في زمن أثقلته الهموم، ووجوه أرهقها ضجيج الحياة، لا يجد البسطاء إلا أن "يسرقوا لحظات من السعادة" ليصنعوا منها عالماً خاصاً بهم، بعيداً عن قسوة الواقع وبرد الأيام. وحين تأتي المناسبات الدينية، تتسع تلك اللحظات لتصبح طقساً جماعياً يشترك فيه الكبير والصغير، الرجل والمرأة، الغني والفقير، وكأنهم جميعاً يعلنون أن الفرح حق مشروع، وأن ذكر الله ورسوله الكريم باب من أبواب الطمأنينة. وليس أجمل من ذكرى مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون موعداً لتلك البهجة. فالقرى المصرية عبر تاريخها الطويل عرفت كيف تحوّل هذه الذكرى إلى فلكلور شعبي حيّ، تتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل. ترى في الأسواق القديمة الساري يرفرف عالياً، والأطفال يحملون الحلوى والفوانيس الصغيرة، والنساء يزين البيوت، والدراويش يطوفون بالأذكار والمدائح النبوية. وكأن القرية تتحول كلها إلى خيمة كبيرة تتعانق فيها القلوب على حب النبي، الذي قال الله فيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]. وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد مشروعية الفرح به، فقد روى مسلم عن أبي قتادة أن النبي سُئل عن صيام يوم الاثنين فقال: "ذلك يوم وُلدت فيه، ويوم بُعثت أو أنزل عليّ فيه"، أي أن الاحتفاء بيوم مولده باب من أبواب شكر الله على هذه النعمة العظمى. كما أن النبي أقرّ الحب والفرح والإنشاد في المناسبات، بل حضّ على بث السرور في القلوب. ولكننا نرفض بعض المظاهر الخارجية ..ولا تجعلها الأساس فى منع الفرح. يا سادة ؛ على مرّ العصور، ظل احتفال المصريين بمولد النبي جزءاً من هويتهم، لا يختلف في جوهره عن أعياد الحصاد أو مواسم الخير أو موالد الأولياء، لكنه يبقى أقدسها لأنه يتصل بخير خلق الله. لذلك لا عجب أن ترى الناس يفرحون كل على طريقته، فواحد يوزع الطعام، وآخر ينشد المدائح، وثالث يفرّح الأطفال بالحلوى.ورابع يحتفل بإقامة الأمسيات الدينية بالمساجد.. إنها صورة مصر الحقيقية التي لا يمكن محوها أو تجفيف منابعها. أما أولئك الذين لا يطيقون أن يروا الناس سعداء، فيتخذون من التحليل والتحريم سلاحاً عشوائياً، فنقول لهم: كفاكم تنطّعاً وتشديداً على خلق الله. إنكم لستم أوصياء على قلوب الناس ولا حراساً على ضمائرهم، والدين لم يُبنَ على كآبةٍ وتجفيفٍ للفرح، بل على الرحمة والمحبّة. كيف تضيق صدوركم برؤية طفل يحمل حلوى أو شيخ يترنم بمدحة للنبي؟! أليس الله تعالى قد أمرنا بقوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس:58]. فى النهاية بقى أن أقول ؛ دعوا الناس يفرحون بمولد نبيهم، يسرقون لحظات السعادة من بين أنياب الغلاء والهموم. فالذي يحاول أن يصادر فرحتهم لا يحمل من الدين إلا قشره، ولا من الرحمة إلا اسمها.