أخبار اليوم الأسبوعي| حقائب التحدى ومفاجأة الأعلى للجامعات والجمهورية الجديدة    موعد سداد فاتورة التليفون الأرضي لشهر يونيو 2024 في مصر    وصول أول رحلة للحجاج العراقيين العائدين إلى مطار النجف الأشرف    عاجل - اعرف موعد اجتماع البنك المركزي المصري 2024    أصدقاء ليفاندوفسكي أول المودعين ليورو 2024    ملف يلا كورة.. موقف الزمالك من القمة.. انتصار القطبين.. وتطورات السوبر الأفريقي    وفاة والدة بيليه عن عمر يناهز 101 عامًا    إصابة 12 شخصًا عقرهم كلب مسعور في نجع حمادي    تهشم سيارة يستقلها عروسين اصطدمت بعمود إنارة في الغربية    أسعار النفط تحقق المكاسب الأسبوعية الثانية على التوالي    الكويت تطالب مواطنيها بمغادرة لبنان في أقرب وقت ممكن    التعاون الإسلامي: اعتراف أرمينيا بدولة فلسطين ينسجم مع القانون الدولي    سفينة تجارية تتعرض لهجوم قبالة سواحل عدن في البحر الأحمر    أمين سر حركة فتح: مصر دفعت الفاتورة الأعلى لدعم فلسطين منذ نكبة 48 وحتى اليوم (فيديو)    يورو 2024 .. كانتي أفضل لاعب فى مواجهة هولندا ضد فرنسا    الصليب الأحمر: مقذوفات من العيار الثقيل سقطت بالقرب من مقرنا غربي رفح الفلسطينية    "التجارة البحرية البريطانية": تلقينا تقريرا عن حادث على بعد 126 ميلا بحريا شرق عدن    رئيس مجلس الدولة الجديد 2024.. من هو؟ مصادر قضائية تكشف المرشحين ال3 (خاص)    تنسيق الثانوية العامة 2024 محافظة القليوبية المرحلة الثانية المتوقع    رسميا.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم السبت 22 يونيو بعد الارتفاع الأخير بالبنوك    رد صارم من رابطة الأندية على مطالب الزمالك وعدم خوض القمة أمام الأهلي    «موقفنا واضح».. الزمالك: لن نخوض أي مباريات جديدة حتى استكمال الدور الأول    عادل عقل يكشف صحة القرارات التحكيمية المثيرة للجدل بلقاء الأهلي والداخلية    عضو لجنة العمرة يكشف مفاجأة بشأن وفيات الحجاج المصريين هذا العام (فيديو)    رئيس شعبة المحمول بغرفة الجيزة: تحرير سعر الصرف وراء انخفاض الأسعار    استئناف امتحانات الثانوية العامة 2024 بالمواد المضافة للمجموع    طقس المملكة اليوم السبت 22-6-2024 وموجة حارة جديدة تضرب أجزاء من البلاد (تفاصيل)    استعلم الآن مجانا.. نتيجة الدبلومات الفنية 2024 برقم الجلوس والاسم (رابط مباشر)    السيطرة على حريق شب فى شقة سكنية بالمنصورة دون خسائر بشرية    مصرع شاب فى حادث انقلاب دراجة نارية بالدقهلية    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بالفيوم    أشرف زكي: قرارات النقابات المهنية بمقاطعة إسرائيل لا تقبل الجدل (فيديو)    نقل لقاء سويدان إلى المستشفى بعد تعرضها لوعكة صحية مفاجئة (تفاصيل)    شكر ووعد.. رسالة جديدة من حسين الشحات    أميرة بهى الدين ل"الشاهد": الإعلان الدستورى الإخوانى تجاوز معنى القانون    شيرين شحاتة: سعيدة بتأهل روايتي للقائمة الطويلة لجائزة طه حسين    دعاء الثانوية العامة مكتوب.. أفضل 10 أدعية مستجابة عند الدخول إلى لجنة الامتحان    أخبار × 24 ساعة.. التعليم لطلاب الثانوية: لا تنساقوا خلف صفحات الغش    إمام عاشور يحقق حلم فتاة وأهلها من ذوى الهمم ويهديها التيشيرت.. فيديو    بيان الكنيسة الأرثوذكسية ضد كاهن قبطي ينهي الجدل حول أنشطته.. بماذا رد وكيل مطرانية المنيا؟    