سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في بداية الأسبوع السبت 11 مايو 2024    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    مندوب مصر لدى الأمم المتحدة: ما ارتكبته إسرائيل من جرائم في غزة سيؤدي لخلق جيل عربي غاضب    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو حول دعوتها للمشاركة في إدارة مدنية بغزة    مأ أبرز مكاسب فلسطين حال الحصول على عضوية الأمم المتحدة الكاملة؟    على طريقة القذافي.. مندوب إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة (فيديو)    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    الخارجية الفرنسية: ندعو إسرائيل إلى الوقف الفوري للعملية العسكرية في رفح    البحرين تدين اعتداء متطرفين إسرائيليين على مقر وكالة الأونروا بالقدس    هانيا الحمامى تعود.. تعرف على نتائج منافسات سيدات بطولة العالم للإسكواش 2024    أوباما: ثأر بركان؟ يحق لهم تحفيز أنفسهم بأي طريقة    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    «كاف» يخطر الأهلي بقرار عاجل قبل مباراته مع الترجي التونسي (تفاصيل)    جاياردو بعد الخماسية: اللاعبون المتاحون أقل من المصابين في اتحاد جدة    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    ضبط المتهم بقتل صديقه وإلقائه وسط الزراعات بطنطا    أنهى حياته بسكين.. تحقيقات موسعة في العثور على جثة شخص داخل شقته بالطالبية    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    حار نهاراً.. ننشر درجات الحرارة المتوقعة اليوم السبت فى مصر    مصرع شخص واصابة 5 آخرين في حادث تصادم ب المنيا    غرق شاب في بحيرة وادي الريان ب الفيوم    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    «عشان ألفين جنيه في السنة نهد بلد بحالها».. عمرو أديب: «الموظفون لعنة مصر» (فيديو)    عمرو أديب عن مواعيد قطع الكهرباء: «أنا آسف.. أنا بقولكم الحقيقة» (فيديو)    حج 2024.. "السياحة" تُحذر من الكيانات الوهمية والتأشيرات المخالفة - تفاصيل    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    سيارة صدمته وهربت.. مصرع شخص على طريق "المشروع" بالمنوفية    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    حظك اليوم برج الجوزاء السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    تراجع أسعار النفط.. وبرنت يسجل 82.79 دولار للبرميل    محمد التاجى: اعانى من فتق وهعمل عملية جراحية غداً    الإبداع فى جامعة الأقصر.. الطلبة ينفذون تصميمات معبرة عن هوية مدينة إسنا.. وإنهاء تمثالى "الشيخ رفاعة الطهطاوى" و"الشيخ محمد عياد الطهطاوى" بكلية الألسن.. ومعرض عن تقاليد الإسلام فى روسيا.. صور    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    أخبار كفر الشيخ اليوم.. تقلبات جوية بطقس المحافظة    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    لتعزيز صحة القلب.. تعرف على فوائد تناول شاي الشعير    مادلين طبر تكشف تطورات حالتها الصحية    شهادة من البنك الأهلي المصري تمنحك 5000 جنيه شهريا    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    نقاد: «السرب» يوثق ملحمة وطنية مهمة بأعلى التقنيات الفنية.. وأكد قدرة مصر على الثأر لأبنائها    "سويلم": الترتيب لإنشاء متحف ل "الري" بمبنى الوزارة في العاصمة الإدارية    آداب حلوان توجه تعليمات مهمة لطلاب الفرقة الثالثة قبل بدء الامتحانات    حسام موافي يكشف أخطر أنواع ثقب القلب    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    فضائل شهر ذي القعدة ولماذا سُمي بهذا الاسم.. 4 معلومات مهمة يكشف عنها الأزهر للفتوى    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن العامة، الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوما المقدس والتنوير في فكر الصادق النيهوم
نشر في صوت البلد يوم 16 - 11 - 2019

من يريد فهم فكر الصادق النيهوم، الكاتب الليبي الموسوعي وشخصيته، عليه قبل أن يقرأ كتبه أو مقالاته المنشورة في جريدة الحقيقة الليبية ومجلة الناقد وغيرهما أن يحلل واقعة مهمة مرَّتْ بحياة النيهوم وساهمت في خلق نظرته العقلانيّة الساخرة في بعض الأحيان للمقدس وشبه المقدس في حياة الناس في كتاباته المختلفة. تعود الحادثة إلى العام 1937 العام الذي ولد فيه النيهوم، في مدينة بنغازي، لأب بحَّار يعيش مسافرا أكثر مما يعيش مستقرا، وأم مريضة توفيت لاحقا، وهو لم يزل ابن شهرين، مما جعل والده يعتمد في تغذية الرضيع على حليب نعجة.
