معزولاً عن العالم الذي طالما أحبه، وقد تمنى أن ينهي تجواله في عالم أصدقائه الوحيدين من الحيوانات. لا يسعى إلى أن يضارع أحدًا، بل يبحث عن نفسه التي ضاعت منه وافتقدها.
يقول المترجم البلتاجي في المقدمة: "من المؤكد أن مشاعر سلبية ستنتاب القارئ في البداية ضد بطل الرواية ديتيا، وربما سينفر منه البعض لحرصه الشديد على أن يصبح رجلاً ثريًّا ومرموقًا في المجتمع بأي ثمن، حتى لو تنازل عن شرفه وهويته. لكن ما إن نغوص في أعماق الرواية حتى نعرف أن البطل إنسان فشل في حياته. حاول أن يسير ضد طبيعته، فجاءت كل محاولاته بنتائج كارثية. نعم حالفه القدر وحقق له كل ما تمناه، لكن سرعان ما كان ذلك يتبدد. وهو في النهاية ما يجعل القارئ يتعاطف معه لأنه لم يقدر يومًا على أن يكون سعيدًا، وأن يتجاوز عن كل سقطاته".
ومن خلال متابعة أعمال هرابال يمكن ملاحظة أنه استفاد من تجاربه الشخصية، فقد كانت ضمن مصادر استلهام قصص الرواية، وخاصة تجاربه في الفنادق والمطاعم الفخمة، وحكايات رئيس السعاة في فندق "مودرا هفايزدا" في مدينة ستِسكا بوسط إقليم "بوهيميا"، والذي ما زال موجودًا حتى اليوم. وقد كان كثير من شخوص الرواية أناسًا حقيقيين من ضمن معارفه، ورغم ذلك يؤكد هرابال في نهاية الرواية أنه كتبها "تحت تأثير الذاكرة الكاذبة" لسلفادور دالي، ونظرية فرويد عن "الشعور المكبوت الذي يجد له في الحديث مُتنفسًا".
ويعتبر بوهوميل هرابال (1914 - 1997) واحدًا من أفضل ممثلي الأدب التشيكي في القرن العشرين، وأكثرهم ترجمة إلى اللغات الأجنبية. درس في كلية الحقوق بجامعة تشالز بمدينة براغ، كما تردد على محاضرات في تاريخ الأدب والفن والفلسفة، أنهى دراسته الجامعية عام 1946. وعمل إبان الحرب العالمية الثانية بهيئة السكة الحديد، واشتغل ساعي بريد ومندوب مبيعات، كما تطوع للعمل في شركة للحديد والصلب، وعمل في مصانع تعبئة المواد الخام، والمسرح.
وبدأ هرابال نشاطه الأدبي عام 1963. وأصبح في عام 1965 عضوًا باتحاد الكتاب التشيكوسلوفاك. وقد مُنع من الكتابة بعد ربيع براغ. لكنه بدأ بعدها ينشر أعماله في دور نشر سرية أو أجنبية، وعاود الكتابة بصور رسمية منذ عام 1975. وتحولت كثير من كتاباته إلى أعمال سينمائية، وحصل على العديد من جوائز النشر، اعتبر خليفة فرانز كافكا في الأدب التشيكي، خاصة بعد روايته "عزلة صاخبة للغاية".
توفي عام 1997 بعد سقوطه من نافذة حجرته بالطابق الخامس بالمستشفى التي كان يعالج فيها بمدينة براغ، ودفن في نفس المقبرة التي دفنت فيها أمه، وزوجها، وعمه وأخيه، وقد أوصى بوضعه في نعش من خشب البلوط. من أهم أعماله "حديث الناس - 1956"، و"قنبرة فوق الحبل - 1959"، و"لؤلؤة في القاع" وهي مجموعة قصصية نشرها 1963، و"الرغائون - مجموعة قصصية 1964"، و"قطارات تحت حراسة مشددة - 1965"، و"إعلان عن بيع بيت لا أريد العيش فيه - 1965"، و"وحدة صاخبة للغاية - 1989"، و"نهاية سعيدة - 1993"، و"الهمجي الرقيق - 1981".
يمزج الكاتب التشيكي بوهوميل هرابال في روايته "خدمت ملك إنجلترا"، الصادرة حديثًا عن دار صفصافة القاهرية، بين الخيال وبين وقائع حقيقية عايشها فعليًّا، تتجلى التفاصيل فيها مفعمة بالتناقضات والسذاجة، والعبثية، والسخرية والدموع، والمواقف التي لا تُصدق. ورغم أن المؤلف التزم ببدايات تقليدية لكل فصول الرواية الخمسة، أو القصص الخمس التي تشكل الرواية، فإن النهايات جاءت جذابة ومدهشة.