إعلام إسرائيلى: الجيش يقترب من اتخاذ قرار بشأن عملية رفح الفلسطينية    أستاذ علوم سياسية: مصر والأردن لهما حساسة تجاه القضية الفلسطينية    سباق إيران الانتخابى.. قضايا المرأة والمجتمع والتراشق اللفظى بين المرشحين أبرز ملامح المناظرة الثالثة.. المرشح الإصلاحى يرفض العنف ضد الإيرانيات لإجبارهن على الحجاب.. وانتقادات لسياسة الحجب على الإنترنت    عمرو أديب يهاجم الزمالك بسبب رفض خوض مباراة الأهلي: «منتهى العبث»    لطلاب الشهادة الإعدادية، مدارس بديلة للثانوية العامة في الإسكندرية    مصطفى كامل يتألق في أولى حفلاته بالعلمين    بكري يطالب رئيس الوزراء بتوضيح أسباب أزمة وفاة مئات الحجاج المصريين    على هامش زيارته لموسكو.. رئيس تنشيط السياحة يعقد عددًا من جلسات العمل    «وصفات صيفية».. جيلي الفواكه بطبقة الحليب المكثف المحلي    مركز البابا أثناسيوس الرسولي بالمنيا ينظم اللقاء السنوي الثالث    أفتتاح مسجد العتيق بالقرية الثانية بيوسف الصديق بالفيوم بعد الإحلال والتجديد    المفتي يستعرض عددًا من أدلة عدم نجاسة الكلب.. شاهد التفاصيل    مدير الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب: لقاء الجمعة تربوي وتثقيفي    الداخلية تحرر 169 مخالفة للمحلات غير الملتزمة بقرار الغلق خلال 24 ساعة    وزير الأوقاف: تعزيز قوة الأوطان من صميم مقاصد الأديان    وكيل صحة الشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى الصدر بالزقازيق    استشاري نفسي يقدم روشتة للتخلص من اكتئاب الإجازة    أمين الفتوى محذرا من ظلم المرأة في المواريث: إثم كبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"خلف أبواب مغلقة" لسارتر: من يحاكم من؟
نشر في صوت البلد يوم 21 - 03 - 2020

ما هي الفكرة الأولى التي قد تخطر في بال المرء وهو يتجوّل، ولو خرقًا للقانون، في شارع أي واحدة من مدن العالم الكثيرة التي تفرض الآن نوعًا من حظر تجوال على المواطنين بسبب الخوف من فيروس كورونا؟ ربما واحدة من عبارات جان – بول سارتر الكثيرة التي يتبين بين الحين والآخر كم كانت على صواب. وتحديدًا العبارة التي ترتكز إليها مسرحيته الشهيرة "خلف أبواب مغلقة": "الجحيم هو الآخرون".
ونعرف أن كثرًا قد اعتادوا استخدام هذا القول، حتى دون أن يعرفوا أحيانا لمن هو وغالبًا دون أن يعرفوا من أين هو مستقى حتى ولو تذكروا أنه لسارتر. والحقيقة أن سارتر لا يستخدم هذه العبارة في تلك المسرحية - التي قُدّمت للمرة الأولى على خشبة "فيو كولومبييه" الباريسية، في زمن كانت فيه فرنسا واقعة تحت الاحتلال النازي في العام 1944-، على سبيل الكناية أو الموعظة. بل بالمعنى الحرفي للكلمة، كما سنرى بعد سطور، ولكن بعد أن نتوقف عند سياق استعادة التعبير اليوم.
