5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمينة اوكادا حفيدة طه حسين: علاقتي بمصر ضعيفة
نشر في صوت البلد يوم 17 - 10 - 2019

لم أكن أتصور أنني سألتقي يوما حفيدة الكاتب الكبير طه حسين وأجري معها حوارا معها. لم يكن سهلاً الوصول إليها وتحديد موعد معها وقد تطلب هذا الموعد نحو شهرين، فهي تسافر كثيراً وتقضي معظم وقتها في إدارة قسم الآثار الهندية في المتحف الوطني الفرنسي للفنون الآسيوية غيميه (Musée national des arts asiatiques Guimet). لا تتحدث أمينة حسين أوكادا، وهذا إسم عائلة زوجها الياباني، العربية مع الصحافة، فهي بالكاد تتكلم بها، وقد فقدتها بعد ان هجرت مصر التي تكنّ لها حباً كبيراً. اصبحت تعيش في عالم الثقافات الآسيوية منذ أن تخصصت فيها اكاديمياً، وهي تترجم عن اللغة السنسكريتّية واللغة اليابانية. تجمع أمينة مؤنس طه حسين أوكادا المجد من طرفيه، فهي من جهة حفيدة عميد الأدب طه حسين، ومن جهة أخرى هي ابنة حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي. متحدّرة من أرقى العائلات المصريّة وأكثرها عراقة ثقافيًّا وفكريًّا، اختارت أمينة.
غادرت مصر قسرًا وهي في الخامسة من عمرها لضرورات عمل والدها الشاعر والأستاذ الجامعيّ الفرنكوفوني مؤنس طه حسين، إنّما بقي حبّ مصر في قلبها هي التي حملت الحنين لهذه الأرض بين ضلوعها. ترتسم الابتسامة الهادئة الشفّافة بعفويّة على وجهها عندما نسألها عن جدّها الرائع طه حسين أو عندما نذكّرها بطفولتها في أحضان عروس النيل مصر، فما زالت هذه المرأة المهيبة بشعرها الأبيض الثلجيّ القصير تتحسّر بصراحة واضحة على السنوات التي أمضتها بعيدًا عن مسقط رأسها.
امرأة تتأرجح بين حضارة الشرق الأقصى الهادئ المسالم وحضارة مصر المتنوعة والمتعددة، الفرعونيّة والإسلامية، أمينة حسين أوكادا تتحدّث عن طه حسين الجدّ والإنسان خلف هالة المفكّر والمثقّف العربيّ، عرفته حكواتيًّا مفعماً بالطفولة يجيد مؤانسة الأطفال، أليس هو القائل: "الشاعر والفليسوف وصاحب الفنّ طفل مهما يكبر"؟ عرفت أمينة حسين أوكادا جدّها قاصًا وحليفًا وشريكًا لا يبخل عليها بوقته ويجيد خلع وجه المفكّر ورجل الأدب عندما يكون معها ومع أحفاده الآخرين.
في مكتبها في متحف غيميه كان لنا هذا الحوار معها حول علاقتها بعائلتها واللغة العربيّة ومصر.
*أمينة مؤنس طه حسين أوكادا، تحملين اسم عمّتك "أمينة" ابنة عميد الأدب طه حسين، وتحملين كذلك اسم ابنة أمير الشعراء أحمد شوقي "أمينة" هي الأخرى. بماذا يُشعرك هذا الأمر، هل هذا الاسم هو مصدر خوف أو مصدر فخر؟
- أحمل اسم امرأتين عظيمتين ومذهلتين أنا معجبة بهما كثيرًا، وهذا أمر لا يشعرني بالخوف ولا بالرهبة بتاتًا. على العكس فأنا سعيدة جدّاً بهذا الاسم الذي يذكّرني بامرأتين مميّزتين أحبّهما وأشعر بالفخر لكوني أحمل اسمهما. أن يحمل المرء اسم أشخاص يحبّهم لهو أمر رائع واستثنائيّ وأنا محظوظة لذلك.