في الرواية التي ترجمها الدكتور خالد البلتاجي وجه هرابال نصيحة أشبه بالتحذير لقرائه، يدعوهم فيها للانتباه لرسالته، حيث يقول في بداية كل فصل: "اسمعوا وعوا ما سأقصه الآن عليكم". وعند كل نهاية من الفصول الخمسة يختتم بعبارة: "هل اكتفيتم؟ هذا كل ما لدي اليوم". وقد جاء كل فصل من فصولها في مقطع واحد، وبجمل طويلة مركبة. وتجلت طريقة هرابال المعهودة القائمة على الانفراط في السرد، حيث تتبدل لغة الراوي حسب حالته النفسية، كما أن محاولاته الساذجة في ارتقاء درجات السلم الاجتماعي تترك أثرها في لغته حيث يحاول انتقاء الكلمات وتهذيبها، فيختلط ما هو دارج بما هو فصيح، كما تختلط العبارات الأجنبية بالتشيكية.
كتب هرابال "خدمت ملك إنجلترا" مطلع سبعينات القرن العشرين، وقد قامت السلطات بمنعها من النشر حتى سقوط الشيوعية في التشيك عام 1989. وكانت المشاهد الجنسية الصارخة من أسباب المنع الرئيسية عند ظهور الرواية عام 1971. لكنها لم تكن بكل تأكيد متسقة مع الآيديولوجية الشيوعية وقتها. حيث يسخر هرابال فيها من كل الأنظمة المستبدة، فهو لا يرى الإنسان التشيكي بمرآة وردية، كما يرفض رؤية الأحداث من وجهين لا ثالث لهما، بخاصة أحداث الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها.
ويعمد هربال إلى إدهاش قرائه من خلال صراحته، والشخصيات التي تعبر عن نفسها بوضوح، ودون مواربة. يقول في إحدى صفحات الرواية: عندما يصل الطفل الراوي لسن 14 عامًا يعمل في فندق براغ، ثم ينتقل إلى فندق تيتشوتا وبعده يلتحق بفندق باريس، وكان رئيسه سكوفانيك يتمتع بإمكانيات كبيرة، وكان كلما سأله أحد كيف تعلمت كل هذا كان يفاخر بأنه خدم ملك إنجلترا، المدهش في أمر هذا الرجل أنه حظي بزيارة إمبراطور الحبشة ونال الطفل ديتيا إعجابه لكنه اتهم في نهاية الاستقبال بسرقة ملعقة ذهبية كاد يعاقب على أثرها، لكن أنقذه أنهم وجدوها في ركام المطبخ.
يتابع هرابال في الرواية سيرة بطل الرئيسي "ديتيا"، ومعناه "طفل" بالتشيكية. ويظل "ديتيا" مطاردًا طيلة حياته تحت وطأة شعور بالدونية نتيجة قصر قامته، يحاول أن يباري وجهاء المدينة في جاههم ومالهم. يحالفه نجم سعده ويدفعه إلى الأمام إلى مجد ينشده، وثراء طالما حلم به، وحب امرأة جميلة، لكن كل هذا يأتيه في اللحظة الخاطئة. لم يشعر يومًا بأنه سعيد، وظل دائم السعي، ولا يكاد يبلغ هدفه حتى يتأكد أن مبتغاه لا قيمة له، ولا يرضيه. بل كان على العكس، كلما علا وارتفع تزايد تجاهل المجتمع له. فقد كان يراه إنسانًا انتهازيًّا، يغتنم المواقف، ويقف في صف القوي.
تبدو الرواية وكأنها شكل من أشكال الرواية التاريخية. فالذات الساردة تتتبع نمو شخصية البطل، ويحيل المؤلف من خلالها إلى كتابات أدباء مثل جوته، وتوماس مان، وجونتر جراس وغيرهم. كما تنعكس في قصة حياة البطل لحظات حاسمة في تاريخ وسط أوروبا في القرن العشرين، تتقاطع فيها ظلال من حياة الكاتب نفسه، ويحكيها الراوي بأسلوب الثرثرة التي تشيع في المقاهي وجلسات الوحدة القاتلة.