فالحال أن من يسير في الشوارع في أيامنا هذه، سيلحظ أول ما يلاحظ نظرة المارة، القلائل بالطبع، إلى بعضهم البعض: نظرة خوف وتوجّس. كل واحد يرعبه الإحساس بأن أي واحد من الآخرين قد يكون حاملًا الفيروس، وأنه لو فتح فمه حين يدنو منه لنقل إليه العدوى القاتلة فورًا. هلع جماعي وبارانويا باتت متأصلة. الآخر هو العقاب الآن. فإنسان الأزمنة الحديثة، بعدما "جرّب" في الفنون والآداب ومن ثمّ في حياته اليومية كلّ صنوف الأعداء والغزاة والحيوانات والمخلوقات المافوق حيوانية والكوارث الطبيعية وصولًا إلى إيقاظ الموتى من سباتهم.. إلخ، ها هو يعود اليوم إلى شبيهه، قرينه، وربما أقربائه وأهله ليرى فيهم صورة الجحيم. وكان هذا بالتحديد ما عبّر عنه سارتر في تلك المسرحية التي تكاد تترحم لحسابها عبارة توماس هوبز الشهيرة "الإنسان ذئب بالنسبة إلى أخيه الإنسان".
الآخرون في حياتنا وبعد موتنا
في المسرحية السارترية لدينا مكان مغلق سرعان ما سيتبيّن لنا أنه الجحيم بالتحديد، وبتحديد أكثر مقر المحاكمة التي تُجرى للمساقين إلى تلك الحياة الآخرة لمحابتهم على ما اقترفوه. ومنذ اللحظة التي يدخل فيها غارسان، أول المحاكَمين الثلاثة، ستكون ملاحظته الأولى أن ما من أدوات تعذيب هناك وما من جلادين. حيّز خال حتى من أي شخص آخر. بعد مبارحة الفتى الذي أوصله إلى المكان يبقى غارسان وحيدًا متأملًا في حيرة. لا يقلقه هنا كونه قد مات منذ حين وحلّت آخرته بقدر ما يقلقه اختلاف صورة هذا "الجحيم" عن كل ما كان قد تصوّره في الماضي. بعد ذلك وهو في غمرة تساؤلاته تدخل المحاكَمة الثانية إيريس مرتبكة تتساءل عن صديقتها فلورانس فيجيبها غارسان بأنه لا يعرفها ولم يرها... ثم يدخل الاثنان في حديث مرتبك ومتشعّب حول محاكمتهما المفترضة. وفيما هما عل تلك الحال تدخل المكان امرأة أخرى هي إستيل الميتة حديثًا بدورها والتي هي هنا، كالآخرَيْن لتحاكم. وهكذا يكتمل عقد الحضور ليحاول كل منهم مجابهة ما حدث له: كيف مات ولماذا؟ ولكن بشكل أخص: ما هو الذنب الذي يستحق الجحيم بسببه؟ ثم ما هو العقاب الذي سيكون من نصيبه؟ وما هي السلطة التي ستحاكمه. وهكذا، بالتدريج ينكشف كل شيء: كل واحد من الثلاثة أذنب دون أن يعرف أن ما يقترفه ذنب. وكل من الثلاثة سيدفع الآن ثمن ذلك الذنب... عقابًا أبديًّا، يتلو محاكمة عادلة. ولكن من الذي يحاكم وما هو العقاب؟
ببساطة: كل واحد من الثلاثة هو القاضي الذي يحاكم الآخريْن والذي سيصدر عليهما الحكم الأبدي المبرم؟ فما هو هذا الحكم؟ ببساطة أيضًا هو حضور كل واحد من هؤلاء الثلاثة في "حياة" الآخريْن إلى أبد الآبدين. ذلكم هو الجحيم الموعود لكل مذنب. "الآخرون هم الجحيم" تزعق المسرحية في وجهنا. وهو، على ما يبدو، الزعيق نفسه الذي قد يكون على كل منا أن يتحمله اليوم وقد بات "كل إنسان ذئبًا بالنسبة إلى أخيه الإنسان". ويقينًا أن سارتر حين عنى هذا بمسرحيته المبكرة تلك، لم يكن لا مازحًا ولا معبّرًا عن نفور ما من البشر، وإنما كان راصدًا لواقع كان في زمنه يدعو كل واحد للتحسب تجاه الآخرين الذين قد يكون الخونة والوشاة المناصرون للنازي المحتل بينهم، واليوم ها هو الاحتمال ينقلب ليصبح حملًا للفيروس... في نفس السيرورة التي يتجابه فيها كل واحد مع الآخرين!
