كان من الصعب على جون آدامز حين تولى رئاسة الولاياتالمتحدة عام 1797 أن يملأ الفراغ الذي تركه جورج واشنطن الذي بلغ حب الناس له درجة العبادة، وأضفى عليهم بعضه قداسة الإله. لهذا حين جلس آدامز يوم تنصيبه على يسار المنصة التي يجلس علي يمينها غريمه، لم يملك أن يرد طرفه عن اختلاس النظر إلى رجل احتل من الحفل مساحات لم تمنح له، ولم يدر ألتتويجه جاء الناس أم لوداع سلفه. وقد عبر آدامز عن مشاعره تلك حين قال لزوجته أبيجيل بعدها: "كأني به يهمس في أذني ويقول أنه سيخرج من البيت الأبيض لأدخله أنا لكنه حتما سيكون الأكثر سعادة." وهو بالضبط ما تكرر بتفاصيل أخرى مع هاري ترومان حين وصل إلى البيت الأبيض لممارسة مهام منصبه كخليفة لروزفلت في رئاسة أمريكا ليجد سيدة البيت الأبيض السابقة هناك تلملم ما تبقى لها من ذكريات مع زوجها الراحل. عندها تقدم ترومان من السيدة إلينور ليعرض عليها خدماته قائلا: "هل يمكنني مساعدتك يا سيدتي؟" لتجيبه بعد دقيقة من التأمل: "هل تحتاج أنت إلى المساعدة سيد ترومان؟ فأنت المتورط الآن." لكن المزهو بمنصبه لم يدرك قيمة تلك الكلمات إلا بعد سنوات من المعاناة داخل قفصه الجديد الذي أطلق عليه فيما بعد لقب السجن الأبيض. في بلاد لم تعرف أطفال الشوارع وبيوت الصفيح والخبز المعجون برؤوس المسامير والقطارات التي تنسى أرصفتها والسرطانات التي تسري في عروق الناس سريان الحليب في الضروع .. في بلاد لم تعرف المبيدات الملوثة والمدارس المعطلة للفهم والمستشفيات الناقلة للمرض والأحلام المؤجرة والأحزان المحكومة بالإقامة الجبرية داخل الضلوع والبيوت والمدن، ولم يًُدَر اقصادها من داخل محلات القمار وعلب الليل الحمراء .. في بلاد لم تعرف القهر وشوارع لم تعرف رجالا يتخلون عن ذكوريتهم طواعية تجنبا للقضايا الملفقة وركلات الأحذية الرخيصة وزوار الليل .. في بلاد لم تعرف بيع الكلى وبيع الأبناء وبيع الأجساد بأثمان بخسة .. في منتجعات لم تلوثها الرشوة والمحسوبية حكم هؤلاء. لكن هؤلاء لم يأنسوا لعروشهم ولم يبكوا عليها حين جلسوا إلى جوار خلفائهم على منصة واحدة لينظروا إليهم نظرة إشفاق. كم كان عملك شاقا يا ديجول وأنت تدير شئون شعب يتداول ثلاثمئة وخمسين نوعا من الجبن الفرنسي! وكم أنت محظوظ أيها الرئيس المصري وأنت تحكم شعبا يتداول ملايين الأحزان وينام على ملايين الأوجاع ويتداول المليارات من حبوب الترامادول كي يتحمل محنة الحياة في حاضر مؤجر ومستقبل مرتهن! لا غرو أنك ترفع رأسك عاليا الآن وأنت تدخل قصرك محملا بملايين الآمال ومشاريع الأحلام. ولا شك أنك محظوظ بعد أن ورثت تركة مخلوع أدار الأحزان بكفاءة نادرة ورَبَت الشجون في عهده حتى لم تترك وليدا في بطن أمه إلا ناله كفل منها. لك اليوم أن تفخر يا سيادة الرئيس وأنت قادم من أقصى حدود الأمل لتنبت في أول قطاعات السبع العجاف دون أن تجد يوسف المعين، وترى طريقك محفوفا بالمزالق مزروعا بالحسك والعيون المتربصة والقلوب الحانقة والخزائن الخاوية. لك الفخر وأنت تحكم شعبا حكمه الشك والتلاسن والبغضاء قبلك حتى صارت الإهانة في عرفه طرفة، والتخوين رؤية، والإشاعة ثقافة. ولك الحق كل الحق أن تفخر بقيادة شعب لن يرحم هفواتك ولن يتهاون مع زلاتك وسيحصي عليك أنفاسك ويراقب خطواتك ويسألك سؤال الملكين عن أمسك وهمسك وما طويت عليه أضلاعك. مسكين والله من يحكم بلادا حجز أشرف شبابها مقاعد للمعارضة قبل أن يتبوأ رئيسهم سدة الحكم، وتركوا له مهمة القول والفعل ليترك لهم مهمة الحساب والعقاب. أي بلاد تلك التي يتنازل مثقفوها عن الفعل ويكتفون بالمقاعد الخلفية من الحياة درءا لشبهة التزلف لساكن القصر؟ ولمن يتركه هؤلاء وهو في أشد الحاجة لرؤيتهم وتنويرهم؟ إن كان من حق هذه البلاد على رئيسها أن يزرع حياضها أمنا وحاضرها كرامة ومستقبلها أملا، فمن حق هذا الرجل على أبناء شعبه أن يقفوا إلى جواره ليثبتوه على الحق ويعينوه عليه، فإن اعوج أو تخلى قوموه. لا معارضة في شرع الأمم الناهضة يا سادة من أجل المعارضة، ولا معنى لأحزاب تقوم على التربص والتصيد والمحاسبة، ولا معنى لترك الرجل في الميدان وحده وقد آتاكم من الله موثقا. لماذا تصرون على الانسحاب إلى كهوفكم البعيدة والتخلي عن أسلاب هي لكم، ومقاعد لا تصلح لغيركم؟ تخلوا أيها الثوريون عن تحفزكم، وعودوا إلى بلادكم التي حررتموها بدمائكم الطاهرة من فئة ضالة سرقت ماضيكم وخربت حاضركم لتقيموا على أنقاض الظالمين مملكة العدل، فالمستقبل لكم والأرض لكم والله معكم ولن يتركم أعمالكم. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.