كتاب غير عادى وقع علّى فى ظرف غير عادى أيضاً،فعلى غير توقع ودون سابق معرفة ومن غير طلب ،دخل علّى أحد رواد المساجد يوماًيحمل هذا الكتاب ،ولم أكن سمعت بالكتاب من قبل ،ولا أعرف حامل الكتاب ،ويبدو أن الكتاب كان فى مكتبة شخص يعرفه فلما مات تخلص من كتبه ،فالكتاب قديم لكنه بحالته ولم تُقلب صفحاته كثيراً،فأخذته شاكراً ،واستبنت عنوانه ومؤلفه وطبعته ورقم إيداعه ،وهالني ما رأيت ،فكيف لكتاب بهذه الروعة وتلك العظمة ألا تصلنى أنباؤه ؟وكيف لم يقع ذكره فى المجالس التى أغشاها على كثرة أصدقائى الذين يتحدثون عن الكتب؟ولماذا لم أره فى مكتبات كثير من الأصدقاء الذين لا يعدلون باقتناء جواهر الكتب شيئاً آخر؟لا أدرى ولكن هكذا جرت المقادير ،فالكتاب ألفه الشيخ (نديم الجسر )مفتى لبنان رحمه الله ،وفى بداية الستينات من القرن الماضى ،تلك الفترة التى سادت فيها أفكار شتى ،وغلبت فيها تيارات متنازعة ،ففيها ظهرت كتب كثيرة تمجد الاشتراكية ،وكتب أكثر تهلل لليسارية وتعلى من اليساريين ،والمد الشيوعى كان يحاول أن يجد موضع قدمين لا قدماً واحدة ،والمعارك الفكرية ومايترتب عليها من مكائد لا تفارق الأجواء ،والناس مشتتون بين هذا وذاك ،بعضهم يثبت على منهج ،وبعضهم يتقلب بينها،فما يلبث أن يقتنع بفكرة حيناً من الدهر حتى يطلقها ثلاثاً ويقترن بغيرها،فى غمرة هذه الحالة الفكرية غير المستقرة والتى كانت تتضمن تحولاً سياسياً كبيراً وسريعاً فى وطننا العربى ومحيطنا الإفريقى ،أشرقت شمس هذا الكتاب ،الذى انتزع انتزاعاً كلمات الإطراء والتقريظ ،وانتهب انتهاباً أسواق الكتب ،وقد هالتني أرقام مبيعاته عند ظهوره ،وهالني أكثر كثرة التقارير والتقاريظ التى ارتبطت به ،لدرجة أن الرئيس عبد الناصر رحمه الله كان واحداً ممن كتب هذه التقاريظ مثنياً على الكتاب ،وأهمية التقاريظ التى وضعت للكتاب وعليه أنها كانت لمتشاكسين فى الفكر والمشرب الثقافى ،فالبرغم من تنازعهم على صدارة المشهد الثقافى ومحاولة انتزاعه بأية وسيلة من هؤلاء ،إلا أنهم على جميع طرقهم وسائر أفكارهم اتفقوا على قبول هذا الكتاب والثناء عليه ،وليس كل أصحاب الأقلام سواء ،فألف تفريط ممن لا يؤبه لهم لا تقدم ولا تؤخر، ولكن كلمة واحدة من اد (سهير القلماوي )صاحبة فكرة معرض القاهرة الدولى للكتاب ،رحمها الله ،كلمة معتبرة فى دنيا من يعرف مكانتها العلمية وآثارها الفكرية ،ومن الجيد أن الكتاب فى طبعته الثانية رافقته هذه التقاريظ ،لقد كان الشيخ نديم الجسر رحمه الله مبدعاً فى كل ما يتعلق بالكتاب ،إلى الحد الذى حمل المتنازعين حملاً على أن يتفقوا عليه ،بل إلى الحد الذى دفع الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله ،إلى إصدار قرار بتدريسه لطلبة الدراسات العليا بجامعة الأزهر الشريف قسم الثقافة الإسلامية ،وهو مالم يحدث لكتاب آخر ،وهو القرار الكاشف كذلك عن قيمة الكتاب العلمية ،لقد بدأه نديم الجسر