النائب محمد الأجرود: كلمة السيسي تؤكد على اتخاذ كل الإجراءات لضمان نزاهة الانتخابات    بعد تكليفات الرئيس .. إجراءات غير مسبوقة لضمان نزاهة الانتخابات    الوطنية للانتخابات: قد نُلغِي الانتخابات كليًا أو في دوائر محددة إذا ثبتت المخالفات    نائب محافظ الدقهلية يتفقد مدينة جمصة والمنطقة الصناعية    محافظ البنك المركزي يترأس اجتماع المجموعة التشاورية الإقليمية للشرق الأوسط    لجان المقاومة الشعبية تعلن استشهاد أحد زعمائها في غزة    من ركلة جزاء.. الرأس الأخضر يتقدم بهدف أمام منتخب مصر «شاهد»    السيطرة على حريق بشقة سكنية في بنها    قرار جديد بشأن المتهمين في قضية خلية الهيكل الإداري    الأرصاد: غدا طقس مائل للحرارة نهارا مائل للبرودة ليلا والعظمى بالقاهرة 26    مصرع 3 عناصر إجرامية في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة بكفر الزيات    معلم يعتدي على طالب في مدرسة بالإسكندرية    توقيع مذكرة تعاون بين مهرجاني «القاهرة» و«بغداد» السينمائيين    "هنو" و"حبشي" يتفقدان قصر ثقافة بورسعيد للوقوف على الأعمال المطلوبة لتطويره    رحلة القطعة الأثرية من الاكتشاف إلى العرض بالأعلى للثقافة    قصر العيني تنظم ورشة عمل حول التدريب النظري والعملي على أساسيات طب الحالات الحرجة    ولي العهد السعودي يتوجه إلى واشنطن لبحث التعاون في مجال الدفاع والطاقة النووية السلمية    التنسيقة تؤكد أهمية تمكين مندوبي المرشحين من الحصول عل الوثائق الرسمية بحصر الأصوات    وزيرة التضامن ومحافظ الفيوم يتفقدان مشروع خدمة المرأة العاملة بالحادقة    "من أجل قلوب أطفالنا"، الكشف الطبي على 288 حالة في مبادرة جامعة بنها    رئيسة وزراء بنجلاديش السابقة تعقب على حكم الإعدام.. ماذا قالت؟    الأطباء أوصوه بالحصول على فترة راحة.. تحسن ملحوظ في الحالة الصحية للموسيقار عمر خيرت    رئيس الوزراء يلتقي أعضاء اللجنة الاستشارية للشئون السياسية    لا تُجيد القراءة والكتابة.. الحاجة فاطمة تحفظ القرآن كاملًا في عمر ال80 بقنا: "دخلت محو الأمية علشان أعرف أحفظه"    رئيس الوزراء يلتقي أعضاء اللجنة الاستشارية للشئون السياسية    صادرات مصر من السلع نصف المصنعة بلغت 868.7 مليون دولار خلال يوليو 2025    مولاي الحسن يحتضن مباراة الأهلي والجيش الملكي    شيخ الأزهر يستقبل وزير التعليم العالي التشادي ويناقشان تعزيز التعاون الدعوي والعلمي    شاهد مناورة ودية.. "بث مباشر" مباراة مصر والجزائر اليوم الاثنين 17 نوفمبر 2025    تشكيل منتخب مصر المشارك في كأس العرب لودية الجزائر    هبوط المؤشر الرئيسى للبورصة بنسبة 0.35% بختام تعاملات جلسة الإثنين    القاهرة الإخبارية: اللجنة المصرية بغزة أقامت بمفردها 15 مخيما لمساعدة أهالي القطاع    انسحاب مئات العناصر من قوات الحرس الوطني من شيكاغو وبورتلاند    الجيش الملكي يعلن تغيير ملعب مباراته أمام الأهلي.. اعرف السبب!    