في هدوء ثقيل علي نفسي وبين ثنايا الليل الموحش وانا اتمدد في فراشي يُظللني ضوء خافت يشبه ذلك الضوء الأصفر الخانق الذي ينبعث من اعمدة النور في الشوارع ليخترق زجاج نافذتي .. يعتريني قلق غامض يمنعني من النوم فأتذكر أيام الصبا ورفاق الدراسة وكيف مرت وهربت من عمرنا.. اتعمق في قبور احلامي المهزومة وأتلحف بنسمات ذكرياتي الرائعة التي هبت كريح عاتية كادت أن تعصف بحاضري .. أفيق عندما أتذكر أصدقاء الجامعة – وأتألم لذلك – احاول تغييرمحطة تفكيري بالبحث عن حديث مُسلِ بالراديو لكن جميع المحطات الاذاعية مشغولة بالحرب الدائرة في منطقة الخليج فأعود من جديد صوب ذكريات الأمس … أعود لنفس الألم فأسترجع البداية منذ ان تخرجنا سويا .. كنا ستة من الشباب نحمل أمتع الذكريات وأجمل الأحلام .. أجلام مكبوتة تنتظر كالسجين لحظة الافراج وبحكم الصداقة التي ربطت بيننا كنا حريصين علي رؤية بعضنا البعض باستمرار أثناء اجازات تأدية الخدمة الوطنية .. كان كل منا يحمل حلما جميلا وهدفا يريد ان يحققه ويصل اليه … فهذا يحلم بالزواج من حبيبته ويسعي لعمل مناسب يؤهله لذلك وذاك لا يبحث عن النوعية بقدر ما يبحث عن الأسلوب في كسب وجمع المال واخر يأمل الا تطول فترة انتظاره للوظيفة الحكومية اما الاخير فكان فيلسوفا يعتبر انه من الاجحاف لنفسه ان يفكر في المستقبل من خلال حاضر لا يملك فيه هويته هكذا كانت تتعدد اللقاءات بيننا فمرة نلعب الورق ونتحدث في امور كرة القدم واحيانا نتكلم في السياسة والأدب وقد يشطح بنا الفكر الي الشيوعية واالرأسمالية واحيانا اكثر لا نجد ما نتحدث فيه فنشاهد برامج التليفزيون .. انتهت فترة التجنيد الاجباري وخرجنا نواجه الحياة بالبحث عن عمل مناسب لكن احد الكبار أصابنا بالاحباط حين قال ان الحكومة بها (تخمة) من الموظفين ولا تستطيع استيعاب كل الخريجين ونصحنا بالتوجه الي الصحراء لتعميرها بتشييد المدن الجديدة او زراعتها .. وبدأ كل منا يفكر بشئ منفرد او مختلف عن الاخر حتي اجتمعنا ذات يوم عند صديقنا نعيم ودار بيننا الحديث نعيم : ياجماعة مافيش قدامنا غير القطاع الخاص حسين : حتشتغل ايه بالقطاع الخاص ؟ مندوب مبيعات او دعاية مثلا .. تقعد تحفى علي رجليك طول النهار بالشوارع وفي الاخر يقولك الشغل بالعمولة ومافيش مرتب ؟ ولا بياع في محل ملابس او غيره ..؟ انا بصراحة ماضيعتش من عمري غشرين سنة في التعليم عشان اطلع اشتغل شغلة زي دي يونس : لو اعرف من صغري اني حدوخ كده كنت اختصرت الوقت واتعلمت صنعة وطلعت سباك ولا كهربائي او سمكري .. كان يبقا احسن كمال : انتو كده بتقللوا من قيمة الشهادة بكلامكم ده .ظروفنا كده وظروف بلدنا كده حسين : أيشمعني البنات بتلاقي شغل اوام ؟ حاجة تكسف والله ( يضحكون في خبث) رشدي : طيب ايه رايكو بالفنادق والكازينوهات ؟ محسن : احنا عاوزين حاجة نستقر فيها ونترقي ونحس اننا خدنا شهادة جامعية ولا حنعيش طول عمرنا جرسونا يونس : يبقا مافيش غير السفر ياحماعة نعيم : الدول العربية اللي ممكن نسافرها الحرب دايرة فيها وباقي الدول لازم عقد عمل وتأشيرة عشان تسافرها .. واوروبا غالية علينا كمال : ع العموم ياجماعة فكرة السفر احسن بكتير من قعادنا هنا اللي حيجيبلنا امراض نفسية .. اللي حنقدر نعمله واحنا برة في سنة مش حنقدر نعمله هنا في عشرة يونس : ياجماعة انا قرفت والله من المناقشة العقيمة دي .. كفاية بقا .. وكل واحد يسوي اموره بنفسه .. كل واحد عارف ظروفه ومصلحته فين = ورغم حالة الأسي والقسوة من كلام يونس فقد أيده الجميع ووافقوا علي ما بداخلهم من نوايا حسين : طيب يالا نخرح نشم شوية هوا ياجماعة احسن من الكلام اللي مش جايب همه ده ……… وفي الشارع وجدنا مجموعة من الفتيات يمرحن ويضحكن بصوت مسموع فصاح أحدنا : .