سارت حياة البطل على هذه الوتيرة من الشعور بعدم التحقق والدونية، حتى الحب الذي ظهر في حياته لم يخرجه من ورطته النفسية والمجتمعية، كان تحولاً كبيرًا عندما وقع في حب فتاة قادمة من أقلية ألمانية يكرها التشيك. ظن "ديتيا" أن حياته معها ستبدأ من جديد، وسيحقق معها المكانة التي ينشدها. تنتهي بها حالة القهر التي يعيشها، فقد كان منبوذًا، وحيدًا على حافة المجتمع، معزولاً عن العالم الذي طالما أحبه، وقد تمنى أن ينهي تجواله في عالم أصدقائه الوحيدين من الحيوانات. لا يسعى إلى أن يضارع أحدًا، بل يبحث عن نفسه التي ضاعت منه وافتقدها.
يقول المترجم البلتاجي في المقدمة: "من المؤكد أن مشاعر سلبية ستنتاب القارئ في البداية ضد بطل الرواية ديتيا، وربما سينفر منه البعض لحرصه الشديد على أن يصبح رجلاً ثريًّا ومرموقًا في المجتمع بأي ثمن، حتى لو تنازل عن شرفه وهويته. لكن ما إن نغوص في أعماق الرواية حتى نعرف أن البطل إنسان فشل في حياته. حاول أن يسير ضد طبيعته، فجاءت كل محاولاته بنتائج كارثية. نعم حالفه القدر وحقق له كل ما تمناه، لكن سرعان ما كان ذلك يتبدد. وهو في النهاية ما يجعل القارئ يتعاطف معه لأنه لم يقدر يومًا على أن يكون سعيدًا، وأن يتجاوز عن كل سقطاته".
ومن خلال متابعة أعمال هرابال يمكن ملاحظة أنه استفاد من تجاربه الشخصية، فقد كانت ضمن مصادر استلهام قصص الرواية، وخاصة تجاربه في الفنادق والمطاعم الفخمة، وحكايات رئيس السعاة في فندق "مودرا هفايزدا" في مدينة ستِسكا بوسط إقليم "بوهيميا"، والذي ما زال موجودًا حتى اليوم. وقد كان كثير من شخوص الرواية أناسًا حقيقيين من ضمن معارفه، ورغم ذلك يؤكد هرابال في نهاية الرواية أنه كتبها "تحت تأثير الذاكرة الكاذبة" لسلفادور دالي، ونظرية فرويد عن "الشعور المكبوت الذي يجد له في الحديث مُتنفسًا".
ويعتبر بوهوميل هرابال (1914 - 1997) واحدًا من أفضل ممثلي الأدب التشيكي في القرن العشرين، وأكثرهم ترجمة إلى اللغات الأجنبية. درس في كلية الحقوق بجامعة تشالز بمدينة براغ، كما تردد على محاضرات في تاريخ الأدب والفن والفلسفة، أنهى دراسته الجامعية عام 1946. وعمل إبان الحرب العالمية الثانية بهيئة السكة الحديد، واشتغل ساعي بريد ومندوب مبيعات، كما تطوع للعمل في شركة للحديد والصلب، وعمل في مصانع تعبئة المواد الخام، والمسرح.
وبدأ هرابال نشاطه الأدبي عام 1963. وأصبح في عام 1965 عضوًا باتحاد الكتاب التشيكوسلوفاك. وقد مُنع من الكتابة بعد ربيع براغ. لكنه بدأ بعدها ينشر أعماله في دور نشر سرية أو أجنبية، وعاود الكتابة بصور رسمية منذ عام 1975. وتحولت كثير من كتاباته إلى أعمال سينمائية، وحصل على العديد من جوائز النشر، اعتبر خليفة فرانز كافكا في الأدب التشيكي، خاصة بعد روايته "عزلة صاخبة للغاية".
توفي عام 1997 بعد سقوطه من نافذة حجرته بالطابق الخامس بالمستشفى التي كان يعالج فيها بمدينة براغ، ودفن في نفس المقبرة التي دفنت فيها أمه، وزوجها، وعمه وأخيه، وقد أوصى بوضعه في نعش من خشب البلوط. من أهم أعماله "حديث الناس - 1956"، و"قنبرة فوق الحبل - 1959"، و"لؤلؤة في القاع" وهي مجموعة قصصية نشرها 1963، و"الرغائون - مجموعة قصصية 1964"، و"قطارات تحت حراسة مشددة - 1965"، و"إعلان عن بيع بيت لا أريد العيش فيه - 1965"، و"وحدة صاخبة للغاية - 1989"، و"نهاية سعيدة - 1993"، و"الهمجي الرقيق - 1981".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.