صيف مصر
كيف تصفين علاقتك بمصر التي هجرتها صغيرة؟
- مصر هي الأرض التي وُلدتُ فيها وترعرعتُ حتّى عمر الخامسة تقريبًا، ثمّ مع انتقال والديَّ إلى فرنسا تحوّلت مصر إلى مجرّد مصيفٍ ومكان أزوره لقضاء العُطل الصيفيّة مع العائلة. لقد تلقّيت تعليمي المدرسيّ والجامعيّ في فرنسا لظروف لم أخترها وإنّما لضرورة عمل والدي في اليونسكو بباريس، ما جعل علاقتي بمصر علاقة ضعيفة بعض الضعف. لكنّ مصر ظلّت قطعة منّي أحبّها وأملك فيها ذكريات رائعة، فصحيح أنّني أقمتُ طيلة حياتي في فرنسا لكنّني أعلم أنّني قادمة من أرض استثنائيّة ذات تاريخ وحضارة وارتباط وثيق بالفنون والتراث العريق. لقد أحببتُ مصر طيلة حياتي وإن لم أعش فيها، فليس شرطًا أن نقيم في بلدنا لنحبّه.
*لماذا اخترتِ التخصّص في مجال بعيد كل البعد عن الأدب العربيّ وعن إرثك العائليّ وتراث جدك؟
- طالما سحرتني اللغة العربيّة وأدبها، وأنا بطبعي ميّالة إلى قراءة الروايات وأرى أنّ الروايات العربيّة لم تنل حقّها في الترجمة نحو الفرنسيّة ولم تُعامل كما تستحقّ. ولا أعتبر أنّني بمغادرتي مصر خسرت اللغة العربيّة والأدب العربيّ، على العكس، فمن يملك جدًّا بحجم طه حسين تبقى اللغة العربيّة في عروقه ويحملها ميراثًا طيلة حياته. لكنّني من ناحية أخرى كنتُ أيضًا أملك منذ صغري فضولاً كبيرًا تجاه عالم الشرق الأقصى بحضارته البعيدة وثقافته الفريدة. وأظنّ أنّني كنتُ محظوظة لنشأتي تحت جناحي عائلة تحبّ العلم والثقافة وتملك انفتاحاً كبيراً نحو الآخر. لقد منحتني عائلتي قوّة هائلة لأتحدّى نفسي وأخرج من حدود محيطي وأكتشف عوالم جديدة، وهذا التشجيع والانفتاح والإيمان بالثراء الثقافيّ هي الأمور التي أوصلتني إلى ما أنا عليه اليوم.
بين طه ومؤنس
*ماذا يعني أن تكوني حفيدة طه حسين، وكيف أثّر هذا الأمر فيك؟ هل قرأت أعماله؟
- أن يتحدّر المرء من عائلة كعائلتي فيها شخص بحجم طه حسين وهذا الكمّ من الثقافة والعلم والأدب أمر رائع ويمنح القدرة على التحليق والارتفاع عالياً. أظنّ أنّ عائلتي وجدّي طه حسين منحاني الجناحين اللذين استطعتُ بهما تحقيق ذاتي والوصول إلى حيث أنا اليوم. وأنا لستُ أتحدّث هنا فقط عن طه حسين المفكّر ورجل الأدب والسياسة القويّ والشجاع والذي لا يتراجع أمام التحدّيات والصعاب، لستُ أتحدّث عن الكاتب الذي يعرفه الناس عبر نصوصه ومقالاته ومواقفه القويّة والشجاعة، أتحدّث عن طه حسين الإنسان والجدّ كما عرفته، الرجل الاستثنائيّ بتصرّفاته وطباعه واستقامته وروحه الجميلة وكلّ تلك الأمور المذهلة التي أثّرت بالطفلة والمراهقة التي كنتها. هي أمور عاينتها وشعرت بها وعشتها وإن لم أفهمها في حينها أو لم أستطع وضعها في كلمات. من الرائع أن يكون رجل بهذه المواصفات ضمن عائلة الفرد، طه حسين زرع فيّ مواصفات جميلة وبنى الإنسان الذي يسكنني اليوم.