مجمع البحوث الإسلامية يطلق مسابقة ثقافية لوعاظ الأزهر حول قضايا الأسرة    المتهم بقتل صديقه مهندس الإسكندرية في التحقيقات : صليت العصر وروحت أقتله    مياه كفر الشيخ: دورة تدريبية لرفع كفاءة العنصر البشري وتعزيز الثقافة العمالية    وكيل تعليم بني سويف تتابع انتظام الدراسة بمدارس المحافظة    وزير الخارجية يؤكد لنظيره السوداني رفض مصر الكامل لأي محاولات تستهدف تقسيم البلاد أو الإضرار باستقرارها    أبو الغيط: الحوار العربي- الصيني ضرورة استراتيجية في مواجهة تحولات العالم المتسارعة    موعد قرعة الملحقين الأوروبي والعالمي المؤهلين ل كأس العالم 2026    مصلحة الجمارك: منظومة ACI تخفض زمن الإفراج الجمركي جوا وتقلل تكاليف الاستيراد والتصدير    محافظ كفر الشيخ: الكشف على 1626 شخصا خلال قافلة طبية مجانية فى دسوق    موعد شهر رمضان 2026 فلكيًا .. تفاصيل    جاتزو بعد السقوط أمام النرويج: انهيار إيطاليا مقلق    إعادة الحركة المرورية بعد تصادم بين سيارتين على طريق "مصر–إسكندرية الزراعي"    كوريا الجنوبية تقترح محادثات مع نظيرتها الشمالية لترسيم الحدود    صحة بني سويف: افتتاح عيادة جديدة للأوعية الدموية بمستشفى الواسطى المركزي    توم كروز يتسلم جائزة الأوسكار الفخرية بخطاب مؤثر (فيديو)    دار الإفتاء: فوائد البنوك "حلال" ولا علاقة بها بالربا    وزارة العمل : تحرير 437 محضر حد أدنى للأجور.. و37 مخالفة لتراخيص الأجانب    وزير الصحة يشهد الاجتماع الأول للجنة العليا للمسئولية الطبية وسلامة المريض.. ما نتائجه؟    لكل من يحرص على المواظبة على أداء صلاة الفجر.. إليك بعض النصائح    أحمد سعد: الأطباء أوصوا ببقائي 5 أيام في المستشفى.. أنا دكتور نفسي وسأخرج خلال يومين    رئيس شعبة الذهب: البنك المركزي اشترى 1.8مليون طن في 2025    الفجر 4:52 مواقيت الصلاه اليوم الإثنين 17نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا    السيطرة على حريق نشب في سيارة ملاكي و4 موتوسيكلات بأرض فضاء بالزاوية الحمراء    لاعب الزمالك السابق: خوان بيزيرا صفقة سوبر وشيكو بانزا «غير سوي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"خلف أبواب مغلقة" لسارتر: من يحاكم من؟
نشر في صوت البلد يوم 21 - 03 - 2020

ما هي الفكرة الأولى التي قد تخطر في بال المرء وهو يتجوّل، ولو خرقًا للقانون، في شارع أي واحدة من مدن العالم الكثيرة التي تفرض الآن نوعًا من حظر تجوال على المواطنين بسبب الخوف من فيروس كورونا؟ ربما واحدة من عبارات جان – بول سارتر الكثيرة التي يتبين بين الحين والآخر كم كانت على صواب. وتحديدًا العبارة التي ترتكز إليها مسرحيته الشهيرة "خلف أبواب مغلقة": "الجحيم هو الآخرون".
ونعرف أن كثرًا قد اعتادوا استخدام هذا القول، حتى دون أن يعرفوا أحيانا لمن هو وغالبًا دون أن يعرفوا من أين هو مستقى حتى ولو تذكروا أنه لسارتر. والحقيقة أن سارتر لا يستخدم هذه العبارة في تلك المسرحية - التي قُدّمت للمرة الأولى على خشبة "فيو كولومبييه" الباريسية، في زمن كانت فيه فرنسا واقعة تحت الاحتلال النازي في العام 1944-، على سبيل الكناية أو الموعظة. بل بالمعنى الحرفي للكلمة، كما سنرى بعد سطور، ولكن بعد أن نتوقف عند سياق استعادة التعبير اليوم.
