هناك سؤال طرح نفسه بقوة في الشارع العربي طوال الأسبوع الماضي: لماذا نجح إخوان تونس وفشل إخوان مصر؟.. رغم ان تونس هي الفرع ومصر هي الأصل وان تجربة الإخوان طوال ثمانين عاما كانت تستمد أهميتها وقيمتها وتأثيرها انها انطلقت من مصر بعمقها الحضاري والثقافي والديني.. هذه اللحظة ينبغي ان تكون بداية مراجعة حقيقية عن مستقبل الإسلام السياسي وهل منحته تجربة الإنتخابات في تونس فرصة أخرى ام ان موقف الإخوان في انتخابات تونس كان هزيمة وان بدا انه انتصار.. الشئ المؤكد ان إخوان تونس كانوا أكثر ذكاء ووعيا وإدراكا للعمل السياسي الصحيح ولهذا تعاملوا بحرص شديد مع القوى السياسية الأخرى في مجتمع أقل ما يوصف به انه تجاوز اخطاء الآخرين واستفاد من تجاربهم خاصة تجربة الإخوان في حكم مصر وقد كانت سيئة وفاشلة بكل المقاييس.. في تقديري ان الخلاف الجوهري بين إخوان تونس وإخوان مصر لم يكن خلافا عقائديا في درجة الإيمان بالفكرة أو خلافا تاريخيا في المنهج والأسلوب، ولكن الخلاف في حقيقته كان خلافا مجتمعيا تفاوتت فيه درجة التطور الحضاري والفكري والخلاف بين تجربتين احداهما انفصلت تماما عن العصر الذي تعيش فيه وهي تجربة إخوان مصر وتجربة أخرى استطاعت ان تتجاوز حدود الوطن وتلتحم بتجارب إنسانية أخرى أضافت لها رصيدا من الوعي والفهم والإستنارة.. في تجربة إخوان مصر نحن أمام مجموعة من العقول عاشت خارج الزمن رغم ان أعدادا كبيرة منهم حصلوا على أعلى الشهادات العلمية وفيهم تخصصات أقرب للغة العلم والعصر منها إلى متاحف التاريخ إلا ان هذه الشهادات لم تقدم نموذجا فكريا معاصرا.. كانت مشكلة رموز الإخوان عندنا انهم انغلقوا على أنفسهم فكرا وعملا ونشاطا وزواجا لقد تحولت تجمعات الإخوان إلى جماعات مغلقة من الصعب اختراقها أو الإندماج معها.. وكانوا هم بدورهم عاجزين عن الإلتحام بفئات المجتمع الأخرى.. هذا الإنغلاق في الفكر والحوار جعل هذه الجماعات تردد أطروحات واحدة في كل شئ دون التفكير في التواصل مع الآخرين.. ان الخطأ الأكبر في موقف إخوان مصر هو حالة التعالي التي أصابت هذه القيادات وجعلتها تتصور انها أكبر من الشعب وأعلى شأنا من بقية الناس.. وهذا الإحساس عادة يتولد عند نوعيات من البشر يفضلون العزلة والإحساس بالتميز خاصة انهم يظنون انهم الأقرب إلى الله رغم ان هذه حقيقة مشكوك في أمرها فلا يوجد إنسان يدرك قدر نفسه عند الخالق سبحانه وتعالى. وحين وصل إخوان مصر إلى السلطة حملوا أمراضهم.. انهم مميزون وهم غير بقية أبناء المجتمع.. وقبل هذا كله هم يدعون إلى الله في مجتمع من الكفار. طفحت أمراض الإخوان على تجربتهم حين وصلوا إلى الكراسى.. انفردوا بسلطة القرار لأنهم لا يثقون في الآخرين.. ووزعوا الوليمة على أنفسهم.. ورفضوا سماع أي صوت آخر إلا صوت الجماعة.. وقبل