*كيف تصفين العلاقة التي قامت بين والدك مؤنس الذي توفي قبل أعوام ودفن في باريس، وجدّك طه حسين؟
- ربطت والدي بجدّي علاقة وثيقة ترسّخت عبر أحاديثهما حول الثقافة والعلم والأدب والكتب وبخاصّة في المدّة التي كان فيها والدي طالبًا في مصر وفي فرنسا. نشأ بينهما تواطؤ ما، شيء يشبه التحالف الفكريّ. وإلى جانب هذا التواطؤ كان هناك طبعًا الكثير من الحبّ والتقدير والإعجاب العميق. كانت العلاقة التي ربطتهما وثيقة، رسّخت أواصر العائلة وقرّبتنا جميعًا بعضنا من بعض. ولم ينحصر التقارب بين والدي وجدّي بالمستوى الفكريّ بل كانا متشابهين كثيراً على الصعيد الخارجيّ، أي بالشكل، وهذا بشهادة المقرّبين والذين يعرفونهما.
*برأيك ماذا ورثتِ عن والدكِ الذي كان يكتب بالفرنسية وعن جدّك طه حسين رائد الادب العربي الجديد؟
- ورثتُ عنهما أوّلاً التواضع، فكلاهما كانا رجلين عظيمين ومفكّرين رصينين، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعهما من التمتّع بتواضع لا مثيل له، وأظنّ أنّ والدي أخذ هذا عن جدّي بالأساس. وورثتُ أيضًا عنهما حبّ العلم والثقافة والأدب، فقد كانا كلاهما عاشقين للقراءة والكتب والكلمة. والدي كان رجلاً جدّيًّا مؤمنًا بالعلم ومطعّماً بثقافتين اثنتين هما العربيّة والفرنسيّة، وهو أمر منحه ثراءً فكرياً وجعله أكثر انفتاحاً وعمقاً ورزانة. لقد شاءت الأقدار أن أنشأ في بيت يقدّر الثقافة ويضعها في أرفع المقامات وهو أمر رائع ورثته وبقي معي منذ سنوات نشأتي الأولى حتّى الآن.
*ما أوّل أمر يخطر في بالك عندما تتذكّرين جدّك طه حسين الذي كان فاقد البصر وعبقري البصيرة؟
- عندما أفكّر بجدّي أتذكّر صوته وقصصه المذهلة التي كان يخبرنا بها. كانت لديه موهبة حكواتيّ استثنائيّة، فكان يُخبرنا قصصًا لا يصدّقها عقل فيها من الخيال ما يثير الدهشة والذهول والحماسة. عندما كنتُ طفلة كنتُ أتوق لسماع قصصه والأخبار الكثيرة التي كان يرويها لنا نحن أحفاده، فأنا لم أكن حفيدته الوحيدة. كنّا نعشق القصص التي كان يخبرنا بها وما زلتُ حتّى الآن أستعيدها أحيانًا بصوته وكأنّه أمامي. كان جدّي يتمتّع بظرف ومودّة وخفّة دم جميلة، كما كان يتلاعب بالكلمات بشكل مثير للدهشة وبطريقة محفّزة ومثيرة للفضول. عرف جدّي كيف يكون رجلاً عظيماً لقرّائه وجدّاً استثنائيّاً لا يبخل بوقته على عائلته وأحفاده، فكان يعرف كيف يوقظ الطفل الذي فيه عندما يكون معنا ليلاعبنا ويخبرنا القصص ويذهلنا بالأخبار الكثيرة التي كان يخبرنا بها. تخطّى جدّي مصاعب كثيرة في حياته وكان قويًّا وشجاعًا إنّما لم يحرمنا يومًا من عطفه ومودّته وطرافته ووقته نحن أحفاده الذين عرفناه جدًّا وإنسانًا.
*بالنظر اليوم إلى الوراء، ماذا كنتِ لتغيّري بجدّك طه حسين في هذا العصر الصاخب، لو استطعتِ ذلك؟
- لا أظنّني أغيّر فيه شيئًا، فجدّي طه حسين كان إنسانًا رائعًا واستثنائيًّا. عرفته في طفولتي حليفًا وحكواتيًّا شغوفًا بالكلمات واللغة وفقدته وأنا بعد في الخامسة عشر. كنتُ أمضي معه عطلتي الصيفيّة التي كانت تنقسم عموماً ما بين مصر وإيطاليا وفرنسا وهي أوقات أجلّها وما زلتُ أحملها في ذاكرتي وفي قلبي. لجدّي في قلبي حبّ مميّز وحنين وتقدير وإعجاب. كنتُ أشاركه قراءاتي وأخباري وكنّا نتناقش في هذه الأمور ولم يكن يومًا يُشعرني بأنّني أقلّ منه معرفة أو قيمة. لقد استطاع أن يحمل في شخصه الرجل المفكّر المثابر الشجاع الذي يتخطّى المحن بقوّة وصلابة، والطفل الطريف الذي يضحك ويخبر القصص والحكايات.