فالحال أن من يسير في الشوارع في أيامنا هذه، سيلحظ أول ما يلاحظ نظرة المارة، القلائل بالطبع، إلى بعضهم البعض: نظرة خوف وتوجّس. كل واحد يرعبه الإحساس بأن أي واحد من الآخرين قد يكون حاملًا الفيروس، وأنه لو فتح فمه حين يدنو منه لنقل إليه العدوى القاتلة فورًا. هلع جماعي وبارانويا باتت متأصلة. الآخر هو العقاب الآن. فإنسان الأزمنة الحديثة، بعدما "جرّب" في الفنون والآداب ومن ثمّ في حياته اليومية كلّ صنوف الأعداء والغزاة والحيوانات والمخلوقات المافوق حيوانية والكوارث الطبيعية وصولًا إلى إيقاظ الموتى من سباتهم.. إلخ، ها هو يعود اليوم إلى شبيهه، قرينه، وربما أقربائه وأهله ليرى فيهم صورة الجحيم. وكان هذا بالتحديد ما عبّر عنه سارتر في تلك المسرحية التي تكاد تترحم لحسابها عبارة توماس هوبز الشهيرة "الإنسان ذئب بالنسبة إلى أخيه الإنسان".
الآخرون في حياتنا وبعد موتنا
في المسرحية السارترية لدينا مكان مغلق سرعان ما سيتبيّن لنا أنه الجحيم بالتحديد، وبتحديد أكثر مقر المحاكمة التي تُجرى للمساقين إلى تلك الحياة الآخرة لمحابتهم على ما اقترفوه. ومنذ اللحظة التي يدخل فيها غارسان، أول المحاكَمين الثلاثة، ستكون ملاحظته الأولى أن ما من أدوات تعذيب هناك وما من جلادين. حيّز خال حتى من أي شخص آخر. بعد مبارحة الفتى الذي أوصله إلى المكان يبقى غارسان وحيدًا متأملًا في حيرة. لا يقلقه هنا كونه قد مات منذ حين وحلّت آخرته بقدر ما يقلقه اختلاف صورة هذا "الجحيم" عن كل ما كان قد تصوّره في الماضي. بعد ذلك وهو في غمرة تساؤلاته تدخل المحاكَمة الثانية إيريس مرتبكة تتساءل عن صديقتها فلورانس فيجيبها غارسان بأنه لا يعرفها ولم يرها... ثم يدخل الاثنان في حديث مرتبك ومتشعّب حول محاكمتهما المفترضة. وفيما هما عل تلك الحال تدخل المكان امرأة أخرى هي إستيل الميتة حديثًا بدورها والتي هي هنا، كالآخرَيْن لتحاكم. وهكذا يكتمل عقد الحضور ليحاول كل منهم مجابهة ما حدث له: كيف مات ولماذا؟ ولكن بشكل أخص: ما هو الذنب الذي يستحق الجحيم بسببه؟ ثم ما هو العقاب الذي سيكون من نصيبه؟ وما هي السلطة التي ستحاكمه. وهكذا، بالتدريج ينكشف كل شيء: كل واحد من الثلاثة أذنب دون أن يعرف أن ما يقترفه ذنب. وكل من الثلاثة سيدفع الآن ثمن ذلك الذنب... عقابًا أبديًّا، يتلو محاكمة عادلة. ولكن من الذي يحاكم وما هو العقاب؟
ببساطة: كل واحد من الثلاثة هو القاضي الذي يحاكم الآخريْن والذي سيصدر عليهما الحكم الأبدي المبرم؟ فما هو هذا الحكم؟ ببساطة أيضًا هو حضور كل واحد من هؤلاء الثلاثة في "حياة" الآخريْن إلى أبد الآبدين. ذلكم هو الجحيم الموعود لكل مذنب. "الآخرون هم الجحيم" تزعق المسرحية في وجهنا. وهو، على ما يبدو، الزعيق نفسه الذي قد يكون على كل منا أن يتحمله اليوم وقد بات "كل إنسان ذئبًا بالنسبة إلى أخيه الإنسان". ويقينًا أن سارتر حين عنى هذا بمسرحيته المبكرة تلك، لم يكن لا مازحًا ولا معبّرًا عن نفور ما من البشر، وإنما كان راصدًا لواقع كان في زمنه يدعو كل واحد للتحسب تجاه الآخرين الذين قد يكون الخونة والوشاة المناصرون للنازي المحتل بينهم، واليوم ها هو الاحتمال ينقلب ليصبح حملًا للفيروس... في نفس السيرورة التي يتجابه فيها كل واحد مع الآخرين!