هذه النعجة بعد أن كبر الصادق النيهوم، وبلغ مبلغ الشباب، كان يراه صديقه أحمد القلال، الأديب والناقد الليبي، كلما زاره في بيته، يجلس فوق جلدها الصوفي، ولم يتردد بإخبار القلال ساخرا، أن والده احتفظ له بهذا الجلد الصوفيّ، الذي يجلس عليه الآن، وهو يعود للنعجة، التي رضع حليبها، بعدما توفيت أمه وهو لا يزال رضيعا.
روى الحادثة صديقه القلال في مقال له ضمن كتاب بعنوان “طرق مغطاة بالثلوج عن الصادق النيهوم” جمعه وأعده سالم الكبتي صدرعن سيرة النيهوم عقب وفاته في العام 1994.
إشكالية مزج الفكر المقدس بالفكر التنويري في قالب فلسفي وأدبي نجد بذوره في الحادثة السابقة، المؤثرة في حياة النيهوم، فلا نستغرب قوله في كتابه “الإسلام في الآسر” 1991 (افتحوا نوافذكم على العالم، وواجهوا أنفسكم، ودعوا الأشياء تنال قيمتها الحقيقية دون إقحام لعوامل الغضب أو الرضا) وناقش الخطاب الديني، ودور الجامع وتفكيك نظام العدل الاجتماعي في الإسلام، وضرورة توظيف ما يسميه النيهوم ب(حزب الجامع) لإنقاذ الإسلام من عبودية التاريخ، ليواجه الإقطاع والأصولية، وذكر فيه أيضا أن “المجتمع الجاهل لا يملك أفكارا معروضة للنقاش، لأن كل فكرة في حوزته مقدسة أو شبه مقدسة أو ربع مقدسة”.
وكانت الردود كثيرة على هذا الكتاب المثير للجدل من قبل كتاب إسلاميين كثيرين اعتبروا أن الكاتب لا يطبق الشريعة الإسلامية، ولم يدرس فقهها، لذلك فلا يمكن الركون إلى أحكامه وتحليلاته للإسلام.
خاطب في أحد مقالاته من يريد شراء الكاتب العربي مازجا بين الجد والسخرية “أن الكاتب ليس جروا مسعورا تربطونه أمام بيوتكم لكي يعضُّ لكم المارة مقابل قرشين” وذكر فيه الشخصية العربية وطريقة قيادتها، فقال “قد لا نملك فرصة في خلق حياتنا لكننا نملك كل شيء في ما يخص قيادتها”، دعوات النيهوم إلى حرية العقل وتغليبه على ما تعوده الإنسان العربي من عادات وتقاليد جاءت كصرخات مدوّية في الأوساط الثقافية العربية في التسعينات. التوافقية بين فكرة التنوير ونبذ التابوات المجتمعية جاءت أيضا في ثيمة رواية الصادق النيهوم المهمة “من مكة إلى هنا” 1970 حكى فيها عن المقدس وشبه المقدس في حياة مسعود الطبال الزنجي، الذي يقرر مغادرة مدينته بنغازي لأن المستعمرين الإيطاليين يفرضون على ما يصطاده من أسماك ضريبة مرتفعة.