هذا كله حاولوا السيطرة على مفاتيح كل شئ رغم انهم لا يملكون من الخبرات والكفاءات ما يكفي لسد منافذ العمل في دولة كبيرة مثل مصر.. والواقع ان الفشل وقلة الخبرات وغياب الثقة في الآخرين والإنفراد بسلطة القرار كانت أهم وأخطر الأخطاء التي وقعت فيها جماعة الإخوان في حكم مصر.. اذكر يوما ان زارني في مكتبي بالأهرام مجموعة من أساتذة كلية الطب في الجامعات المصرية ينتمون للإخوان المسلمين ويومها قلت لهم: إذا وصلتم للسلطة في مصر اخلعوا كل الرداءات الفكرية والمذهبية قبل ان تجلسوا على الكراسي، اذكر وأنا أصافح أساتذة الطب ان قلت لهم كلمة واحدة: ان أمامكم طريقين لا ثالث بينهما.. اما النجاح.. أو العودة للسجون.. وقد عادوا وقد قلت هذا يوما للدكتور محمد مرسي وهو في السلطة انك لن تحاسب على انتماء فكري نشأت عليه ولكنك الأن مسئول عن كل مواطن مصري المسلم والمسيحي والمؤمن والكافر لأنك لست رئيسا لجماعة ولكنك رئيس مصر كلها.. ولم يسمع.. ان الشئ المؤكد ان تجربة إخوان مصر قد تركت آثارا بعيدة على تجربة الإسلام السياسي في الحكم في العالم كله.. لم تعترف قوى الإسلام السياسي بأنها لا تمتلك الخبرة.. ولا الكفاءات وان مجموعات المنتمين إلى هذه التيارات لا يملكون رصيدا ثقافيا أو فكريا يتناسب مع مسئوليات الحكم خاصة ان كثيرا من الأدعياء الذين حملوا لقب مفكر إسلامي كانوا في حقيقتهم أشخاصا عاديين لا يملكون تاريخا يحميهم أو فكرا يميزهم.. وكان من الصعب ان تقارن بينهم وبين مفكرين كبار تناولوا القضايا الإسلامية بعمق وتجرد وترفع أمثال العقاد والغزالي وخالد محمد خالد والشعراوي وعبد الحليم محمود وجاد الحق ونظمي لوقا وقبلهم الشيخ شلتوت.. ومن هنا من الصعب ان نقارن تجربة إخوان تونس بالتجربة المصرية.. في السنوات العجاف في مصر أصابت عمليات التجريف الفكري والثقافي والسياسي كل أطراف المجتمع المصري بمن فيهم الإخوان المسلمون لقد نجحوا فقط في نشر الدعوة الإخوانية وليس الدعوة للإسلام كما انهم تخصصوا في أعمال التجارة والبيزنس ولم يبتعدوا كثيرا عن حيتان الحزب الوطني في النهب والسرقة.. على الجانب الآخر نجد إخوان تونس أكثر ثقافة بمفهومها العام بحكم الإقتراب من الثقافة الفرنسية بصفة خاصة والغربية بصفة عامة كما ان الإستبداد السياسي في عهد بن علي لم يهمل قضايا التعليم وحقوق المرأة بل ان نسبة الأمية في تونس لا تزيد على 10% بينما في مصر تجاوزت 40% في السنوات العجاف.. من المؤكد ان تونس جمعت نخبة دينية مستنيرة وواعية ومؤمنة بالديمقراطية بمفهومها الصحيح ولن ننسى أيضا ان الغنوشي زعيم حزب النهضة عاش سنوات طويلة منفيا في انجلترا بينما كان رئيس الدولة المرزوقي منفيا في فرنسا.. ورغم التوجه الديني عند الغنوشي والعلمانية في فكر المرزوقي إلا ان العقول