* قد لا يرتقي القلم إلى مقام مَن نكتب عنه وله، وقد تبدو هذه الأحرف المتواضعة أقل توهجاً أمام عظمة الإنسان الذي يتشرف المداد بأن يخط اسمه وسيرته. فمهما أشرق الحرف يبقى ضوءه باهتاً أمام نور أولئك الذين عاشوا التجربة عن قرب، وسمحوا للجوارح أن تتحرر بكل حب، لتعانق الأبجدية خمائل الروح. * إنّ الكتابة عن الإنسان القائد ليست بالأمر الهيّن؛ فالتجربة التي تحاكي الروح والجسد أعظم وصلاً، وقد يعجز الخيال عن بلوغ كمالها، ولا يدرك الجمالَ مَن عاش البُعد والغربة والانقطاع. * يرى البعض أنّ الكتابة الواقعية أصدق لأنها إسقاط للحقيقة على واقع معيش، ويرى آخرون أن الخيال إبداع لا يقل جمالاً عن الحقيقة الملموسة. * لهذا فإن الكتابة عن عظماء الإنسانية شرف للكاتب قبل أن تكون وسام استحقاق لمن يُكتب عنه، وإنّ الحديث عن الفضلاء هو الفضيلة بعينها. *وقبل أن أرفع قلمي المتواضع، الذي جفّ سنين بالإهمال حيناً وبالابتعاد حيناً آخر، وجدت أنّ من الواجب الإنساني والأخلاقي أن أتعلم فنّ الإصغاء لكلّ من عايش السيدة الفاضلة نعيمة المشايخ، والدة الأديبة الدكتورة سناء الشعلان. * إنّ شرف الكتابة هو شرف الشهادة وهي تقتضي أن يعيش المرء التفاصيل ليكون للكلمة صدقها، غير أنّ تجربتي كانت قصيرة لا تتجاوز أياماً قليلة في معرفة هذا النبع الإنساني الصافي. وما جهلي وتقصيري إلا ضعف لازمني بفعل الإهمال وغياب المتابعة ومطارحة الأفكار، وغربة أثقلت هذا الواقع. * يأتي المرء بأجمل الألفاظ وأبهى الصور، لكن الأصل في الكتابة يبقى الصدق. وهنا أطرح السؤال : لماذا نكتب عن السيدة الفاضلة نعيمة المشايخ؟ * الإجابة: تقودنا إلى التوقف عند محطات حياتها المضيئة، وهي التي صادفت ذكراها الرابعة بتاريخ 12 سبتمبر 2021. ولأن قلمي قد يخونه المقام، اعتمدت على كلمة ابنتها الدكتورة سناء الشعلان في تأبين والدتها، محاولاً جمع شتات الحرف الذي خانني غير مرّة أمام جلال مواقفها. * فالكتابة شهادة، وأصلها الأمانة، ولا يتحقق ذلك إلا بالعودة إلى مصدر يوثق التفاصيل، فينحت بالكلمة معالم الصورة، لتكتمل بألوان الطيف كلها، وتجعل من السيدة الفاضلة نعيمة المشايخ الإنسانَ والقائد. * إنّ الفقدان من أعظم التجارب الوجودية التي يمر بها الإنسان؛ فهو يواجه من خلاله هشاشة الحياة، ويختبر صبره، ويكتشف قيمة الروابط العميقة. ولعلّ فقد الأم هو أقسى أشكال هذا الامتحان؛ فهي ليست مجرد شخص عابر، بل هي الحياة نفسها. *وفي هذا السياق كتبت الأديبة د. سناء الشعلان نصّها الرثائي المؤثر عن والدتها، واصفةً إياها ب "الأم الصديقة"، تعبيراً يجمع بين حنان الأمومة وصدق الصحبة. * لقد رحلت نعيمة المشايخ في 12/9/2021 بعد صراع طويل مع السرطان، واجهته بصبر المؤمنين ورضا الموقنين. لم تئن ولم تشكُ، بل صبرت محتسبة عند الله، لتغادر الدنيا في سكون الطاهرين. وكان رحيلها انهياراً وجودياً لابنتها التي شعرت أنّ الدنيا كلّها قد رحلت معها. * يقول الفيلسوف مارتن هايدغر: "الموت ليس مجرد حدث بيولوجي، بل هو انكشاف لحقيقة الكينونة". وهذا ما جسّدته الأبنة البارة سناء شعلان (سونا) في رثائها؛ إذ لم يكن موت الأم نهاية جسد، بل انكشافاً لفراغ عميق في المعنى. * لقد صوّرت حزنها بعبارة دامية: "مُتُّ معها مرات قبل أن أموت أخيراً باستبدال موت الروح بموت الجسد". إنها تجربة موت مضاعف، إذ تتكرر النهاية مع كل ذكرى. فالأم لم تكن بالنسبة إليها مجرد والدة، بل كانت العالم كلّه، والحياة والآخرة معاً. * وهنا يحضر قول محمود درويش: "الأم هي الوطن الصغير الذي نغادره مرغمين، ونبقى نبحث عنه ما حيينا". وبهذا المعنى كانت الأم عند البارة سناء شعلان وطناً سقط بسقوطها. لم يكن وصف الأم ب"الصديقة" مجرد ترف بلاغي، بل هو جوهر العلاقة بينهما؛ فقد كانت نعيمة المشايخ الأم رفيقة الروح، ومؤنسة الوجدان، ومصدراً للأمان، فتجاوزت الأمومة حدود الجسد إلى علاقة روحانية أصيلة قوامها الحنان والرفقة والصدق. *يقول جبران خليل جبران: "الأم هي كل شيء في هذه الحياة؛ هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف". وهذا المعنى يلتقي مع تصوير البنت اليارة سناء شعلان لأمها كصديقة وملاذ أبدي. * لقد قدّمت د. سناء الشعلان والدتها بوصفها نموذجاً للإنسانية الخالصة: قلباً طاهراً، وروحاً معطاءة، وصبراً جميلاً. فكل من عرفها شهد بطيبتها، حتى غدت رمزاً إنسانياً خالداً، ليس لعائلتها فقط بل للذاكرة الإنسانية جمعاء. *أعلنت د. سناء في نصها أن اسمها الكامل "سناء شعلان بنت نعيمة" ليس مجرد لقب، بل هوية وجودية متجذرة؛ ترى في ارتباط اسمها بأمها مقاومة للنسيان، وحفظاً لذاكرتها من الضياع. * وهنا نستحضر قول بول ريكور: "التذكر فعل مقاومة ضد العدم". فالابنة تقاوم موت الأم بتخليد اسمها في اسمها، وبجعل ذكراها حاضرة في كل كتابة ووجود. * إن عبارة "أمي الصديقة نعيمة المشايخ" ليس مجرد رثاء شخصي، بل شهادة أدبية وجودية تمجّد الأمومة كقيمة مطلقة، وتكشف عن جوهر العلاقة بين الأم وابنتها، حيث تتداخل الأمومة بالصداقة، وتتماهى الروحان في وحدة وجدانية عميقة. وهكذا يغدو النص وثيقة تحفظ للأم ذكراها الطيبة، وتجعل من غيابها حضوراً دائماً في الذاكرة. * وقبل أن أضع القلم، أعترف أنني مزّقت الكثير من الأوراق التي حاولت أن أكتبها عن الأم الإنسان والقائد. وحين وجدت العجز يلازمني، ركنت إلى ركن هادئ، وأمسكت هاتفي، وكتبت بلا مساعدة الممحاة، لأجعل من العفوية شاهداً حقيقياً على إحساس غمرني بكل حب واحترام وتقدير. * رحم الله الأم القائدة، وبارك في ابنتها البارة، الأديبة الدكتورة سناء الشعلان.