فيحل في مدينة ليبية بعيدة اسمها “سوسة” وفيها تخفُّ قبضة المحتلين، ويتعامل مسعود الزنجي مع إيطالية مقيمة ولديها مطعم، تفضل طهي سلاحف البحر لزبائنها. وكان هذا النوع من الكائنات البحرية شبه مقدس لدى الليبيين، فخرق مسعود هذا العرف وبدأ بصيد وتزويد المطعم بهذا النوع من السلاحف. استثارت أفعاله فقيه الجامع، فأخذ يثير أهل المدينة على مسعود لخرقه المقدس، ويحكي السارد عن ماضي الفقيه، فذكر أنه باع أرضه للإيطاليين لكي يذهب إلى مكة. وهي دلالة على أن الفقيه الذي يتشدق بالدفاع عن المقدس قد فعل الأسوأ، ولكن مسعود لا يتوقف عن صيده للسلاحف، وبيعها للمرأة، ويقرر صيد ذكر السلاحف، وهو أكثر تحريما عند الليبيين، مما دفع الفقيه لحث رجال المدينة على ضربه، وبالرغم من أن زوجة مسعود تشمئز من صيد السلاحف، وترى أن زوجها يقترف محرما، إلا أنها تدافع عن زوجها بالكلام مع من يضربه من خلال ثقب مفتاح باب السكن.
نجد الإشكالية كذلك في كتبه الفكرية، ومحاولته الربط بين مفهومين متناقضين مفهوم المقدس والتنويري، فالمقدس يرى أن الإنسان عاجز عن إيجاد الحلول لمشكلاته المجتمعية والاقتصادية.
وإقامة نظام العدل بمفرده. وهذا القصور يتطلب حلولا جاهزة من المقدس الخارجي، بينما يرى الفكر التنويري لدى النيهوم أن الإنسان لا يحتاج إلى ذلك المقدس بالمطلق إلا وفق الاحتياج الضروري وإضافة أدوات معرفية تنويرية، كالحرية والرجوع إلى الأدوات العقلية في تفكيك الصعوبات التي تواجه المجتمعات، كما في كتابه “محنة ثقافة مزورة صوت الناس أم صوت الفقهاء” 1990 الذي ناقش فيه تخلف الدول العربية والإسلامية في ظل العولمة، مستعينا بالأدوات المعرفية والعقدية، والنظريات السياسية، لكي يجد حلولا لتخلف هذه الدول. وعبر طروحاته في الكتاب استطاع إثبات أن الإسلام لا يرضى بجميع أشكال الظلم في النظم السياسية والاقتصادية، التي فيها استباحة للحريات كالإقطاع والنظام الشيوعي والرأسمالية الجشعة، وأضاف أن الإسلام دين صالح في كل وقت.
الألمعية الفكرية في التحليل النصي لصادق النيهوم أدهشت الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي في التسعينات، حين وقع البياتي على دراسة فريدة عن ديوانه الشعري في كتاب للنيهوم عنوانه “الذي يأتي أو لا يأتي” نشر أولا في مجلة الناقد 1992 قبل أن ينشر في العام 2002 في كتاب مستقل حاملا عنوان الديوان ذاته. تناول فيه النيهوم بالتحليل العميق السيرة الذاتية للصوفي عمر الخيام وسلط الضوء فيه على الحياة الباطنية للخيام، وما عاشه من تجارب روحية ومعرفية استطاع البياتي من خلال الشعر إظهار تداعياته على شخصيته وشعره، كمهرب فلسفي وروحي في ذلك العصر من غوغائيه ومدعي التفقه في الدين.
