دقائق قصيرة فصلتني عن الاتصال بأحد المقربين منه للاطمئنان على صحته، لأفاجأ بعدها بثوان بخبر وفاته، أتوقف عن التفكير وقراءة المشهد من حولي وكأني أصبت بغيبوبة فصلتني عن العالم، وأتذكر ملامح هذا الرجل الخلوق، كان دائماً يمنحنى الدعم والتشجيع، بل إن دعمه الأكبر لي كان عندما بادر بمشاركة أسرة "بوابة الأهرام" في عامها الأول، بحضوره لندوة نظمنها للاحتفاء به عن دوره في مسلسل "الريان"، والذي حصد فيه المركز الأول عقب الاستفتاء الذي قمنا به خلال شهر رمضان، ليخلق حالة من الصداقة المؤقتة مع جميع الزملاء امتدت على مدار ساعتين، وأجواء من المرح بينه وبين زملائه الذين شاركوه تقديم العمل. وقدم لي الدعم ثانية، عندما أثنى على مقال متواضع كتبته عنه وإن لم أستطيع أن أصف عبر سطوره عبقرية دوره في فيلم "فبراير الأسود"، فيشيد بها في مكالمة تليفونية، قائلاً: "انتي كتبتي عن الفيلم بصورة رائعة.. مش عارفة أشكرك أزاي"، وهي أخلاق لا تستوعبها من نجم بحجمه وقامته، في الوقت الذي يمتلئ فيه الوسط الفني بالعبث، وإن دلت على ثقافة فنان يقرأ ويتابع من الصغير إلى الكبير. خالد صالح الرجل الذي خلق من أجل فنه.. لم يكن الفتى الوسيم الذي تنجذب حوله الفتيات بل صنع من ملامحه المتواضعة حالة حب وارتباط بينه وبين جمهوره الذي وضعه فى المرتبة الأولى بقائمة نجومه المفضلين، وكان حريصاً على متابعته أينما ذهب في السينما أو التلفزيون. لا تعرف إذا كان هذا الرجل قال أكذوبة بشأن بداية حياته التي عمل خلالها في مجال صناعة الحلويات، فالأدوار التي قدمها منذ بداية الألفية الجديدة تؤكد على واحد من اثنان إما أنها جينات وراثية فنية خلق بها أو دراسة وموهبة ظل يعمل عليها لسنوات طويلة، لكنها الحقيقة فقد بدأ خالد حياته في العمل مع شقيقه بمجال صناعة الحلويات، وافتتحا معاً مصنع متخصص لكنه سبق ذلك تقديمه لعروض في مركز الهناجر بدار الأوبرا المصرية، ومسرح الجامعة إلى أن أخذ قراره النهائي باحتراف الفن، ليخلق لنفسه مساحة خاصة لا يشاركه فيها أحد من النجوم، بل إن جميعهم يعتبرونه شريك النجاح الأكبر في أعمالهم. يعد النجم الراحل الأكثر دهاء بين نجوم جيله، فلم يترك نفسه أسيراً للانحصار في أدوار الشر مثلاً، والتي خلقت له بوابة التعارف والدخول الرسمي لقلوب مشاهدي عقب الدور الذي قدمه في فيلم "تيتو"، لكنه كان حريص التلون ك "الحرباء" فتارة تجده رومانسيا كما في مسلسله "بعد الفراق"، وآخر عبيط في فيلمه "الحرامي والعبيط"، تجده يذوب ويتذوق في أعماق تقديم شخصيات "السير الذاتية" في "الريان"، وعجوزاً شائباً يلهث وراء السيدات في "ابن القنصل". يستمر ذكاء خالد صالح على مدار مشواره الفني، ليس فقط من حيث التنوع بأدواره ولكن في الكيمياء الخاصة التي قدمها بين وبين نجوم جيله أو من سبقوه في الوسط الفني، فمعهم جميعا يستطيع أن يبهرك بأدائه، ولعل نجاحه الأكبر كان مع شركائه أحمد السقا، وخالد الصاوي وخصوصاً الأخير، حيث بدأ الاثنان معاً مشوارهما الفني معاً، وأتذكر عندما روى لنا الصاوي في حواره مع "بوابة الأهرام" عن صداقته مع النجم الراحل عقب عودتهما للعمل معاً في فيلم "الحرامي والعبيط"، حيث قال: "أنا وخالد صالح لم تنقطع علاقتنا أبداً طيله هذه السنوات، لأننا بنتقابل كثير "صحيح مش زي زمان بسبب ظروف حياتنا لكن بنتقابل وناخد وندي مع بعض، وطبيعة خالد أنه شخصية مرنة وعميقة، وفاهم كثير هو يقدر يشتغل مع كل واحد ازاي، وعلاقتنا بدأت من أيام ما كنا بننزل نغني مع بعض في فرقه "الحركة" في المظاهرات، وفي نفس الوقت ممكن كنت اخرج له، ولا أمثل معه كما أخرجت له مسرحيه "الميلاد"، وسبق وقدمنا معا عرض "انطونيو وكيلوبطه" وكنا نظهر فيه كمهرجين، ولذلك فنحن علي قدر كبير من الفهم والوعي بملكات بعض، كما أن خبرتنا معا ورصيد حب الناس لنا أفرد لنا مساحة "اريحية" في الأدوار التي قدمناها في "الحرامي والعبيط "، وفي النهايه احنا الاثنين عاملين حساب لبعض "يعني لو واحد مننا سرح عارف أن التاني هيصحيه". يعرف خالد صالح بمواقفه الوطنية والثورية، فقد كان واحداً من بين كثر من أبناء هذا الوطن الذين شاركوا في ثورة 25 يناير، وكانوا يدعمون في اتجاه بناء واقع أفضل لهذا الوطن، وكان آخرها مشاركته البارزة في ثورة يونيو، عندما حضر مع شريكه الفنان خالد الصاوي وجموع من مثقفي وفناني مصر، ليقفا جميعاً في مواجهة تيار جماعة "الإخوان المسلمون". الدعم والتشجيع الذي ذكرته في البداية، وكان يمنحه الراحل لي ولجميع من حوله لا يتوقف، فعطاؤه وإيمانه بدوره كفنان كان واضحاً، كان أبرزها تبرعه المادي الذي كان يمنحه دائماً لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وكأنه يعود بالوراء لزمن "الأبيض والأسود" عندما كان النجوم يدعمون الوطن بأعمالهم في أوقات المحن والظروف الحرجة. لا أعرف ماذا سيكون شكل الوسط الفني بعد رحيل خالد صالح، فهو واحد من الذين كانوا أكثر حرصاً على استمرار ثقة جمهورهم بهم، فيبحث ويفتش عن الصعب والمركب.. الجديد والمختلف، لا تجد له دوراً منذ أن بدأ كممثل دور ثان يخذلك أو يجعلك تنحرف عن رؤيته، حتى حرمانه من الظهور مبكراً في أدوار الشاب بسبب دخوله في العمل الفنى في سن كبيرة "36" لكنه عوض ذلك بحرفيته في أدائه التمثيلي الذي كنت تتنفس معه محبته لعمله في جميع أدواره. خالد صالح رحل بعد إجراء عملية قلب مفتوح، وإن كان لقب العملية هو الأقرب لوصف الرجل الذي كان فاتحاً قلبه وأذرعه للجميع، افتقده مشاهديه فى رمضان الأخير لغيابه عن الشاشات المصرية، حيث عرض مسلسله "حلاوة الروح" على الفضائيات العربية فقط، لكنهم هذه المرة سيفتقدونه للأبد.