ذات تعصب، قررت حكومة ألمانياالشرقية إقامة حائط عظيم يقسم خاصرة برلين نصفين ويعزل غربها ككلب أجرب عن كتلتها الشرقية. ونشطت الحكومة في رصف الكتل الخرسانية فوق تضاريس البلاد، واستطاعت إنجاز مهمة العزل عام 1961، وخرج رئيس وزرائها ليعلن في وقاحة أنه "من أجل الصالح العام" تخلت ألمانيا عن يسارها. وفي الغرب المنبت، أطلق الألمانيون على جدار الصالح العام مصطلح "جدار العار" الذي حال بين شروق الشمس وغروبها فوق ألمانيا التي كانت موحدة جدا قبل التبعية للسوفييت. وباسم الحفاظ على هوية البلاد، تحسست برلين أوجاعها في الجنبين وستارة الحديد التي تقسم جبينها نصفين، وتلوت من الألم تحت مبضع الأبناء الذين لم يرقبوا في تاريخها إلا ولا ذمة، وهي تكاد تختنق من كثرة الآهات على جانبي الجدار. لكن ستارة الحديد تلك لم تمنع المتشوفين للحرية من كلا الجانبين أو تحل بينهم وبين رغبة القفز فوق الجدر المحرمة. ولم تتمكن حكومة ألمانيا المستبدة من تنفيذ مخططها، لأن رغبة الألمان في الوحدة كانت أعظم من رغبة الكتلة الشرقية في منع التواقين إلى الحرية من القفز فوق سور الكراهية، وإن كلفهم الأمر أسمالهم وأرواحهم. وحين أشرقت شمس عام 1989، تراخت القبضة الروسية على المعسكر الشرقي، وبدأت البراكين الشعبية تتوافد نحو الجدار لتنحت بأظافرها الحديدية رمز العنصرية البغيض فتستجيب الحكومة بعدها بشهور ويعود الفارون بديمقراطيتهم إلى ذويهم من المقهورين ويسطع نجم الحرية فوق برلين الموحدة. ويوم سقط جدار العار، لم يعد هناك موطئ قدم لفلاديمير بوتين وشرطته السرية. ويومها قام الستاسي بحرق كافة الملفات المخابراتية حتى انفجر الفرن بما حوى من وثائق كانت ذات يوم ذات أهمية. يذكر بوتين ذلك اليوم المشهود بحسرة بالغة في مذكراته، وكان حتى ذلك الحين لم يتول هدم ما تبقى من روسيا الموحدة: " كانت الحشود مخيفة، ولم يرفع أحد إصبعا للدفاع عنا. يومها حرقنا كل شيء - أجهزة اتصالنا، وملفات عملائنا. وحين اتصلت بأجهزتنا هناك، أخبروني أنه ليس بإمكانهم أن يفعلوا شيئا حتى تصدر إليهم الأوامر من موسكو. ولما لم تأتهم أوامر موسكو، أدركت أن البلاد تسقط من يدنا، وأنها تتلاشى للأبد." لكن ألمانيا التي سقطت من يد روسيا يوم انهار الجدار، لم تسقط بعدها في فخ التقسيم. لأن القادمين من أقصى اليمين والزاحفين من شتات اليسار استوعبوا الدرس جيدا وأدركوا أن الصالح العام ليس في بناء الجدر أو التحدث إلى الآخر من وراء سواتر. وأدرك البرلينيون بعد ثلاثة عقود من الفرقة أن قلب الوطن ليس في الأطراف، وإن استبدت يمين أو طغت يسار. لكننا في بلادنا العربية جدا لم نقرأ الدرس الألماني جيدا، ولم نتدارس عبر التاريخ في الغابرين، لهذا نكرر بنفس الغباء نفس السيناريو الألماني، ونٓجِدُّ جميعا في بناء جدر صلدة حول خاصرة الوطن، لكنها ليست من كتل خرسانية وإن كانت تحمل العار نفسه