سوق الحشاشين
نشأة النيهوم في مدينة بنغازي، المدينة المنفتحة على كل الجنسيات، كونها ميناء جعلت من شخصيته توافقية، وانعكست تلك التوافقية على فلسفته. فهو من جهة ليبرالي معتدل، لكنه لا يفرط بمعتقداته كمسلم. وهو بالرغم من نشأته في مجتمع يشكو التخلف والأمية الفكرية، لكنه بقي في كثير من مؤلفاته وما تداوله أصدقاؤه من أقواله، يشير إلى أن الغرب بمقوماته وقوته الجبارة يستند إلى حضارة عرجاء سحقت الإنسان وحوَّلته إلى مجرد رقم في طابور طويل. وأثمرت طفولته وسنوات مراهقته الأولى في حي سوق الحشاشين (سوق لبيع الأعشاب والبرسيم للدواب في بنغازي) والصابري، إلى التعرف على أصدقاء صاروا في ما بعد من كتاب وفناني ليبيا المعروفين، كرشاد الهوني، سالم الكبتي، خليفة الفاخري وغيرهم. وتكشف رسالة جوابية بعثها النيهوم إلى صديقه الفاخري من هلنسكي، كان قد كتب له الفاخري، يسأله عن جدوى تحوله إلى ّبريميثيوس، وما سيناله الكاتب من العالم جراء الكتابة، فأجاب “إنك تستطيع أن تكون ما تشاء ولكن يتحتم أن تدفع الثمن كله، دفعة واحدة، فإذا نجحت فثمة أمر أكثر قسوة أنك لن تعرف أنك نجحت، فقد انتحر فان كوخ ممتلئا باليأس، ومات تولستوي وحيدا، وأكلت الكلاب جثة هوميروس، ودعي دانتي بالتيس الأخرق، وكان غوغان يبصق دما إذ طفق المواطنون البدائيون في الجزيرة التي يقيم فيها، محاولين إنقاذه بحرق أصابع قدميه، ولقد مات في اليوم نفسه بوجه مجعد مشمئز وأصابع محترقة مسحوقة العظام”.
الصادق النيهوم الذي يقبع في قبره المرقم 144 في مقبرة بنغازي بعد معاناة امتدت لأكثر من سنتين مع سرطان الرئة، أسلم بعدها الروح في جنيف 1994 ونقل جثمانه إلى بنغازي، يقول لليبيين من قبره اليوم، محذرا وهو يحثهم للتفاهم والتعايش “ليبيا دولة من القش فوق بحيرة من البترول، ما أسرع أن تأكلها النيران”.
من يريد فهم فكر الصادق النيهوم، الكاتب الليبي الموسوعي وشخصيته، عليه قبل أن يقرأ كتبه أو مقالاته المنشورة في جريدة الحقيقة الليبية ومجلة الناقد وغيرهما أن يحلل واقعة مهمة مرَّتْ بحياة النيهوم وساهمت في خلق نظرته العقلانيّة الساخرة في بعض الأحيان للمقدس وشبه المقدس في حياة الناس في كتاباته المختلفة. تعود الحادثة إلى العام 1937 العام الذي ولد فيه النيهوم، في مدينة بنغازي، لأب بحَّار يعيش مسافرا أكثر مما يعيش مستقرا، وأم مريضة توفيت لاحقا، وهو لم يزل ابن شهرين، مما جعل والده يعتمد في تغذية الرضيع على حليب نعجة.
هذه النعجة بعد أن كبر الصادق النيهوم، وبلغ مبلغ الشباب، كان يراه صديقه أحمد القلال، الأديب والناقد الليبي، كلما زاره في بيته، يجلس فوق جلدها الصوفي، ولم يتردد بإخبار القلال ساخرا، أن والده احتفظ له بهذا الجلد الصوفيّ، الذي يجلس عليه الآن، وهو يعود للنعجة، التي رضع حليبها، بعدما توفيت أمه وهو لا يزال رضيعا.
روى الحادثة صديقه القلال في مقال له ضمن كتاب بعنوان “طرق مغطاة بالثلوج عن الصادق النيهوم” جمعه وأعده سالم الكبتي صدرعن سيرة النيهوم عقب وفاته في العام 1994.
