أخيرا توقف هدير النار، وصمتت أفواه المدافع التي التهمت الصخر والبشر على السواء. سكنت الأرض لحظة، كأنها تلتقط أنفاسها المثقلة برائحة الدم، وكأن السماء أرهقها البكاء، فغفت فوق جراحها المنثورة على تراب الوطن. توقفت المذبحة البشعة التي شاهدها العالم كله متلفزة، وكأنها مشهد من فيلم طويل، لا نهاية له. كان الناس يأكلون أمام الشاشات، يتجشأون، ينعسون، ثم ينامون مطمئنين، بينما هناك — في بقعة منسية من ضمير الإنسان – كان الجوعى يصرخون، والثكالى ينوحون، والأطفال يبحثون عن صدور أمهاتهم بين الركام. يا لبرود العالم! كم هو ثقيل هذا الصمت حين يكون مشتركا بين القاتل والمشاهد! وكم هو موجع أن ترى الظلم حيا متلفزا، والحق مكبلا بأشرطة الأخبار! لكن… وسط كل هذا الخراب، ما زال ثمة نبض لا يموت. فالمقاومة ليست بندقية فقط، بل فكرة تولد مع كل شهيد يسقط، ومع كل أم تشيع ابنها، ومع كل فتاة تجف دموعها لتصير صلابة في وجه الريح. ستظل الفكرة راسخة كجذور الزيتون، عصية على الاقتلاع، ما دام في الأرض احتلال، وما دام في الصدور نفس لم يزهق بعد. إنها هدنة فقط، لا سلام. لحظة لالتقاط الأنفاس قبل أن تعود العاصفة. فالمعركة لم تنته، وإن خفت صوتها. وما أكثر الجولات التي تنتظرنا في دروب هذا الصراع الطويل. قد نخسر جولة، قد ينكسر السلاح، لكن الكلمة الأخيرة — في كل زمان ومكان — ستبقى للمقاومين، للشرفاء الذين آمنوا أن الكرامة لا تستجدى، بل تنتزع. وسيبقى التاريخ شاهدا: أن من قاوم عاش، ومن صمت مات واقفا على ركام إنسانيته.