تمارس الأنظمة المختلفة في البلاد المختلفة أنواعا متباينة من الممارسات حيال المعارضين الذي يرفعون لاءاتهم فوق ولاءاتهم، ويرفضون الانخراط في مؤسسات رش الملح وحرق البخور في البلاط السلطاني. لكن أحدا لم يسبق الامبراطور بوكاسا الزعيم الأسبق لإمبراطورية إفريقيا الوسطى في تعامله الدموي وغير الأخلاقي مع المعارضة. فقد توصل الإمبراطور آكل لحوم البشر إلى طريقة مبتكرة في إسكات المعارضين لم يسبقه إليها ديكتاتور فاشي. وقد كشف رئيس الطهاة الفرنسي الذي عمل في مطبخه البشري عن تلك الممارسات أثناء محاكمة بوكاسا بعد الإطاحة به من قبل القوات الفرنسية. قال رئيس الطهاة في شهادته: "كان الإمبراطور يطلب شريحة من جسد زعيم المعارضة المحنط في ثلاجة كبيرة بالقصر البوكاسي كلما شعر بالإحباط." صحيح أن ممارسات الرجل لم تكن شاذة كلها على هذا النحو، فقد كان يمارس القتل الاعتيادي الذي مارسه الفاشيون العرب من أمثال الزعيم الملهم بشار الأسد في حق طلاب المدارس المعارضين الذين اجترأت أصواتهم الصغيرة على النيل من اسمه المقدس ذات لهو، وكان يمارس التعذيب الاعتيادي الممنهج داخل علب المعتقلات الكبريتية كما يفعل الكثيرون من أصحاب الفخامة والقداسة والعظمة والنيافة العرب. لكنه، والحق يقال، لم يأمر أحدا أن يعبده، ولم يضع جلادوه سجادات صلواتهم قرب نعاله المقدسة أو يولوا وجوههم شطره أثناء سجودهم الولائي أوالتعبدي، وهنا يجب أن نشير بأنامل الفخر إلى تفوقنا العربي في هذا المضمار القمعي. وحين تمارس الأنظمة الشمولية تلك الطقوس الدموية، فإنها تعكس ثقافة الشعوب التي وقعت في أسر التخلف والرجعية ولم تبارح أقفاص آرائها الضيقة وحقها المقدس في قمع الرأي الآخر وتلفيق التهم للمعارضين وتشويه تاريخهم وشن الحروب المقدسة دفاعا عن ذواتهم وأحزابهم ومؤسساتهم المدنية الأوتوقراطية. هو مرض معد إذن ينتقل من الشعوب إلى حكامها، ويرتد من البلاط المقدس إلى الرؤوس المغلوبة على استبدادها بالتبعية. وهكذا تتنفس البلاد القمعية القهر وتمارس الاستبداد الجماعي في طقوس فلكلورية مريبة. أما الشعوب التي تفتح رؤوسها وصفحات قلوبها للفكر الآخر وتدافع عنه حتى آخر رصاصة فهي تستحق عن جدارة حكاما ديمقراطيين لا يضيقون بلافتات الحريات وإن غطت كل الساحات وسدت كل المنافذ للقصور الجمهورية المغروزة كالخناجر في لحوم الشعوب الفقيرة. وهنا تستوقفني اللافتات الفقيرة التي تُرفع كالرماح المقلوبة في شوارعنا المتأهبة لنزال وجودي مع أي آخر. تستوقفني لافتات قمعية تطالب بالحريات فتقطع الطرق وتعطل المصالح وترهب المارة في تحد صارخ لأبجديات المنطق الذي هجر أدمغتنا الوقواقية منذ أول هتاف بالسقوط. فمنذ ذلك اليوم ونحن نطالب بالسقوط ونرفض أن نرفع حجرا على حجر. طالبنا بسقوط الأقنعة وسقوط الأنظمة وسقوط الفكر الآخر والرأي المختلف. ولا أعرف حقيقة أي شيطان أوحى لنفوسنا الطيبة أن السقوط رديف للحريات، وأن الرفعة نوع من الهمجية والرجعية والسلبية والممالأة. من أقنع السائرين في دروب الحريات أن الوقوف على قضبان الوطن وقطع شرايين الاقتصاد أقرب طريق للتطهر من أدران العبودية؟ وأي خناس صَفر في رؤوسنا الخاوية ليقنع الفكر المستقيم بالدوران غير الممنهج في ميادين الفوضى دون غاية؟ أي حرية يمكن أن تطالب بها لافتاتنا البوكاسية التي تصفق لقطاع الطرق والقاعدين حول ماكينات الإنتاج في انتظار غوردو الذي سيأتينا في ظلل من الغمام حاملا موائد الرحمن ومعونات البنوك الشيلوكية إلى بيوتنا الخربة وجيوبنا الخاوية؟ وأي معارضة تلك التي تمارس العنف اللفظي والبلطجة الفكرية على كل معتدل يقيم الأفعال لا الاتجاهات ويعارض الفكرة ولا يشخصنها؟ ما بالنا نمالئ في ديكتاتورية فكرية فجة كل من يصفق لأفكارنا الناتئة عن محيطها، ونهيل التراب فوق كل صاحب رأي مختلف لندفن أفكاره معه ثم نرفع الرفش الذي حفرنا به خنادق الأفكار مطالبين بالحريات في شيزوفرينيا كارثية؟ أخشى أن تتحول الخناجر البوكاسية التي حفرنا بها خنادقنا نحو الحرية ذات يوم إلى أسلحة قمعية نقطع بها شرائح اللحم المقدد من أجساد معارضينا الذين تمتلئ بهم ثلاجاتنا الكبيرة الممتدة فوق صدر البلاد وعجزها. وأخشى أن يتحول قطار الحريات عن مساره عنوة ليحملنا إلى مدن القمع والسحل والنفي والتشهير، فتتحول البلاد إلى منفى وتتشرد بنات الأفكار لتصبح بنات ليل تضاجع كل مصفق وكل منافق وكل طباخ يسن شفرته لتمزيق لحوم الأفكار مرة ولتمزيق لحم سيده مرتين. ليتنا نوقف الزحف المقدس نحو الديكتاتورية البوكاسية الأسدية ونبتعد قليلا عن قضبان البلاد حتى يعبر قطار الوطن إلى أي محطة وجودية حتى لا تصدق فينا الحكمة البوكاسية التي تقول: أقصر الطرق لوئد المعارضين أكلهم. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.