فلسفة ومسرح وسوء تفاهم
ونعرف أن جان بول سارتر الذي ولد في 1905 ظل طوال هذا القرن حيًّا في الحياة الثقافية الفرنسية، وظل الاسم الذي يقفز إلى الذهن أول ما يجري الحديث عن ثقافة فرنسية: كان روائيًّا وكاتبًا مسرحيًّا وناقدًا ومنظّرًا في الأدب والنقد، لكنه كان قبل ذلك فيلسوفًا، عرّف فرنسا على الفلسفة الألمانية، وحاول المزاوجة بين الماركسية والوجودية، وربط نفسه أولاً وأخيرًا بمفاهيم مثل "التقدم" و"الحداثة" و"الحرية" و"الالتزام"، وآمن بالعديد من القضايا العادلة انطلاقًا من إيمانه بالحرية والتقدم، ووقف ضد حرب الجزائر مطالبًا بمنح الجزائر استقلالها، كما وقف إلى جانب حركات الشبيبة ونزل إلى الشارع متظاهرًا حينًا، وبائعًا للصحف التقدمية حينًا آخر. ونزوله هذا جره أكثر من مرة إلى أقسام الشرطة، وهو الذي لم يجرؤ حتى النازيون على اعتقاله حين كانت مسرحياته المعادية لهم (مثل "الذباب") تقدم على رغم أنفهم على المسارح الفرنسية خلال الاحتلال، فأسروه لفترة كجندي لكنهم لم يمسوه ككاتب.
هذه الحيوية السارترية كلها تجلت في كتب فلسفية مثل "الوجود والعدم"و"تعالي الأنا"و"الوجودية مذهب انساني"و"نقد العقل الجدلي"، وهي كتبه الفلسفية الأساسية. بيد أن سارتر لم يكتف بتوضيح فكره الفلسفي في كتبه "التقنية"الفلسفية الخالصة، بل عبّر عنه في نصوصه الإبداعية الكثيرة التي ليس من الظلم لها ولسارتر أن نقول أن الإبداع فيها إنما استخدم من قبل سارتر للتعبير عن قضايا فكرية وإنسانية. وهو ما أنكر هذا، أبدًا، على أي حال، بل كان التوكيد عليه محور صراعه الفكري مع البير كامو. كما كانت من أبرز روايات سارتر "الغثيان"وهي واحدة من أولى رواياته كتبها تحت تأثير فكر هوسرل الفينومينولوجي/ الوجودي. أما من بين مسرحياته، فيمكن التوقف طويلاً عند نصوص نشرت ومثلت مرات عدة على خشبات المسارح ويمكن لدراستها دراسة متأنية اليوم أن تكشف كم أن سارتر استخدم المسرح (مكان الحوار المثالي، ومكان المجابهة المباشرة واليومية مع الجمهور) للتعبير عن أفكاره ومصادر قلقه. ويتجلى هذا خاصة كما رأينا في "خلف أبواب مغلقة" وفي "موتى بلا قبور"(1946) التي تعالج مسألة السلطة ولجوئها إلى التعذيب، كما في "المومس الفاضلة"التي تعالج قضية العنصرية، وفي "الأيدي القذرة"التي تتحدث عن إمكانية غوص المرء في السياسة من دون أن يلوث يديه، كما في "الشيطان والإله الطيب"التي يعبر فيها سارتر عن مشكلة الحرية من وجهة فلسفية بحتة، وفي "الذباب"وغيرها. ومن الكتب المهمة الأخرى التي يمكن ذكرها اليوم في مجال الحديث عن سارتر كتابه المبكر عن جان جينيه، ورباعية "دروب الحرية"وسلسلة "مواقف"و"الحرب الغريبة"وغيرها.