*لقد وضع والدك مؤنس طه حسين مذكّرات له في أربعة اجزاء، وكان هناك وعد من وزارة الثقافة المصرية بنشرها بالفرنسية وبترجمتها الى العربية، فهل من مشروع لنشر هذه المذكّرات في وقت قريب؟
- حاليًّا لم أفكّر في هذه المسألة بعد وبشكل قاطع، فهذه المذكّرات بحاجة إلى قراءة ومراجعة وتنقيح لتحديد ما يمكن نشره منها وما يُفضّل أن يبقى داخل العائلة. يجب أن أتفرّغ لهذه المهمّة وأن أنفّذ وصيّة والدي ورغبته في أن تُنشر هذه المذكّرات بالفرنسيّة أوّلاً ثمّ بالعربيّة. عندما يحين الوقت سأنشر هذه المذكّرات كما سأقوم بعمل تجميعيّ من أرشيف العائلة. أفكّر بأن أنشر نصوصاً ووثائق من أرشيف العائلة أراها مفيدة للباحثين وللقرّاء لكونها تسلّط الضوء على نواحي من شخص طه حسين ومن والدي لم يعرفها قرّاؤهما. لكنّ هذين المشروعين مؤجّلان قليلاً في الوقت الراهن إلى أن يصبح لديّ الوقت الكافي لأتفرّغ لهما.
*إن كان بإمكانك أن تغيّري أمرًا واحدًا في طفولتك فماذا كنتِ لتغيّري؟
- أمكنني أن أغيّر شيئًا واحدًا لكنتُ بقيت في مصر وقتًا أطول لأعرف جدّي وأرضي ولغتي أكثر بعد. لم أختر الرحيل عن مصر إنّما فُرِض عليّ هذا الأمر فرضًا، واليوم أتمنّى لو أنّني عشت هناك لمدّة أطول.
لم أكن أتصور أنني سألتقي يوما حفيدة الكاتب الكبير طه حسين وأجري معها حوارا معها. لم يكن سهلاً الوصول إليها وتحديد موعد معها وقد تطلب هذا الموعد نحو شهرين، فهي تسافر كثيراً وتقضي معظم وقتها في إدارة قسم الآثار الهندية في المتحف الوطني الفرنسي للفنون الآسيوية غيميه (Musée national des arts asiatiques Guimet). لا تتحدث أمينة حسين أوكادا، وهذا إسم عائلة زوجها الياباني، العربية مع الصحافة، فهي بالكاد تتكلم بها، وقد فقدتها بعد ان هجرت مصر التي تكنّ لها حباً كبيراً. اصبحت تعيش في عالم الثقافات الآسيوية منذ أن تخصصت فيها اكاديمياً، وهي تترجم عن اللغة السنسكريتّية واللغة اليابانية. تجمع أمينة مؤنس طه حسين أوكادا المجد من طرفيه، فهي من جهة حفيدة عميد الأدب طه حسين، ومن جهة أخرى هي ابنة حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي. متحدّرة من أرقى العائلات المصريّة وأكثرها عراقة ثقافيًّا وفكريًّا، اختارت أمينة.
غادرت مصر قسرًا وهي في الخامسة من عمرها لضرورات عمل والدها الشاعر والأستاذ الجامعيّ الفرنكوفوني مؤنس طه حسين، إنّما بقي حبّ مصر في قلبها هي التي حملت الحنين لهذه الأرض بين ضلوعها. ترتسم الابتسامة الهادئة الشفّافة بعفويّة على وجهها عندما نسألها عن جدّها الرائع طه حسين أو عندما نذكّرها بطفولتها في أحضان عروس النيل مصر، فما زالت هذه المرأة المهيبة بشعرها الأبيض الثلجيّ القصير تتحسّر بصراحة واضحة على السنوات التي أمضتها بعيدًا عن مسقط رأسها.