فلسفة ومسرح وسوء تفاهم
ونعرف أن جان بول سارتر الذي ولد في 1905 ظل طوال هذا القرن حيًّا في الحياة الثقافية الفرنسية، وظل الاسم الذي يقفز إلى الذهن أول ما يجري الحديث عن ثقافة فرنسية: كان روائيًّا وكاتبًا مسرحيًّا وناقدًا ومنظّرًا في الأدب والنقد، لكنه كان قبل ذلك فيلسوفًا، عرّف فرنسا على الفلسفة الألمانية، وحاول المزاوجة بين الماركسية والوجودية، وربط نفسه أولاً وأخيرًا بمفاهيم مثل "التقدم" و"الحداثة" و"الحرية" و"الالتزام"، وآمن بالعديد من القضايا العادلة انطلاقًا من إيمانه بالحرية والتقدم، ووقف ضد حرب الجزائر مطالبًا بمنح الجزائر استقلالها، كما وقف إلى جانب حركات الشبيبة ونزل إلى الشارع متظاهرًا حينًا، وبائعًا للصحف التقدمية حينًا آخر. ونزوله هذا جره أكثر من مرة إلى أقسام الشرطة، وهو الذي لم يجرؤ حتى النازيون على اعتقاله حين كانت مسرحياته المعادية لهم (مثل "الذباب") تقدم على رغم أنفهم على المسارح الفرنسية خلال الاحتلال، فأسروه لفترة كجندي لكنهم لم يمسوه ككاتب.
هذه الحيوية السارترية كلها تجلت في كتب فلسفية مثل "الوجود والعدم"و"تعالي الأنا"و"الوجودية مذهب انساني"و"نقد العقل الجدلي"، وهي كتبه الفلسفية الأساسية. بيد أن سارتر لم يكتف بتوضيح فكره الفلسفي في كتبه "التقنية"الفلسفية الخالصة، بل عبّر عنه في نصوصه الإبداعية الكثيرة التي ليس من الظلم لها ولسارتر أن نقول أن الإبداع فيها إنما استخدم من قبل سارتر للتعبير عن قضايا فكرية وإنسانية. وهو ما أنكر هذا، أبدًا، على أي حال، بل كان التوكيد عليه محور صراعه الفكري مع البير كامو. كما كانت من أبرز روايات سارتر "الغثيان"وهي واحدة من أولى رواياته كتبها تحت تأثير فكر هوسرل الفينومينولوجي/ الوجودي. أما من بين مسرحياته، فيمكن التوقف طويلاً عند نصوص نشرت ومثلت مرات عدة على خشبات المسارح ويمكن لدراستها دراسة متأنية اليوم أن تكشف كم أن سارتر استخدم المسرح (مكان الحوار المثالي، ومكان المجابهة المباشرة واليومية مع الجمهور) للتعبير عن أفكاره ومصادر قلقه. ويتجلى هذا خاصة كما رأينا في "خلف أبواب مغلقة" وفي "موتى بلا قبور"(1946) التي تعالج مسألة السلطة ولجوئها إلى التعذيب، كما في "المومس الفاضلة"التي تعالج قضية العنصرية، وفي "الأيدي القذرة"التي تتحدث عن إمكانية غوص المرء في السياسة من دون أن يلوث يديه، كما في "الشيطان والإله الطيب"التي يعبر فيها سارتر عن مشكلة الحرية من وجهة فلسفية بحتة، وفي "الذباب"وغيرها. ومن الكتب المهمة الأخرى التي يمكن ذكرها اليوم في مجال الحديث عن سارتر كتابه المبكر عن جان جينيه، ورباعية "دروب الحرية"وسلسلة "مواقف"و"الحرب الغريبة"وغيرها.