( شايفين الحاجات اللي تستاهل الغربة ) ويبدوا ان احداهن قد سمعته فردت عليه بجرأة فقهقه الجميع بصوت عال واخذنا نمرح ونلهو وكأننا بلا اوجاع.. ومرت أسابيع ثقيلة بلا جدبد ولكن محسن ونعيم كانا قد عقدا النية على السفر الي بلاد الحرب .. ويبدو انهما اقتنعا بالفكرة وانها الخيار الوحيد لديهم … وجاء موعد السفر وذهبنا الي وداعهم متمنيين لهم التوفيق وعدنا وفي اعماقنا ان نحزو حزوهم .. اتفقنا ان نعد عدتنا ونلحق بهم ولم يكد يمر شهر الا وكنا مجتمعين هناك نحن الستة .. وجدناهم يعملون في احد المطاعم لكننا كنا متخوفين بشأن الحرب الدائرة التي تدور رحاها علي مسامعنا حتي ان العاصمة استقبلتنا بظلام دامس استمر ربع الساعة فعلق حسين ضاحكا كعادته – الظاهر اننا جينا للقضي برجلينا .. كانت تلك اول غارة تصادفنا .. وبعد يوم من عناء السفر دلنا محسن ونعيم علي الاماكن التي يمكن ان نعمل بها والحق اننا لم نفكر في نوعية العمل بقدر ماكنا مصمون علي العودة الي بلدنا بشئ عجزنا عن تحقيقه فيها … فكان الحظ حليفنا وفقنا في الحصول علي عمل بمحطة كبيرة للوقود تقع علي مقربة من البنك المركزي لهذه الدولة وتقوم بتموين الشاحنات الكبيرة وسيارات النقل الضخمة .. ومرت الايام والجميع منهمك في عمله . كان العائد المادي جيدا نستطيع ان ندخر منه مبلغا كبيرا ..فكنا راضين قانعين .. اما من ناحية المسكن فقد سمحوا لنا بالمبيت في المحطة لنقوم بدور الحراسة علي المخازن باجر مضاعف فكنا نقسم ساعات النوم بيننا ومر الشهر الخامس والامور تسير علي مايرام كنا نجتمع يوم العطلة علي احد المقاهي التي تزدحم بالمصريين كانوا يطلقون عليها (مقهي المصريين ).. وذات يوم بينما كنت عائدا في ساعة متاخرة من الليل بعد زيارة استاذ لي في الجامعة التقيت به مصادفة في العاصمة وعلمت منه انه يعمل هنا باحدي الجامعات .. كنت اسير وافكر فيه وفي السبب الذي جعله يترك اعرق الجامعات العربية والمصرية وياتي ليخاطر بنفسه وحياته معنا فوجدت انه نفس السبب الذي اتي بنا الي هنا فقلت في نفسي ( حتي استاذ الجامعة ؟؟) وقبل ان اتم الكلمة فاجأني صفير الغارة الملعونة .. صفير متقطع ينبعث بصوت حاد من احد اركان المدينة التي تحولت الي ظلام دامس. عدوت في الشارع ابحث عن ملجأ يأويني .. فلم اجد .. كنت قد اقتربت من الشارع المؤدي نهايته الي المخزن حيث الحجرة التي انام فيها والاصدقاء .. كانت السماء مظلمة حيث الشتاء المعتم وبينما كنت أتحسس الطرق باحثا عن مأوي لم اجد امامي الا مدخل احد البنايات فانزويت في ركن بمدخله والذعر يعتريني وفي لحظة سوداء كتلك الليلة اخترقت اذاني اصوات انفجارات متلاحقة كادت تصيبني بالصمم وارتج لها الخائط الذي كنت استند اليه ..استمرت لمدة عشر دقائق فقط .. اعقبها هدوء تام لكنه ثقيل ومظلم رغم عودة التيار الكهربائي .. خرجت مسرعا لأري دخان كثيف يحجب الافق والسنة من اللهب في عناق مع السحاب ويبدو مركزها محطة الوقود .. ارتجفت ذعرا وعدوت باقصي سرعتي لأطمأن علي الاصدقاء ودون ان ادري وجدتني انادي باعلي صوتي باسم كل منهم حتي وصلت اليهم .. وهناك لم اجد امامي الا الدمار والخراب الموحش وعربات لا حصر لها من الاطفاء وشاهدت طائرة عمودية فوق المحطة لم اهتم بما تفعله .. كان رجال الشرطة ينهروني بالابتعاد عن المكان فصرخت فيهم ورحت ابحث في الأنقاض .. رأيت يد تمتد لي من بين الاحجار المتراكمة وكانها تستغيث بي .. ذهبت ارفع اكوام الحجارة ومعي بعض من رجال الحماية المدنية ..لم أحتمل الموقف فكان ثلاثتهم ممدين وكانهم في عناق ابدي .. صرخت في هستيريا وشعرت بمن يحملني .. الي اين لم اكن اعلم .. كنت قد فقدت الوعي !… في صباح اليوم المشؤوم أفقت .. وجدتني بالمستشفي وبجانبي محسن ونعيم .. انهمرت الدموع من عيني وانا اتذكر كلمة حسين اول ليلة ( الظاهر اننا جينا للقضا برجلينا بكوا معي .لكن محسن كان أشجعنا وقال بصوت مجروح : – بعد غد سنعود الي مصر .. لم نأتي الي هنا سويا …. لكننا سنعود سويا