بلا ندوات حية ومباشرة، بلا أنشطة ثقافية، بلا حفلات توقيع للكتب، وبسقف جماهيري محدود، تحاول معارض الكتاب العربية أن تكسر حاجر العزلة والتأجيل القسري الذي فرضه عليها تفشي فيروس كورونا، فأطل بعضها مؤخراً، وبحذر شديد، وفي نسخ مختصرة، في الشارقة، وأبوظبي، وبغداد، ثم القاهرة التي ينطلق معرضها بعد أيام. كيف يرى الناشرون والكتاب هذه الإطلالة، وهل تشكل عتبة لعودة الروح إلى هذه المعارض، لتواصل دورها الفاعل في الثقافة العربية… هنا آراء كوكبة منهم. إجراءات صارمة في الثلاثين من يونيو (حزيران) الحالي تنطلق الدورة الثانية والخمسون لمعرض القاهرة الدولي للكتاب تحت شعار «في القراءة حياة» وتستمر حتى الخامس عشر من يوليو (تموز) بمشاركة أكثر من 700 ناشر عربي وأجنبي، فما هي التحديات والآمال التي تواكب هذا الحدث الكبير الذي كان يعقد سنوياً قبل «كورونا» في شهر يناير (كانون الثاني)؟ يقول د. هيثم الحاج علي رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، الجهة المنظمة للمعرض، إن سلامة الجمهور تأتي في المقام الأول، لذا قمنا بعدد من الإجراءات الصارمة في هذه الدورة، أبرزها تحديد الحد الأقصى للزائرين ب100 ألف زائر يومياً على خلاف ما كان يحدث في الظروف العادية، التي كان يصل فيها عدد الزائرين إلى نحو نصف مليون زائر في اليوم الواحد. كما قررنا كذلك إلغاء الفعاليات المصاحبة للمعرض مثل الندوات والاحتفاليات واستبدالها بأخرى إلكترونية حتى لا يفقد المعرض دوره الفكري والتنويري، باعتباره الحدث الثقافي الأضخم في مصر والمنطقة. ويرى إيهاب شيغدل، عضو اللجنة المنظمة لمعرض بغداد للكتاب، أن إقامة أي فعالية ثقافية في هذا التوقيت هي علامة على إرادة الحياة رغم ما تمر به المنطقة من بعض أعمال عنف وصراعات، والأمر تعقد مع جائحة «كورونا»، وتقريباً توقف العالم كله، مما يجعلنا أمام تحدٍ مضاعف تبدأ رحلة التغلب عليه بالإجراءات الاحترازية. ويشير شيغدل إلى ضعف الابتكار في التنظيم والرقابة المتعسفة على الكتب باعتبارهما أبرز ما يعيب معارض الكتاب العربية في مجملها، موضحاً أنه يأمل في أن تنتج معارض الكتاب خطاباً إنسانياً يتحلى بالتسامح والقدرة على استيعاب وجهات النظر. ويلفت الناشر عماد الدين الأكحل، من دار نشر «إيبدي»، إلى أن معظم مبيعات كتب الناشرين تأتي من خلال مشاركتهم بالمعارض. وبالطبع لا بد من وجود إجراءات احترازية بتلك المعارض للحفاظ على صحة الزوار، وهذه الإجراءات تنعكس على أعداد المترددين بالسلب، لذا فالصيغة الأمثل لنجاح هذه المعارض هو إقامتها في توقيتاتها المعتادة، وفي الوقت نفسه دعم دور النشر المشاركة، كما حدث في معرضي الشارقة وأبوظبي، بإعفاء الناشرين من مصاريف إيجار الأجنحة وتحمل إقامتهم الكاملة بالفنادق، لأنه بغياب الدعم وقلة الحضور الجماهيري يمكن لدور النشر أن تخرج من كل معرض خاسرة، فتتعمق أزمة صناعة النشر. يضيف الأكحل: «المعارض العربية الدولية الكبرى تنظم فعالياتها بشكل راق، وليست بها عيوب كبيرة ظاهرة، وإنما العيوب تشوب المعارض المحلية الصغيرة التي قد يشارك فيها بعض مزوري الكتب وتعرض بها نسخ غير أصلية، فضلاً عن مشكلة ضعف الدعاية وبالتالي ضعف الحضور بشكل كبير». أعراس ثقافية من جهتها ترى الناشرة سوسن بشير، من دار «آفاق» للنشر والتوزيع، أن عودة المعارض العربية للواجهة مرة أخرى كان قراراً حكيماً بعد عام ونصف العام من الخسائر تكبدتها دور النشر العربية، خصوصاً أن معرض الكتاب العربي هو معرض مخصص للقاء الجمهور مباشرة، حيث يتمثل نشاطه الأساسي في بيع الكتب للزوار، وليس معرضاً مهنياً مخصصاً لعقد الاتفاقات التجارية بين الناشرين أنفسهم، كما يحدث في معارض الكتاب الأوروبية على سبيل المثال. تضيف بشير: «معارض الكتاب في الدول العربية هي أعراس ثقافية تأخذ أحياناً شكل الكرنفال احتفاء بصدور كتب جديدة تصل للقارئ زائر المعرض مباشرة بخصم جيد، وهي نشاط متكامل لجمهور عريض من القراء. وبهذا فإنها تشكل محفزاً مهماً على القراءة، وتحض عليها أكثر، وهذا ما نحتاجه في الدول العربية بشكل عام، أي زيادة نسبة الاطلاع والقراءة، ومن ثم التراكم المعرفي عند