بيد أن بين أهم ما يبقى من سارتر شخصيته نفسها. هو الذي لم يكفّ لحظة عن التأمل والعمل، والتغلب والبحث عن الحرية، ومواكبة الجديد كما مواكبة الباحثين عن الجديد، مسخراً وقته وفكره، وخاصة مجلته الشهرية الشهيرة "الأزمنة الحديثة" للنضال في سبيل الحرية والقدم، وأحياناً لتبرير تقلّباته. ولكن غالبا لطرح القضايا الشائكة والتي تبرز من بينها قضية كثيرا ما شغلت بال سارتر وهي علاقتنا بالآخرين، تلك العلاقة التي قد تكون "خلف أبواب مغلقة" خير تعبير عنها، حتى وإن كان كاتبنا سينتقد دائما الطريقة التي تم بها تلقي المسرحية، على الخشبة أو في كتاب: ففي حين كتبها هو على شكل مزحة تلقاها الناس بصورة مغرقة في الجدية ما أدهشه وحيّره حيرة غارسان في الصفحات الأولى منها!
ما هي الفكرة الأولى التي قد تخطر في بال المرء وهو يتجوّل، ولو خرقًا للقانون، في شارع أي واحدة من مدن العالم الكثيرة التي تفرض الآن نوعًا من حظر تجوال على المواطنين بسبب الخوف من فيروس كورونا؟ ربما واحدة من عبارات جان – بول سارتر الكثيرة التي يتبين بين الحين والآخر كم كانت على صواب. وتحديدًا العبارة التي ترتكز إليها مسرحيته الشهيرة "خلف أبواب مغلقة": "الجحيم هو الآخرون".
ونعرف أن كثرًا قد اعتادوا استخدام هذا القول، حتى دون أن يعرفوا أحيانا لمن هو وغالبًا دون أن يعرفوا من أين هو مستقى حتى ولو تذكروا أنه لسارتر. والحقيقة أن سارتر لا يستخدم هذه العبارة في تلك المسرحية - التي قُدّمت للمرة الأولى على خشبة "فيو كولومبييه" الباريسية، في زمن كانت فيه فرنسا واقعة تحت الاحتلال النازي في العام 1944-، على سبيل الكناية أو الموعظة. بل بالمعنى الحرفي للكلمة، كما سنرى بعد سطور، ولكن بعد أن نتوقف عند سياق استعادة التعبير اليوم.
فالحال أن من يسير في الشوارع في أيامنا هذه، سيلحظ أول ما يلاحظ نظرة المارة، القلائل بالطبع، إلى بعضهم البعض: نظرة خوف وتوجّس. كل واحد يرعبه الإحساس بأن أي واحد من الآخرين قد يكون حاملًا الفيروس، وأنه لو فتح فمه حين يدنو منه لنقل إليه العدوى القاتلة فورًا. هلع جماعي وبارانويا باتت متأصلة. الآخر هو العقاب الآن. فإنسان الأزمنة الحديثة، بعدما "جرّب" في الفنون والآداب ومن ثمّ في حياته اليومية كلّ صنوف الأعداء والغزاة والحيوانات والمخلوقات المافوق حيوانية والكوارث الطبيعية وصولًا إلى إيقاظ الموتى من سباتهم.. إلخ، ها هو يعود اليوم إلى شبيهه، قرينه، وربما أقربائه وأهله ليرى فيهم صورة الجحيم. وكان هذا بالتحديد ما عبّر عنه سارتر في تلك المسرحية التي تكاد تترحم لحسابها عبارة توماس هوبز الشهيرة "الإنسان ذئب بالنسبة إلى أخيه الإنسان".