إشكالية مزج الفكر المقدس بالفكر التنويري في قالب فلسفي وأدبي نجد بذوره في الحادثة السابقة، المؤثرة في حياة النيهوم، فلا نستغرب قوله في كتابه “الإسلام في الآسر” 1991 (افتحوا نوافذكم على العالم، وواجهوا أنفسكم، ودعوا الأشياء تنال قيمتها الحقيقية دون إقحام لعوامل الغضب أو الرضا) وناقش الخطاب الديني، ودور الجامع وتفكيك نظام العدل الاجتماعي في الإسلام، وضرورة توظيف ما يسميه النيهوم ب(حزب الجامع) لإنقاذ الإسلام من عبودية التاريخ، ليواجه الإقطاع والأصولية، وذكر فيه أيضا أن “المجتمع الجاهل لا يملك أفكارا معروضة للنقاش، لأن كل فكرة في حوزته مقدسة أو شبه مقدسة أو ربع مقدسة”.
وكانت الردود كثيرة على هذا الكتاب المثير للجدل من قبل كتاب إسلاميين كثيرين اعتبروا أن الكاتب لا يطبق الشريعة الإسلامية، ولم يدرس فقهها، لذلك فلا يمكن الركون إلى أحكامه وتحليلاته للإسلام.
خاطب في أحد مقالاته من يريد شراء الكاتب العربي مازجا بين الجد والسخرية “أن الكاتب ليس جروا مسعورا تربطونه أمام بيوتكم لكي يعضُّ لكم المارة مقابل قرشين” وذكر فيه الشخصية العربية وطريقة قيادتها، فقال “قد لا نملك فرصة في خلق حياتنا لكننا نملك كل شيء في ما يخص قيادتها”، دعوات النيهوم إلى حرية العقل وتغليبه على ما تعوده الإنسان العربي من عادات وتقاليد جاءت كصرخات مدوّية في الأوساط الثقافية العربية في التسعينات. التوافقية بين فكرة التنوير ونبذ التابوات المجتمعية جاءت أيضا في ثيمة رواية الصادق النيهوم المهمة “من مكة إلى هنا” 1970 حكى فيها عن المقدس وشبه المقدس في حياة مسعود الطبال الزنجي، الذي يقرر مغادرة مدينته بنغازي لأن المستعمرين الإيطاليين يفرضون على ما يصطاده من أسماك ضريبة مرتفعة.
فيحل في مدينة ليبية بعيدة اسمها “سوسة” وفيها تخفُّ قبضة المحتلين، ويتعامل مسعود الزنجي مع إيطالية مقيمة ولديها مطعم، تفضل طهي سلاحف البحر لزبائنها. وكان هذا النوع من الكائنات البحرية شبه مقدس لدى الليبيين، فخرق مسعود هذا العرف وبدأ بصيد وتزويد المطعم بهذا النوع من السلاحف. استثارت أفعاله فقيه الجامع، فأخذ يثير أهل المدينة على مسعود لخرقه المقدس، ويحكي السارد عن ماضي الفقيه، فذكر أنه باع أرضه للإيطاليين لكي يذهب إلى مكة. وهي دلالة على أن الفقيه الذي يتشدق بالدفاع عن المقدس قد فعل الأسوأ، ولكن مسعود لا يتوقف عن صيده للسلاحف، وبيعها للمرأة، ويقرر صيد ذكر السلاحف، وهو أكثر تحريما عند الليبيين، مما دفع الفقيه لحث رجال المدينة على ضربه، وبالرغم من أن زوجة مسعود تشمئز من صيد السلاحف، وترى أن زوجها يقترف محرما، إلا أنها تدافع عن زوجها بالكلام مع من يضربه من خلال ثقب مفتاح باب السكن.
نجد الإشكالية كذلك في كتبه الفكرية، ومحاولته الربط بين مفهومين متناقضين مفهوم المقدس والتنويري، فالمقدس يرى أن الإنسان عاجز عن إيجاد الحلول لمشكلاته المجتمعية والاقتصادية.
وإقامة نظام العدل بمفرده. وهذا القصور يتطلب حلولا جاهزة من المقدس الخارجي، بينما يرى الفكر التنويري لدى النيهوم أن الإنسان لا يحتاج إلى ذلك المقدس بالمطلق إلا وفق الاحتياج الضروري وإضافة أدوات معرفية تنويرية، كالحرية والرجوع إلى الأدوات العقلية في تفكيك الصعوبات التي تواجه المجتمعات، كما في كتابه “محنة ثقافة مزورة صوت الناس أم صوت الفقهاء” 1990 الذي ناقش فيه تخلف الدول العربية والإسلامية في ظل العولمة، مستعينا بالأدوات المعرفية والعقدية، والنظريات السياسية، لكي يجد حلولا لتخلف هذه الدول. وعبر طروحاته في الكتاب استطاع إثبات أن الإسلام لا يرضى بجميع أشكال الظلم في النظم السياسية والاقتصادية، التي فيها استباحة للحريات كالإقطاع والنظام الشيوعي والرأسمالية الجشعة، وأضاف أن الإسلام دين صالح في كل وقت.
الألمعية الفكرية في التحليل النصي لصادق النيهوم أدهشت الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي في التسعينات، حين وقع البياتي على دراسة فريدة عن ديوانه الشعري في كتاب للنيهوم عنوانه “الذي يأتي أو لا يأتي” نشر أولا في مجلة الناقد 1992 قبل أن ينشر في العام 2002 في كتاب مستقل حاملا عنوان الديوان ذاته. تناول فيه النيهوم بالتحليل العميق السيرة الذاتية للصوفي عمر الخيام وسلط الضوء فيه على الحياة الباطنية للخيام، وما عاشه من تجارب روحية ومعرفية استطاع البياتي من خلال الشعر إظهار تداعياته على شخصيته وشعره، كمهرب فلسفي وروحي في ذلك العصر من غوغائيه ومدعي التفقه في الدين.
سوق الحشاشين
نشأة النيهوم في مدينة بنغازي، المدينة المنفتحة على كل الجنسيات، كونها ميناء جعلت من شخصيته توافقية، وانعكست تلك التوافقية على فلسفته. فهو من جهة ليبرالي معتدل، لكنه لا يفرط بمعتقداته كمسلم. وهو بالرغم من نشأته في مجتمع يشكو التخلف والأمية الفكرية، لكنه بقي في كثير من مؤلفاته وما تداوله أصدقاؤه من أقواله، يشير إلى أن الغرب بمقوماته وقوته الجبارة يستند إلى حضارة عرجاء سحقت الإنسان وحوَّلته إلى مجرد رقم في طابور طويل. وأثمرت طفولته وسنوات مراهقته الأولى في حي سوق الحشاشين (سوق لبيع الأعشاب والبرسيم للدواب في بنغازي) والصابري، إلى التعرف على أصدقاء صاروا في ما بعد من كتاب وفناني ليبيا المعروفين، كرشاد الهوني، سالم الكبتي، خليفة الفاخري وغيرهم. وتكشف رسالة جوابية بعثها النيهوم إلى صديقه الفاخري من هلنسكي، كان قد كتب له الفاخري، يسأله عن جدوى تحوله إلى ّبريميثيوس، وما سيناله الكاتب من العالم جراء الكتابة، فأجاب “إنك تستطيع أن تكون ما تشاء ولكن يتحتم أن تدفع الثمن كله، دفعة واحدة، فإذا نجحت فثمة أمر أكثر قسوة أنك لن تعرف أنك نجحت، فقد انتحر فان كوخ ممتلئا باليأس، ومات تولستوي وحيدا، وأكلت الكلاب جثة هوميروس، ودعي دانتي بالتيس الأخرق، وكان غوغان يبصق دما إذ طفق المواطنون البدائيون في الجزيرة التي يقيم فيها، محاولين إنقاذه بحرق أصابع قدميه، ولقد مات في اليوم نفسه بوجه مجعد مشمئز وأصابع محترقة مسحوقة العظام”.
الصادق النيهوم الذي يقبع في قبره المرقم 144 في مقبرة بنغازي بعد معاناة امتدت لأكثر من سنتين مع سرطان الرئة، أسلم بعدها الروح في جنيف 1994 ونقل جثمانه إلى بنغازي، يقول لليبيين من قبره اليوم، محذرا وهو يحثهم للتفاهم والتعايش “ليبيا دولة من القش فوق بحيرة من البترول، ما أسرع أن تأكلها النيران”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.