بيد أن بين أهم ما يبقى من سارتر شخصيته نفسها. هو الذي لم يكفّ لحظة عن التأمل والعمل، والتغلب والبحث عن الحرية، ومواكبة الجديد كما مواكبة الباحثين عن الجديد، مسخراً وقته وفكره، وخاصة مجلته الشهرية الشهيرة "الأزمنة الحديثة" للنضال في سبيل الحرية والقدم، وأحياناً لتبرير تقلّباته. ولكن غالبا لطرح القضايا الشائكة والتي تبرز من بينها قضية كثيرا ما شغلت بال سارتر وهي علاقتنا بالآخرين، تلك العلاقة التي قد تكون "خلف أبواب مغلقة" خير تعبير عنها، حتى وإن كان كاتبنا سينتقد دائما الطريقة التي تم بها تلقي المسرحية، على الخشبة أو في كتاب: ففي حين كتبها هو على شكل مزحة تلقاها الناس بصورة مغرقة في الجدية ما أدهشه وحيّره حيرة غارسان في الصفحات الأولى منها!
ما هي الفكرة الأولى التي قد تخطر في بال المرء وهو يتجوّل، ولو خرقًا للقانون، في شارع أي واحدة من مدن العالم الكثيرة التي تفرض الآن نوعًا من حظر تجوال على المواطنين بسبب الخوف من فيروس كورونا؟ ربما واحدة من عبارات جان – بول سارتر الكثيرة التي يتبين بين الحين والآخر كم كانت على صواب. وتحديدًا العبارة التي ترتكز إليها مسرحيته الشهيرة "خلف أبواب مغلقة": "الجحيم هو الآخرون".
ونعرف أن كثرًا قد اعتادوا استخدام هذا القول، حتى دون أن يعرفوا أحيانا لمن هو وغالبًا دون أن يعرفوا من أين هو مستقى حتى ولو تذكروا أنه لسارتر. والحقيقة أن سارتر لا يستخدم هذه العبارة في تلك المسرحية - التي قُدّمت للمرة الأولى على خشبة "فيو كولومبييه" الباريسية، في زمن كانت فيه فرنسا واقعة تحت الاحتلال النازي في العام 1944-، على سبيل الكناية أو الموعظة. بل بالمعنى الحرفي للكلمة، كما سنرى بعد سطور، ولكن بعد أن نتوقف عند سياق استعادة التعبير اليوم.
فالحال أن من يسير في الشوارع في أيامنا هذه، سيلحظ أول ما يلاحظ نظرة المارة، القلائل بالطبع، إلى بعضهم البعض: نظرة خوف وتوجّس. كل واحد يرعبه الإحساس بأن أي واحد من الآخرين قد يكون حاملًا الفيروس، وأنه لو فتح فمه حين يدنو منه لنقل إليه العدوى القاتلة فورًا. هلع جماعي وبارانويا باتت متأصلة. الآخر هو العقاب الآن. فإنسان الأزمنة الحديثة، بعدما "جرّب" في الفنون والآداب ومن ثمّ في حياته اليومية كلّ صنوف الأعداء والغزاة والحيوانات والمخلوقات المافوق حيوانية والكوارث الطبيعية وصولًا إلى إيقاظ الموتى من سباتهم.. إلخ، ها هو يعود اليوم إلى شبيهه، قرينه، وربما أقربائه وأهله ليرى فيهم صورة الجحيم. وكان هذا بالتحديد ما عبّر عنه سارتر في تلك المسرحية التي تكاد تترحم لحسابها عبارة توماس هوبز الشهيرة "الإنسان ذئب بالنسبة إلى أخيه الإنسان".
الآخرون في حياتنا وبعد موتنا
في المسرحية السارترية لدينا مكان مغلق سرعان ما سيتبيّن لنا أنه الجحيم بالتحديد، وبتحديد أكثر مقر المحاكمة التي تُجرى للمساقين إلى تلك الحياة الآخرة لمحابتهم على ما اقترفوه. ومنذ اللحظة التي يدخل فيها غارسان، أول المحاكَمين الثلاثة، ستكون ملاحظته الأولى أن ما من أدوات تعذيب هناك وما من جلادين. حيّز خال حتى من أي شخص آخر. بعد مبارحة الفتى الذي أوصله إلى المكان يبقى غارسان وحيدًا متأملًا في حيرة. لا يقلقه هنا كونه قد مات منذ حين وحلّت آخرته بقدر ما يقلقه اختلاف صورة هذا "الجحيم" عن كل ما كان قد تصوّره في الماضي. بعد ذلك وهو في غمرة تساؤلاته تدخل المحاكَمة الثانية إيريس مرتبكة تتساءل عن صديقتها فلورانس فيجيبها غارسان بأنه لا يعرفها ولم يرها... ثم يدخل الاثنان في حديث مرتبك ومتشعّب حول محاكمتهما المفترضة. وفيما هما عل تلك الحال تدخل المكان امرأة أخرى هي إستيل الميتة حديثًا بدورها والتي هي هنا، كالآخرَيْن لتحاكم. وهكذا يكتمل عقد الحضور ليحاول كل منهم مجابهة ما حدث له: كيف مات ولماذا؟ ولكن بشكل أخص: ما هو الذنب الذي يستحق الجحيم بسببه؟ ثم ما هو العقاب الذي سيكون من نصيبه؟ وما هي السلطة التي ستحاكمه. وهكذا، بالتدريج ينكشف كل شيء: كل واحد من الثلاثة أذنب دون أن يعرف أن ما يقترفه ذنب. وكل من الثلاثة سيدفع الآن ثمن ذلك الذنب... عقابًا أبديًّا، يتلو محاكمة عادلة. ولكن من الذي يحاكم وما هو العقاب؟
ببساطة: كل واحد من الثلاثة هو القاضي الذي يحاكم الآخريْن والذي سيصدر عليهما الحكم الأبدي المبرم؟ فما هو هذا الحكم؟ ببساطة أيضًا هو حضور كل واحد من هؤلاء الثلاثة في "حياة" الآخريْن إلى أبد الآبدين. ذلكم هو الجحيم الموعود لكل مذنب. "الآخرون هم الجحيم" تزعق المسرحية في وجهنا. وهو، على ما يبدو، الزعيق نفسه الذي قد يكون على كل منا أن يتحمله اليوم وقد بات "كل إنسان ذئبًا بالنسبة إلى أخيه الإنسان". ويقينًا أن سارتر حين عنى هذا بمسرحيته المبكرة تلك، لم يكن لا مازحًا ولا معبّرًا عن نفور ما من البشر، وإنما كان راصدًا لواقع كان في زمنه يدعو كل واحد للتحسب تجاه الآخرين الذين قد يكون الخونة والوشاة المناصرون للنازي المحتل بينهم، واليوم ها هو الاحتمال ينقلب ليصبح حملًا للفيروس... في نفس السيرورة التي يتجابه فيها كل واحد مع الآخرين!
فلسفة ومسرح وسوء تفاهم
ونعرف أن جان بول سارتر الذي ولد في 1905 ظل طوال هذا القرن حيًّا في الحياة الثقافية الفرنسية، وظل الاسم الذي يقفز إلى الذهن أول ما يجري الحديث عن ثقافة فرنسية: كان روائيًّا وكاتبًا مسرحيًّا وناقدًا ومنظّرًا في الأدب والنقد، لكنه كان قبل ذلك فيلسوفًا، عرّف فرنسا على الفلسفة الألمانية، وحاول المزاوجة بين الماركسية والوجودية، وربط نفسه أولاً وأخيرًا بمفاهيم مثل "التقدم" و"الحداثة" و"الحرية" و"الالتزام"، وآمن بالعديد من القضايا العادلة انطلاقًا من إيمانه بالحرية والتقدم، ووقف ضد حرب الجزائر مطالبًا بمنح الجزائر استقلالها، كما وقف إلى جانب حركات الشبيبة ونزل إلى الشارع متظاهرًا حينًا، وبائعًا للصحف التقدمية حينًا آخر. ونزوله هذا جره أكثر من مرة إلى أقسام الشرطة، وهو الذي لم يجرؤ حتى النازيون على اعتقاله حين كانت مسرحياته المعادية لهم (مثل "الذباب") تقدم على رغم أنفهم على المسارح الفرنسية خلال الاحتلال، فأسروه لفترة كجندي لكنهم لم يمسوه ككاتب.