امرأة تتأرجح بين حضارة الشرق الأقصى الهادئ المسالم وحضارة مصر المتنوعة والمتعددة، الفرعونيّة والإسلامية، أمينة حسين أوكادا تتحدّث عن طه حسين الجدّ والإنسان خلف هالة المفكّر والمثقّف العربيّ، عرفته حكواتيًّا مفعماً بالطفولة يجيد مؤانسة الأطفال، أليس هو القائل: "الشاعر والفليسوف وصاحب الفنّ طفل مهما يكبر"؟ عرفت أمينة حسين أوكادا جدّها قاصًا وحليفًا وشريكًا لا يبخل عليها بوقته ويجيد خلع وجه المفكّر ورجل الأدب عندما يكون معها ومع أحفاده الآخرين.
في مكتبها في متحف غيميه كان لنا هذا الحوار معها حول علاقتها بعائلتها واللغة العربيّة ومصر.
*أمينة مؤنس طه حسين أوكادا، تحملين اسم عمّتك "أمينة" ابنة عميد الأدب طه حسين، وتحملين كذلك اسم ابنة أمير الشعراء أحمد شوقي "أمينة" هي الأخرى. بماذا يُشعرك هذا الأمر، هل هذا الاسم هو مصدر خوف أو مصدر فخر؟
- أحمل اسم امرأتين عظيمتين ومذهلتين أنا معجبة بهما كثيرًا، وهذا أمر لا يشعرني بالخوف ولا بالرهبة بتاتًا. على العكس فأنا سعيدة جدّاً بهذا الاسم الذي يذكّرني بامرأتين مميّزتين أحبّهما وأشعر بالفخر لكوني أحمل اسمهما. أن يحمل المرء اسم أشخاص يحبّهم لهو أمر رائع واستثنائيّ وأنا محظوظة لذلك.
صيف مصر
كيف تصفين علاقتك بمصر التي هجرتها صغيرة؟
- مصر هي الأرض التي وُلدتُ فيها وترعرعتُ حتّى عمر الخامسة تقريبًا، ثمّ مع انتقال والديَّ إلى فرنسا تحوّلت مصر إلى مجرّد مصيفٍ ومكان أزوره لقضاء العُطل الصيفيّة مع العائلة. لقد تلقّيت تعليمي المدرسيّ والجامعيّ في فرنسا لظروف لم أخترها وإنّما لضرورة عمل والدي في اليونسكو بباريس، ما جعل علاقتي بمصر علاقة ضعيفة بعض الضعف. لكنّ مصر ظلّت قطعة منّي أحبّها وأملك فيها ذكريات رائعة، فصحيح أنّني أقمتُ طيلة حياتي في فرنسا لكنّني أعلم أنّني قادمة من أرض استثنائيّة ذات تاريخ وحضارة وارتباط وثيق بالفنون والتراث العريق. لقد أحببتُ مصر طيلة حياتي وإن لم أعش فيها، فليس شرطًا أن نقيم في بلدنا لنحبّه.
*لماذا اخترتِ التخصّص في مجال بعيد كل البعد عن الأدب العربيّ وعن إرثك العائليّ وتراث جدك؟
- طالما سحرتني اللغة العربيّة وأدبها، وأنا بطبعي ميّالة إلى قراءة الروايات وأرى أنّ الروايات العربيّة لم تنل حقّها في الترجمة نحو الفرنسيّة ولم تُعامل كما تستحقّ. ولا أعتبر أنّني بمغادرتي مصر خسرت اللغة العربيّة والأدب العربيّ، على العكس، فمن يملك جدًّا بحجم طه حسين تبقى اللغة العربيّة في عروقه ويحملها ميراثًا طيلة حياته. لكنّني من ناحية أخرى كنتُ أيضًا أملك منذ صغري فضولاً كبيرًا تجاه عالم الشرق الأقصى بحضارته البعيدة وثقافته الفريدة. وأظنّ أنّني كنتُ محظوظة لنشأتي تحت جناحي عائلة تحبّ العلم والثقافة وتملك انفتاحاً كبيراً نحو الآخر. لقد منحتني عائلتي قوّة هائلة لأتحدّى نفسي وأخرج من حدود محيطي وأكتشف عوالم جديدة، وهذا التشجيع والانفتاح والإيمان بالثراء الثقافيّ هي الأمور التي أوصلتني إلى ما أنا عليه اليوم.
بين طه ومؤنس
*ماذا يعني أن تكوني حفيدة طه حسين، وكيف أثّر هذا الأمر فيك؟ هل قرأت أعماله؟
- أن يتحدّر المرء من عائلة كعائلتي فيها شخص بحجم طه حسين وهذا الكمّ من الثقافة والعلم والأدب أمر رائع ويمنح القدرة على التحليق والارتفاع عالياً. أظنّ أنّ عائلتي وجدّي طه حسين منحاني الجناحين اللذين استطعتُ بهما تحقيق ذاتي والوصول إلى حيث أنا اليوم. وأنا لستُ أتحدّث هنا فقط عن طه حسين المفكّر ورجل الأدب والسياسة القويّ والشجاع والذي لا يتراجع أمام التحدّيات والصعاب، لستُ أتحدّث عن الكاتب الذي يعرفه الناس عبر نصوصه ومقالاته ومواقفه القويّة والشجاعة، أتحدّث عن طه حسين الإنسان والجدّ كما عرفته، الرجل الاستثنائيّ بتصرّفاته وطباعه واستقامته وروحه الجميلة وكلّ تلك الأمور المذهلة التي أثّرت بالطفلة والمراهقة التي كنتها. هي أمور عاينتها وشعرت بها وعشتها وإن لم أفهمها في حينها أو لم أستطع وضعها في كلمات. من الرائع أن يكون رجل بهذه المواصفات ضمن عائلة الفرد، طه حسين زرع فيّ مواصفات جميلة وبنى الإنسان الذي يسكنني اليوم.
*كيف تصفين العلاقة التي قامت بين والدك مؤنس الذي توفي قبل أعوام ودفن في باريس، وجدّك طه حسين؟
- ربطت والدي بجدّي علاقة وثيقة ترسّخت عبر أحاديثهما حول الثقافة والعلم والأدب والكتب وبخاصّة في المدّة التي كان فيها والدي طالبًا في مصر وفي فرنسا. نشأ بينهما تواطؤ ما، شيء يشبه التحالف الفكريّ. وإلى جانب هذا التواطؤ كان هناك طبعًا الكثير من الحبّ والتقدير والإعجاب العميق. كانت العلاقة التي ربطتهما وثيقة، رسّخت أواصر العائلة وقرّبتنا جميعًا بعضنا من بعض. ولم ينحصر التقارب بين والدي وجدّي بالمستوى الفكريّ بل كانا متشابهين كثيراً على الصعيد الخارجيّ، أي بالشكل، وهذا بشهادة المقرّبين والذين يعرفونهما.
*برأيك ماذا ورثتِ عن والدكِ الذي كان يكتب بالفرنسية وعن جدّك طه حسين رائد الادب العربي الجديد؟
- ورثتُ عنهما أوّلاً التواضع، فكلاهما كانا رجلين عظيمين ومفكّرين رصينين، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعهما من التمتّع بتواضع لا مثيل له، وأظنّ أنّ والدي أخذ هذا عن جدّي بالأساس. وورثتُ أيضًا عنهما حبّ العلم والثقافة والأدب، فقد كانا كلاهما عاشقين للقراءة والكتب والكلمة. والدي كان رجلاً جدّيًّا مؤمنًا بالعلم ومطعّماً بثقافتين اثنتين هما العربيّة والفرنسيّة، وهو أمر منحه ثراءً فكرياً وجعله أكثر انفتاحاً وعمقاً ورزانة. لقد شاءت الأقدار أن أنشأ في بيت يقدّر الثقافة ويضعها في أرفع المقامات وهو أمر رائع ورثته وبقي معي منذ سنوات نشأتي الأولى حتّى الآن.