الآخرون في حياتنا وبعد موتنا
في المسرحية السارترية لدينا مكان مغلق سرعان ما سيتبيّن لنا أنه الجحيم بالتحديد، وبتحديد أكثر مقر المحاكمة التي تُجرى للمساقين إلى تلك الحياة الآخرة لمحابتهم على ما اقترفوه. ومنذ اللحظة التي يدخل فيها غارسان، أول المحاكَمين الثلاثة، ستكون ملاحظته الأولى أن ما من أدوات تعذيب هناك وما من جلادين. حيّز خال حتى من أي شخص آخر. بعد مبارحة الفتى الذي أوصله إلى المكان يبقى غارسان وحيدًا متأملًا في حيرة. لا يقلقه هنا كونه قد مات منذ حين وحلّت آخرته بقدر ما يقلقه اختلاف صورة هذا "الجحيم" عن كل ما كان قد تصوّره في الماضي. بعد ذلك وهو في غمرة تساؤلاته تدخل المحاكَمة الثانية إيريس مرتبكة تتساءل عن صديقتها فلورانس فيجيبها غارسان بأنه لا يعرفها ولم يرها... ثم يدخل الاثنان في حديث مرتبك ومتشعّب حول محاكمتهما المفترضة. وفيما هما عل تلك الحال تدخل المكان امرأة أخرى هي إستيل الميتة حديثًا بدورها والتي هي هنا، كالآخرَيْن لتحاكم. وهكذا يكتمل عقد الحضور ليحاول كل منهم مجابهة ما حدث له: كيف مات ولماذا؟ ولكن بشكل أخص: ما هو الذنب الذي يستحق الجحيم بسببه؟ ثم ما هو العقاب الذي سيكون من نصيبه؟ وما هي السلطة التي ستحاكمه. وهكذا، بالتدريج ينكشف كل شيء: كل واحد من الثلاثة أذنب دون أن يعرف أن ما يقترفه ذنب. وكل من الثلاثة سيدفع الآن ثمن ذلك الذنب... عقابًا أبديًّا، يتلو محاكمة عادلة. ولكن من الذي يحاكم وما هو العقاب؟
ببساطة: كل واحد من الثلاثة هو القاضي الذي يحاكم الآخريْن والذي سيصدر عليهما الحكم الأبدي المبرم؟ فما هو هذا الحكم؟ ببساطة أيضًا هو حضور كل واحد من هؤلاء الثلاثة في "حياة" الآخريْن إلى أبد الآبدين. ذلكم هو الجحيم الموعود لكل مذنب. "الآخرون هم الجحيم" تزعق المسرحية في وجهنا. وهو، على ما يبدو، الزعيق نفسه الذي قد يكون على كل منا أن يتحمله اليوم وقد بات "كل إنسان ذئبًا بالنسبة إلى أخيه الإنسان". ويقينًا أن سارتر حين عنى هذا بمسرحيته المبكرة تلك، لم يكن لا مازحًا ولا معبّرًا عن نفور ما من البشر، وإنما كان راصدًا لواقع كان في زمنه يدعو كل واحد للتحسب تجاه الآخرين الذين قد يكون الخونة والوشاة المناصرون للنازي المحتل بينهم، واليوم ها هو الاحتمال ينقلب ليصبح حملًا للفيروس... في نفس السيرورة التي يتجابه فيها كل واحد مع الآخرين!
فلسفة ومسرح وسوء تفاهم
ونعرف أن جان بول سارتر الذي ولد في 1905 ظل طوال هذا القرن حيًّا في الحياة الثقافية الفرنسية، وظل الاسم الذي يقفز إلى الذهن أول ما يجري الحديث عن ثقافة فرنسية: كان روائيًّا وكاتبًا مسرحيًّا وناقدًا ومنظّرًا في الأدب والنقد، لكنه كان قبل ذلك فيلسوفًا، عرّف فرنسا على الفلسفة الألمانية، وحاول المزاوجة بين الماركسية والوجودية، وربط نفسه أولاً وأخيرًا بمفاهيم مثل "التقدم" و"الحداثة" و"الحرية" و"الالتزام"، وآمن بالعديد من القضايا العادلة انطلاقًا من إيمانه بالحرية والتقدم، ووقف ضد حرب الجزائر مطالبًا بمنح الجزائر استقلالها، كما وقف إلى جانب حركات الشبيبة ونزل إلى الشارع متظاهرًا حينًا، وبائعًا للصحف التقدمية حينًا آخر. ونزوله هذا جره أكثر من مرة إلى أقسام الشرطة، وهو الذي لم يجرؤ حتى النازيون على اعتقاله حين كانت مسرحياته المعادية لهم (مثل "الذباب") تقدم على رغم أنفهم على المسارح الفرنسية خلال الاحتلال، فأسروه لفترة كجندي لكنهم لم يمسوه ككاتب.