هذه الحيوية السارترية كلها تجلت في كتب فلسفية مثل "الوجود والعدم"و"تعالي الأنا"و"الوجودية مذهب انساني"و"نقد العقل الجدلي"، وهي كتبه الفلسفية الأساسية. بيد أن سارتر لم يكتف بتوضيح فكره الفلسفي في كتبه "التقنية"الفلسفية الخالصة، بل عبّر عنه في نصوصه الإبداعية الكثيرة التي ليس من الظلم لها ولسارتر أن نقول أن الإبداع فيها إنما استخدم من قبل سارتر للتعبير عن قضايا فكرية وإنسانية. وهو ما أنكر هذا، أبدًا، على أي حال، بل كان التوكيد عليه محور صراعه الفكري مع البير كامو. كما كانت من أبرز روايات سارتر "الغثيان"وهي واحدة من أولى رواياته كتبها تحت تأثير فكر هوسرل الفينومينولوجي/ الوجودي. أما من بين مسرحياته، فيمكن التوقف طويلاً عند نصوص نشرت ومثلت مرات عدة على خشبات المسارح ويمكن لدراستها دراسة متأنية اليوم أن تكشف كم أن سارتر استخدم المسرح (مكان الحوار المثالي، ومكان المجابهة المباشرة واليومية مع الجمهور) للتعبير عن أفكاره ومصادر قلقه. ويتجلى هذا خاصة كما رأينا في "خلف أبواب مغلقة" وفي "موتى بلا قبور"(1946) التي تعالج مسألة السلطة ولجوئها إلى التعذيب، كما في "المومس الفاضلة"التي تعالج قضية العنصرية، وفي "الأيدي القذرة"التي تتحدث عن إمكانية غوص المرء في السياسة من دون أن يلوث يديه، كما في "الشيطان والإله الطيب"التي يعبر فيها سارتر عن مشكلة الحرية من وجهة فلسفية بحتة، وفي "الذباب"وغيرها. ومن الكتب المهمة الأخرى التي يمكن ذكرها اليوم في مجال الحديث عن سارتر كتابه المبكر عن جان جينيه، ورباعية "دروب الحرية"وسلسلة "مواقف"و"الحرب الغريبة"وغيرها.
بيد أن بين أهم ما يبقى من سارتر شخصيته نفسها. هو الذي لم يكفّ لحظة عن التأمل والعمل، والتغلب والبحث عن الحرية، ومواكبة الجديد كما مواكبة الباحثين عن الجديد، مسخراً وقته وفكره، وخاصة مجلته الشهرية الشهيرة "الأزمنة الحديثة" للنضال في سبيل الحرية والقدم، وأحياناً لتبرير تقلّباته. ولكن غالبا لطرح القضايا الشائكة والتي تبرز من بينها قضية كثيرا ما شغلت بال سارتر وهي علاقتنا بالآخرين، تلك العلاقة التي قد تكون "خلف أبواب مغلقة" خير تعبير عنها، حتى وإن كان كاتبنا سينتقد دائما الطريقة التي تم بها تلقي المسرحية، على الخشبة أو في كتاب: ففي حين كتبها هو على شكل مزحة تلقاها الناس بصورة مغرقة في الجدية ما أدهشه وحيّره حيرة غارسان في الصفحات الأولى منها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.