ما أكرمَ الله نعمةً على عباده أعظمَ من نعمة الأمن، فهي السكينة التي تطمئن بها القلوب، والأساس الذي تبنى عليه الحضارات. وإذا تأمّلنا في كتاب الله، وجدنا الأمن يتصدر مقاصد الشريعة في حفظ النفس والعرض والمال، فهو ظل وارف لا يستشعر دفأه إلا من فقده. لقد جعل الله تعالى الأمن قرين الرزق في قوله سبحانه: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف﴾ فقدم الأمن من الخوف إلى جانب الطعام من الجوع، لأن الإنسان لا يهنأ بلقمة في فمه إن لم يأمن على نفسه وأهله ووطنه. ولقد ضرب الله المثل بالبلد الآمن في قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾]. فهذه الآية تذكير بسنّة إلهية ماضية: أن الأمن نعمةٌ مشروطةٌ بشكر المنعم، فإذا غابت القلوب عن ذكر الله وضلَّت عن الصراط، تبدل الطمأنينةُ خوفًا، والرغد قحطًا. وطنٌ آمن هو وطن عامر بالإيمان، فالإيمان هو السياج الأول للأمن. لا تقوم الدول بالحجارة ولا بالسلاح وحده، بل تقوم برجال يؤمنون بأن حماية الوطن عبادة، وأن الحفاظ على أرضه وصيانته من الفتن واجب مقدس. ومن هنا كان الدفاع عن الوطن جزءا من الوفاء بالعهد الذي أمر الله به، إذ قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْد إِن الْعَهْد كَانَ مَسْئُولًا﴾. وما أصدق القائل حين قال: "إذا ضاع الأمنُ، ضاع العمرُ ولو امتدَّت أيامه." فالأمن ليس جدرانا من حديد، بل هو شعور في الصدور، يبنى بالعدل، ويزدهر بالحب، ويصان بالتقوى. ولئن كان الأمن مطلبا دنيويا، فإنه في حقيقته قيمةٌ روحية سامية، تتجلّى في قول الله تعالى لأهل الإيمان في الآخرة: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ .. فكأن الأمن ظل يمتد من الدنيا إلى الجنة، يظلّل من صدق في إيمانه، وأحسن في عمله، وأخلص في حبه لوطنه. فلنحمد الله على نعمة الأمان، ولنكن جنودا في حفظها، بالكلمة الصادقة، والعمل المخلص، والتقوى في السر والعلن، فإن الأوطان لا تصانُ إلا بسواعد أبنائها، ولا تدوم إلا إذا سكن الإيمان في القلوب، قبل أن يحرسها السلاح في الحدود.