هذه الحيوية السارترية كلها تجلت في كتب فلسفية مثل "الوجود والعدم"و"تعالي الأنا"و"الوجودية مذهب انساني"و"نقد العقل الجدلي"، وهي كتبه الفلسفية الأساسية. بيد أن سارتر لم يكتف بتوضيح فكره الفلسفي في كتبه "التقنية"الفلسفية الخالصة، بل عبّر عنه في نصوصه الإبداعية الكثيرة التي ليس من الظلم لها ولسارتر أن نقول أن الإبداع فيها إنما استخدم من قبل سارتر للتعبير عن قضايا فكرية وإنسانية. وهو ما أنكر هذا، أبدًا، على أي حال، بل كان التوكيد عليه محور صراعه الفكري مع البير كامو. كما كانت من أبرز روايات سارتر "الغثيان"وهي واحدة من أولى رواياته كتبها تحت تأثير فكر هوسرل الفينومينولوجي/ الوجودي. أما من بين مسرحياته، فيمكن التوقف طويلاً عند نصوص نشرت ومثلت مرات عدة على خشبات المسارح ويمكن لدراستها دراسة متأنية اليوم أن تكشف كم أن سارتر استخدم المسرح (مكان الحوار المثالي، ومكان المجابهة المباشرة واليومية مع الجمهور) للتعبير عن أفكاره ومصادر قلقه. ويتجلى هذا خاصة كما رأينا في "خلف أبواب مغلقة" وفي "موتى بلا قبور"(1946) التي تعالج مسألة السلطة ولجوئها إلى التعذيب، كما في "المومس الفاضلة"التي تعالج قضية العنصرية، وفي "الأيدي القذرة"التي تتحدث عن إمكانية غوص المرء في السياسة من دون أن يلوث يديه، كما في "الشيطان والإله الطيب"التي يعبر فيها سارتر عن مشكلة الحرية من وجهة فلسفية بحتة، وفي "الذباب"وغيرها. ومن الكتب المهمة الأخرى التي يمكن ذكرها اليوم في مجال الحديث عن سارتر كتابه المبكر عن جان جينيه، ورباعية "دروب الحرية"وسلسلة "مواقف"و"الحرب الغريبة"وغيرها.
بيد أن بين أهم ما يبقى من سارتر شخصيته نفسها. هو الذي لم يكفّ لحظة عن التأمل والعمل، والتغلب والبحث عن الحرية، ومواكبة الجديد كما مواكبة الباحثين عن الجديد، مسخراً وقته وفكره، وخاصة مجلته الشهرية الشهيرة "الأزمنة الحديثة" للنضال في سبيل الحرية والقدم، وأحياناً لتبرير تقلّباته. ولكن غالبا لطرح القضايا الشائكة والتي تبرز من بينها قضية كثيرا ما شغلت بال سارتر وهي علاقتنا بالآخرين، تلك العلاقة التي قد تكون "خلف أبواب مغلقة" خير تعبير عنها، حتى وإن كان كاتبنا سينتقد دائما الطريقة التي تم بها تلقي المسرحية، على الخشبة أو في كتاب: ففي حين كتبها هو على شكل مزحة تلقاها الناس بصورة مغرقة في الجدية ما أدهشه وحيّره حيرة غارسان في الصفحات الأولى منها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.