رحمه الله بمقدمة أدبية بليغة رصينة امتلأت شوقاً وحنيناً إلى وكره وموطنه ،حتى لتكاد بعد هذه السنين الطويلة (التى عاد بعدها لطرابلس )تسمع نشيجه ،وترى عينيه تسح بالدمع سحاً لا يملك مواراته ،وهو لا يأنف من سرد بعض عوائد ملاعب الصبا كركوبه لعصا يضعها بين رجليه ويجرى بها متصوراً أنها حمار أو حصان ،وكم التهبت مشاعره وتواردت عليه خواطره وذكرى أبويه وهو يضع أوراقه وقلمه فى جامع الأمير طينال بشمال لبنان ليسطر هذا الكتاب العجيب الرهيب ،والذى يخيل إلّى أن مدداً علوياً كان يتنزل على قلب الشيخ الجسر وعقله وقلمه ،وهو يكتب ،وقد أوتى الرجل الحكمة وهو يكتب وهو يفكر وهو يتخيل وهويحلل الأفكار وهويقربها للقارئ وهو يستوعبها وهويشرحها ،وهو يأتى على المدارس الفلسفية واحدة واحدة يقف بينها موقف الشارح لمنهجها لا موقف المتهجم عليها ،وهو يشرح فى يُسر يحسدعليه ،وسهولة لا أدرى كيف قدر عليها موقف الفلاسفة والفلسفة فى جميع أزمانهم وأزمانها وأطوارهم وأطوارها من الإيمان بالله عزوجل ،وهويسوق هذه الأفكار الصعبة ويصوغها فى أسلوب يسهل استيعابه وهضم أفكاره دون عناء ،وجعل الشيخ الجسر رحمه الله الكتاب على هيئة حوار يدور بين شيخ و مريده ،وقد وفق الرجل كل التوفيق فى التسمية الرمزية التى أطلقها على الشيخ فهو الشيخ الموزون ،والمريد هو حيران بن الأضعف ، وما كاد حوارهما المسجل بالكتاب ينتهى فى مسجد خرتنك ببخارى ،إلا وتزداد قناعة بأن اسم المريد (حيران بن الأضعف)حقيق بأن يستبدل ،فقد زالت حيرته فأصبحت يقيناً قائماً على معرفة ،وبأن ضعفه قد انقلب قوة تتكأ على علم لا على ظنون ، وأن الشيخ الموزون نفسه لا تفى هذه التسمية حقه وقدره ،إذ تعجب كيف أحاط بالفلسفة هذه الإحاطة ،؟وكيف طوقها هذا التطويق ؟ ثم تعود إلى الكتاب الذى لا تستطيع مفارقته البتة ،لتجد الشيخ الموزون يزداد اتزاناً وألقاً وبريقاً وتوهجاً. فى بقية الكتاب ،حتى خطف الكتاب الأبصار وأخذ بمجامع القلوب ،وأسر العقول ،وأرانا أن سحر البيان ليس مرتبطاً بمدى ً زمنى ،وأن سحرة البيان يمكنهم أن يأسروا ويسحروا القلوب والعقول الكبيرة ،وأن سحرهم لا يتوقف عند حدود أعين الناس وفقط ،ولو لم يكن من أثر سحر الكتاب وتعويذة الشيخ الجسر إلا حمل الولى الصالح والإمام الأكبر الشيخ عبدالحليم محمود رحمه الله على فرض تدريس الكتاب على طلبة الدراسات العليا بجامعة الأزهر ،لكان ذلك دليلًا على قدرة هذا الكتاب على انتزاع موقع بين فحول الكتب وفحول الكتاب ،والذين انضم إليهم الشيخ الجسر بكتابه هذا ،الذى أرجو أن تعيد دور النشر بعثه .وقد سحرنى الكتاب والكاتب فاقتنيت ثلاثين نسخة منه ووزعتهاعلى بعض الأصدقاء منذ خمس عشرة سنة ولا زلت مديناً بواحدة لأحد أكابر الأصدقاء ولكن سخاءه فى الإنظار أغرانى بالمطل ،ولازلت مديناً له بنسخة ،متى تيسر أمامى الكتاب فرأيته أديتها له. *كاتب المقال وكيل مديريه الاوقاف بالإسكندرية