تقاربت بل اتحدت من أجل مستقبل تونس الوطن. في جانب آخر لا نستطيع أيضا ان ننسى ان الزعيم الراحل الحبيب بورقيبه رمز استقلال تونس ظل حتى الأن يمثل قيمة في ضمير الشعب التونسي وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلت التونسيين يجتمعون تحت راية حزب نداء تونس وزعيمه الباجي قائد السبسي وهو أحد رفاق بوتفليقه.. ولهذا كان من التناقض الشديد ان يجتمع شباب الثورة التونسية على رمز من الأجيال السابقة قارب التسعين من عمره.. من الجوانب المهمة في قضية الخلاف بين إخوان تونس وإخوان مصر ان زعماء الإخوان في تونس استفادوا من تجربة فشل الإخوان في مصر بل انهم راهنوا واصروا على عدم تكرار ما حدث في مصر وهذا السقوط المدوي لأكبر جماعة إسلامية في العالم.. لقد ابتعد إخوان تونس عن كل ما وقعت فيه تجربة الإخوان في مصر.. لقد فتحوا حوارا واعيا مع كل القوى السياسية.. وحين حدثت جرائم اغتيالات في بعض رموز التيارات الأخرى ادان الإخوان كل هذه الأخطاء بل انهم في لحظة ما قبلوا مبدأ تغيير الحكومة وهم الأن يستعدون ليكونوا مجرد فصيل سياسي في عملية متكاملة هدفها الديمقراطية بل أعلنوا رفضهم ترشيح أحد منهم للرئاسة. ان أخطر ما يهدد تجربة تونس الأن ان تتخلى عن المنهج السلمي الذي اتبعته من البداية لأن تجربة الإخوان في مصر لم تكتف بالفشل ولكنها تحولت إلى قوة إرهابية تسعى لتدمير الوطن وهذا الخطأ التاريخي سوف يحتاج زمنا طويلا.. ان أقل اتهام يوجه للإخوان في مصر انهم إذا لم يكونوا شركاء في العمل على تخريب مصر فهم قادرون على وقف كل هذه الأعمال الإرهابية.. لقد ترك الإخوان للمصريين أجيالا من الشباب المضلل يحتاج إلى علاج فكري وثقافي وديني وهذه الأجيال تمثل عبئا ثقيلا على الواقع الأمني والسياسي والديني لمؤسسات الدولة المصرية.. لا شك ان تجربة الإخوان في تونس سوف تمنح التجربة التونسية مصادر كثيرة للثراء والقوة وسوف تنقي فصائل الإخوان هناك من أشباح التعالي والغرور من أجل التواصل مع أبناء الشعب التونسي كله.. سوف تظهر مشاكل كثيرة في الساحة السياسية التونسية أمام حساسيات قديمة وصراعات على السلطة ومعارك بين سلطة الرئاسة والبرلمان أمام اختصاصات واسعة حصل عليها البرلمان، ولكن انكسار شوكة حزب النهضة وانه ليس الوحيد في الساحة سوف تجعل الجميع يعيد حساباته.. سوف يجد حزب النهضة نفسه مطالبا الأن ان يقدم نموذجا واعيا متحضرا في صفوف المعارضة وسوف يجد حزب نداء تونس نفسه مسئولا عن حماية تجربة ديمقراطية وليدة تجمع كل أطياف الواقع السياسي التونسي. من هنا ينبغي ان تعيد قوى الإسلام السياسي حساباتها في ظل تجربتين قريبتين لثورتين وجماعتين دينيتين.. ان إخوان تونس امتداد لإخوان مصر وكانت مصر هي الأصل في التجربة كلها ولكن يبدو ان الشجرة الأم قد سقطت وان أحد الفروع رغم ما اصابه من جراح استمر في الحياة، ليت شباب الإخوان في مصر يدرسون التجربة التونسية لأنها ستضيف لهم الكثير.. وعلى شباب مصر ان يقرأوا ما وراء السطور وان يجتمعوا خلف رموز حقيقية واعية ومستنيرة تدرك مسئولية السلطة وامانة الوطن بعيدا عن لغة المصالح والحسابات الخاطئة. ..ويبقى الشعر وَحْدِى أنتظرُكِ خلفَ البابِ يُعانقُنى شوقٌ .. وحَنينْ .. والنَّاسُ أمامِى أسرَابٌ ألوَانٌ ترْحلُ فى عَيْنى وَوُجُوهٌ تخْبُو .. ثُم تَبينْ والحُلمُ الصّامتُ فى قلبى يبْدو مَهْمُومًا كالأيام ِ يُطاردهُ يَأسٌ .. وأنينْ حُلمِى يترنَّحُ فِى الأعْماق ِ بلا هَدفٍ .. واللحنُ حزينْ أقدامُ النَّاس علىَ رأسِى فوقَ الطرقاتِ .. على وجْهى والضَّوءُ ضَنينْ .. تبدُو عَيناكِ على الجُدران ِ شُعاعًا يَهَربُ من عَينى ويعُودُ ويسْكنُ فى قلبى مثْلَ السِّكِّينْ أنتظرُ مَجيئكِ .. لا تأتِينْ .. عَيْنى تتأرْجحُ خَلْف البَابِ فلمَ تسمَعْ ما كنْتُ أقولْ .. أصْواتُ الناس على رأسِى أقدامُ خيُولْ .. ورَنينُ الضَّحَكات السَّكرى أصْداءُ طبولْ .. وسَوادُ الليل على وجْهى صَمتٌ وذهولْ .. وأقولُ لنفسِى لوْ جاءتْ ..! فيُطلُّ اليأسُ ويصْفعُنى تنزفُ منْ قلبى أِشياءٌ دمْعٌ .. ودماءٌ .. وحنينٌ وبقايَا حلم ٍ.. مقتولْ مَا كنتُ أظنُّ بأنّ العهْدَ سرابٌ يضْحكُ فى قلبينْ مَا كنتُ أظنُّ بأنَّ الفرحة كالأيام ِ إذا خانتْ .. يَنطفىءُ الضَّوءُ على العَيْنينْ .. أنتظرُ مجيئكِ يشطرُنى قلبى نِصفينْ .. نصْفُ ينتظرُك خلفَ البابِ وآخرُ يدْمَى فى الجفنينْ .. حاولتُ كثيرًا أنْ أجْرى .. أن أهَربَ منكِ .. فألقانى قلبًا يتشظَّى فى جَسَدينْ .. الصَّمْتُ يُحَدّق فِى وَجْهى لا شَىْءَ أمَامِى .. غَابَ النَّاسُ .. ومَاتَ الضَّوءُ .. وفِى قلبِى جَرْحٌ .. ونزيفْ وأعُودُ ألملِمُ أشْلائِى فوْقَ الطُّرقاتِ وأحْملُهَا .. أطلال خريفْ والضَّوءُ كسِيٌر فى العَيْنين ِ خُيولُ الغُربةِ تسْحقُنِى .. والصَّمتُ مُخيفْ .. هدأتْ فِى الأفق بقايَا الضَّوءِ وَقدْ سَكنَتْ أقْدامُ النَّاسْ وأنَا فِى حُزنى خلفَ البابِ يُحاصُرنِى خوفٌ .. ونُعَاسْ مِن أيْنَ أنَامُ ؟ وصَوْتُ الحُزن على رأسى أجراسٌ تسحْقُ فى أجراسْ وأنا والغُربة ُوالأحزَانُ وعيناكِ وبقايا الكَاسْ .. واللَّيلُ وأوْراقى الحَيْرَى .. والصَّمْتُ العَاصِفُ .. والحُرَّاسْ وأقولُ لنفْسِى .. لوْ جَاءتْ .. يَرتَعِش الضَّوءُ .. وفِى صَمْتٍ .. تخْبُو الأنْفاسْ .. مَازلتُ أحدّقُ فِى وَجهى والقلبُ حزينْ .. أجمَعُ أشلائِى خَلْفَ البابِ يُبعثُرها جُرحٌ .. وحَنينْ .. والحُلمُ الصَّامتُ فِى قلبِى يَبْكى أحيانًا كالأطْفال .. ويسْألُ عَنكِ .. متَى تأتينْ .. مَتَى .. تَأتِينْ .. قصيدة "متى تأتين" سنة 1994 نقلا عن جريدة الأهرام