*ما أوّل أمر يخطر في بالك عندما تتذكّرين جدّك طه حسين الذي كان فاقد البصر وعبقري البصيرة؟
- عندما أفكّر بجدّي أتذكّر صوته وقصصه المذهلة التي كان يخبرنا بها. كانت لديه موهبة حكواتيّ استثنائيّة، فكان يُخبرنا قصصًا لا يصدّقها عقل فيها من الخيال ما يثير الدهشة والذهول والحماسة. عندما كنتُ طفلة كنتُ أتوق لسماع قصصه والأخبار الكثيرة التي كان يرويها لنا نحن أحفاده، فأنا لم أكن حفيدته الوحيدة. كنّا نعشق القصص التي كان يخبرنا بها وما زلتُ حتّى الآن أستعيدها أحيانًا بصوته وكأنّه أمامي. كان جدّي يتمتّع بظرف ومودّة وخفّة دم جميلة، كما كان يتلاعب بالكلمات بشكل مثير للدهشة وبطريقة محفّزة ومثيرة للفضول. عرف جدّي كيف يكون رجلاً عظيماً لقرّائه وجدّاً استثنائيّاً لا يبخل بوقته على عائلته وأحفاده، فكان يعرف كيف يوقظ الطفل الذي فيه عندما يكون معنا ليلاعبنا ويخبرنا القصص ويذهلنا بالأخبار الكثيرة التي كان يخبرنا بها. تخطّى جدّي مصاعب كثيرة في حياته وكان قويًّا وشجاعًا إنّما لم يحرمنا يومًا من عطفه ومودّته وطرافته ووقته نحن أحفاده الذين عرفناه جدًّا وإنسانًا.
*بالنظر اليوم إلى الوراء، ماذا كنتِ لتغيّري بجدّك طه حسين في هذا العصر الصاخب، لو استطعتِ ذلك؟
- لا أظنّني أغيّر فيه شيئًا، فجدّي طه حسين كان إنسانًا رائعًا واستثنائيًّا. عرفته في طفولتي حليفًا وحكواتيًّا شغوفًا بالكلمات واللغة وفقدته وأنا بعد في الخامسة عشر. كنتُ أمضي معه عطلتي الصيفيّة التي كانت تنقسم عموماً ما بين مصر وإيطاليا وفرنسا وهي أوقات أجلّها وما زلتُ أحملها في ذاكرتي وفي قلبي. لجدّي في قلبي حبّ مميّز وحنين وتقدير وإعجاب. كنتُ أشاركه قراءاتي وأخباري وكنّا نتناقش في هذه الأمور ولم يكن يومًا يُشعرني بأنّني أقلّ منه معرفة أو قيمة. لقد استطاع أن يحمل في شخصه الرجل المفكّر المثابر الشجاع الذي يتخطّى المحن بقوّة وصلابة، والطفل الطريف الذي يضحك ويخبر القصص والحكايات.
*لقد وضع والدك مؤنس طه حسين مذكّرات له في أربعة اجزاء، وكان هناك وعد من وزارة الثقافة المصرية بنشرها بالفرنسية وبترجمتها الى العربية، فهل من مشروع لنشر هذه المذكّرات في وقت قريب؟
- حاليًّا لم أفكّر في هذه المسألة بعد وبشكل قاطع، فهذه المذكّرات بحاجة إلى قراءة ومراجعة وتنقيح لتحديد ما يمكن نشره منها وما يُفضّل أن يبقى داخل العائلة. يجب أن أتفرّغ لهذه المهمّة وأن أنفّذ وصيّة والدي ورغبته في أن تُنشر هذه المذكّرات بالفرنسيّة أوّلاً ثمّ بالعربيّة. عندما يحين الوقت سأنشر هذه المذكّرات كما سأقوم بعمل تجميعيّ من أرشيف العائلة. أفكّر بأن أنشر نصوصاً ووثائق من أرشيف العائلة أراها مفيدة للباحثين وللقرّاء لكونها تسلّط الضوء على نواحي من شخص طه حسين ومن والدي لم يعرفها قرّاؤهما. لكنّ هذين المشروعين مؤجّلان قليلاً في الوقت الراهن إلى أن يصبح لديّ الوقت الكافي لأتفرّغ لهما.
*إن كان بإمكانك أن تغيّري أمرًا واحدًا في طفولتك فماذا كنتِ لتغيّري؟
- أمكنني أن أغيّر شيئًا واحدًا لكنتُ بقيت في مصر وقتًا أطول لأعرف جدّي وأرضي ولغتي أكثر بعد. لم أختر الرحيل عن مصر إنّما فُرِض عليّ هذا الأمر فرضًا، واليوم أتمنّى لو أنّني عشت هناك لمدّة أطول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.