الجماهير. وما ينقصنا هو زيادة عمليات الدعاية والتسويق لمعارض الكتاب المختلفة، وهذا ما بدأ في الازدياد بالفعل عبر وسائل جديدة من خلال التسويق الإلكتروني عبر مواقع التواصل الاجتماعي عبر متخصصين محترفين في هذا المجال». وبرأي الناشر حسين عثمان، من دار «ريشة»، فإن إقبال جمهور القراء على حضور معارض الكتاب يظل المعيار الأهم لنجاحها، ورغم تطور وسائل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في السنوات الأخيرة، وتعدد وسائل وتطبيقات القراءة الرقمية، إلا أن الكتاب الورقي لا يزال محتفظاً بسحره وسره الذي يأسر القطاع الأكبر من القراء من مختلف الأعمار، فتراهم حتى الآن يترقبون بشدة أجواء المعارض ويخططون لزيارتها والتجول بين أجنحة دور النشر، ومرور الأعين على أرفف الكتب واستعراض الأغلفة والعناوين، قبل سحب النسخ والاطلاع على مقدمة الكتاب وفهرس الموضوعات وسيرة المؤلف تمهيداً لشراء الكتاب أو استبعاد الفكرة، بخلاف فرص لقاء الكتاب المفضلين لهم والحوار معهم والحصول على توقيعاتهم والتقاط الصور التذكارية. ويعتقد عثمان أن أبرز عيوب معارض الكتب العربية تتلخص في تركيز دور النشر من مختلف الدول على عقد الصفقات التبادلية دون الاهتمام بمنح مميزات وفرص وعوامل جذب القراء، فضلاً عن تعقيدات إجراءات الشحن والتفريغ التي تأخذ وقتاً طويلاً مع ارتفاع تكلفة رسوم هذه الإجراءات، وعدم اهتمام أغلب الحكومات العربية بتقديم تسهيلات داعمة كافية لضمان نجاح معارض الكتب. رسالة طمأنة وتعتبر الكاتبة المترجمة د. عبير عبد الحافظ، أستاذ اللغة الإسبانية وأدب أميركا اللاتينية بجامعة القاهرة، أن إقامة معارض الكتاب في مختلف الدول العربية في الوقت الحالي تأتى بمثابة «رسالة طمأنة» بشأن قدرة العرب على السيطرة على جائحة «كورونا» والعودة التدريجية للحياة الطبيعية. تضيف عبد الحافظ: «من الضروري أن تعمل إدارات هذه المعارض والجهات المنظمة على توفير المناخ والبيئة الصحية المناسبة في أجنحة العرض، وكذلك تيسير وسائل المواصلات للوصول إلى مواقعها، فضلاً عن ضمان التطبيق الصارم لشروط السلامة والتباعد الاجتماعي». وتتمنى أستاذة أدب أميركا اللاتينية أن تهتم معارض الكتب أكثر بتسليط الضوء على التراث العربي القديم والأدب مع منح مساحات أكبر لأدب الطفل والمرأة والشباب وأحدث التيارات الفكرية والعلمية والفنية العالمية لخلق توازن معرفي، مع تنظيم الندوات المصاحبة للمعرض باحترافية ودقة، وكذلك تكريم الأدباء والأديبات والمفكرين والمترجمين الذي لقوا حتفهم جراء هذا الوباء وتخليد ذكراهم. من جانبه، يرى الناقد إيهاب الملاح أن «النخبوية» و«الشللية» أبرز عيبين يهددان بتحول الفعاليات الثقافية التي تصاحب معارض الكتاب إلى شكل فارغ بلا مضمون، حيث نجد أن معظم الندوات واللقاءات تخضع للعلاقات الشخصية. ويطالب الملاح بمزيد من عوامل الجذب الجماهيري لزوار المعارض وتوسيع دائرة الفعاليات الثقافية لتشمل أكبر عدد ممكن من الفاعلين والمساهمين في تلك الأحداث الاستثنائية. ويرى الشاعر والقاص الشاب محمد الحديني، أن افتقاد معارض الكتاب للفعاليات والأنشطة الثقافية والفنية بشكل حي ومباشر، سيجعلها معارض منزوعة الدسم، لافتاً إلى ما تشيعه تلك الأنشطة من حيوية الحوار وطرح الرؤى والأفكار، كما أنها تخلق نوعاً من التوازن مع البعد التجاري للمعرض. ويرجو الحديني أن تكون أسعار الكتب مخفضة كي تلائم كافة شرائح المرتادين. ويضيف: «أفتقد أيضاً إعطاء مساحة وفرص أكثر للمبدعين غير المشهورين للتعبير عن أنفسهم ونتاجهم الثقافي، وذلك عن طريق استضافتهم في لقاءات ثقافية جذابة». وينتقد الحديني عدم وجود فواصل زمنية كافية بين معرض ما في دولة وآخر في دولة أخرى، على نحو لا يتيح الفرصة لدور النشر، خصوصاً غير المحلية، للاستعداد الجيد والمناسب. أيضاً ارتفاع أسعار الكتب أدى إلى عزوف البعض عن الشراء، ومن ثم انتظار ظهور نسخ إلكترونية من هذه الكتب على شبكة الإنترنت.
رشا أحمد: الشرق الأوسط أونلاين شارك هذا الموضوع: * اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة) * انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة)