عندما يأتي الليل وسكُونه تثيرني الأحزان، يسكُن ما في الكون كائنٌ أو إنسان، أما أنا فيثور بقلبي بُركان، تنام العيون ملأى الجفون، إلا قلبي وعقلي المجنون في الليل، يخلع الحنين في الليل أنيابه لينهش بمخالب الماضي، ينهشني الحنين وتذبحني الذاكرة بسكين الذكريات، إنها سكين لا تذبح ولا تقتل، لكنها تؤلم وتترك أثرها على نفسي كما تترك السكين الحادة أثرها على الجلد. عندما تتناسق الذكريات مع الموسيقى وتشتعل ضوضاء النسيان بأحرف منتثرة كالنجوم، تبا له ولوقت يجعلني منعزلا تماما من فرط الألم والشعور، في الليل تتمايل كشجرة الصفصاف وحيدا، أرى أن الدنيا لم تكن سوى سراب يخبرني الظلام، أنه لن يبقى لي سوى نفسي كما هو حالي، ولكنني أنسى كل دروس الليل في النهار. الليل زينة السماء، يزداد القمر في الليل بأشكاله المختلفة، يعكس ضوء الشمس بخجل واضح، ويتلاشى تدريجيًا تاركًا للنجوم مكانه. الليل بما يحتويه من مظاهر كونية مصدر غني للشعراء يستمدون منه المعاني ويستوحون الصور، وكثير منهم كانوا يتخذونه ملاذًا يفرون إليه من متاعبهم، كما يتخذون منه أيضًا معبدًا يتغنون فيه بقيم الجمال وآيات الجلال في شتى المظاهر. الليل ستار يستر عيوب الناس، لكنه يفضح حقائقنا يفضح مشاعرنا وكذبنا وخبايانا، فنخرج مكنونات أنفسنا ونقول ما لا نجرؤ على التفكير به في النهار، فالليل ملاذ العارفين وفرصة المتأملين الهاربين، يغيب النهار ويهجم شبح الليل لنبدأ بمحاسبة أنفسنا عما اقترفناه في النهار. يبدأ الليل بسمفونيته الصاخبة التي تملأ النفوس ضجيجًا فتهتز الروح والجسد معًا، ولكل شخص في داخله قصص وحكايات، كم من حبيبين في الليل انفصلا للتو ينهش الحنين قلبيهما والوجع روحيهما، وكم من عجوز لم يبقَ في دنياها سوى أيام معدودات يأتيها الليل فينبش مقبرة ذاكرتها، فالليل رغم سواده قد اكتسى بثوب النهار تاركًا آلاف القصص تتلاشى مع ضوء الشمس، فما من ليل إلا وانقشع وما من فجر إلا وطلع. الليل يغمرني بالأمل المنشود لتتحقق أحلامي في اللاوعي والخيال، لكثير من الحكي السخيف والفلسفة المرة، لبحر من البوح والكلام، وها هنا أنا أتوسد ذراع السراب التي من خلف جدران الأوهام، وكلما ينبلج ضياء الفجر وأحدّق النظر على سكون الأرض وأطل على ذاك الغد القادم من بين ظلال الأيام. *كاتب المقال الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها