بقلم د. رفيق حاج (الذوق الرفيع والمهنية العالية يكمنان في التفاصيل الصغيرة..) أهمية الامتناع هنالك أهمية كبرى لأن نقوم بالامتناع او الابتعاد بين الفينة والاخرى عن أمور تعوّدنا على ممارستها حتى لو لم تكن لنا اية شكوى منها وحتى لو أوصلتنا الى درجات قصوى من الاستمتاع, فالامتناع عنها لفترة ما, ومن ثمّ الرجوع اليها يجعل اللذة منها تتضاعف, كالامتناع عن تناول وجبتنا المفضّلة, او مقابلة صديقنا الوفي, او سفرتنا السنوية الى الخارج أو قراءتنا اليومية للصحيفة او احتساءنا القهوة كل صباح او تدخين السجائر بعد كل وجبة. ان الامتناع عن عادات نمارسها يجعلنا نعيد تقييمها من جديد, واعادة النظر بالنسبة للأشخاص المحيطين بنا والاعمال التي نزاولها والموارد التي نستخدمها, وهذا يجعلنا نتخذ مواقف صائبة تجاهها. ان التوقف والتفكير من جديد يقودنا بشكل تلقائي الى نبذ ما فسُد من سلوكياتنا ومواصلة ما صلُح. ما أردت قوله هو ان الوتيرة الثابتة للأمور تجعلنا لا نشعر بوجودها, فأن كنا نعاني من شيء ما نمارسه فإننا نعتاد على تلك المعاناة ونبدأ نتعايش معها, وان كنا نستمتع فأننا نتعوّد على المتعة ولا نشعر بالسعادة الحقيقية. من تعلّم درسا او درسين في الفيزياء يدرك بأننا اذا سرنا في سرعة ثابتة وكنا متواجدين في وعاء مغلق كالمصعد مثلا فلن نشعر اذا كنا واقفين او صاعدين او هابطين. واذا قبعنا في غرفتنا لفترة طويلة فلن نحس بدرجة حرارتها او برائحتها إلا اذا خرجنا منها ورجعنا اليها ثانية. لطالما راودتني هواجس ان أكفّ عن كتابة مقالتي الاسبوعية ونشرها في الصحيفة, لعلّني التمس مدى تقدير قرائي لما اكتب, وان أتأكّد بأني لا اشكّل عبئاً على اسرة التحرير, فلطالما حيّرني سؤالُ "هل سيقوم قرائي بالتوجه الى الصحيفة سائلين عن انقطاعي؟", وكم من مرة فكرت ان امتنع عن تصفّح الانترنت او تفقّد البريد الالكتروني او اغلاق الهاتف النقّال أو الكفّ عن تناول العشاء او الاقلاع عن تنغيص عيش "حماتي". هل ستقوم الدنيا وتقعد اذا فعلت ذلك؟! هل أنا مدمن على هذه العادات ام اني استطيع العيش بدونها؟ وما الذي يمكن ان يحصل لو انقطعت عني؟ هل توجد لدي خطة لمجابهة انقطاع من هذا القبيل؟ من المذهل, انه حتى الاديان السماوية والوثنية على اختلافها اكتشفت اهمية الامتناع فأوصت بالصوم على انواعه. الصوم يوضّح للإنسان ما أتاه الله من خير لينعم به, ويجعله يحسّ ويتضامن مع من حُرم منه من فقراء ومحتاجين, وهو يهذّب النفس والروح. هنالك شعوب ومنظمات عالمية تعلن عن "يوم صمت" تدعو الناس فيها الى الامتناع عن الكلام. باختصار الامتناع مطلوب لنقدّر ما نحن به من خير ولنثور على ما ينغّص عيشنا ويقف حجر عثرة امام نجاحنا. الامتناع لفترة طويلة عن امور نمارسها ومن ثم الرجوع اليها يجعلنا نشعر بطعم "العذرية" من جديد. الرؤى المختلفة لطالما نسأل انفسنا كيف قام فلان من الناس بتلك الفعلة؟ او تفوه بتلك المقولة؟ او اتخذ ذاك الموقف؟ ويصيبنا ذهول واحيانا اشمئزاز واحيانا تثور حفيظتنا عليه ونُنزل به أقسى الكلام ونتهمه بأبشع التهم. من حق الناس أن ترى نفس الامور التي نراها نحن بطريقة مختلفة وعلينا احترام ذلك او على الاقل تفهّم ذلك. هنالك الكثير من الاسباب التي تجعل اراء ومواقف الآخرين مغايرة لرأينا, اولاً, ان كمية المعلومات التي بحوزتنا عن الحدث او عن الشخص الذي نحن بصدده تختلف عمّا يملكه الآخرون فمن الجائز انهم يعرفون اكثر مما نعرف ومن الجائز اننا نعرف اكثر مما يعرفون. ثانيا, ليس كل ما يبدر من الآخرين من سلوك او اعمال يعكس رأيهم الحقيقي فهنالك أسباب خفية قد لا ندركها هي التي ادت الى ذلك, فقد يكون تأييدهم لشخص معين نابعا من قيامه بمساعدتهم شخصيا او رغبة منهم باتقاء شرّه او خشية من انتقامه او شفقة عليه او أي سبب آخر. ثالثا, تختلف الناس عن بعضها البعض بنوعية القيم التي يحملونها ومستوى الثقافة والتجربة الحياتية والمهنية التي يتمتعون بها بالإضافة الى الخصائص الشخصية التي يتميز بها كل فرد منهم فهذا حاد المزاج وذاك لا مبالي وآخر وتلك جريئة "ومسحوبة من لسانها" وذلك قوي الشخصية, وآخر منافق ومحتال, فكيف يجوز ان يحمل كل هؤلاء نفس الموقف وذات الرأي؟ رابعا, هنالك العديد من الجوانب لكل حدث وكل شخص, وهنالك من يختار لأسباب متعلقة به, ان يرى جانبا واحدا ويتجاهل الجوانب الأخرى. هنالك الكثيرون ممن يرون في الشيخ نصرالله, زعيم حزب الله, بطلاً قوميا على غرار عبد الناصر او حتى صلاح الدين ومنهم من يرى به قائدا رجعيا او ارهابيا او عميلا لإيران. هل يُعقل ان نرى نفس الشخص بهذا التناقض؟ والاجابة على ذلك تتعلق بزاوية الرؤيا, وبالجانب الذي نريد رؤيته وبالآراء السياسية والقيم الاجتماعية التي نحملها. هنالك من يعارض الخدمة المدنية ويعتبرها "خيانة" للقيم القومية التي نشأنا عليه وآخرون يعتبرونها نوعا من النفاق للحكم آخرون يعتبرونها دورة استكمال للناشئين للدخول الى العالم الحقيقي والى خدمة المجتمع. أجل الخدمة المدنية تحمل جوانب عديده والسؤال الذي يطرح نفسه هو أي جانب يروق لنا ان نشاهد؟ وهنا قد تتعدد الاجابات كتعدد الجوانب وكتعدد القيم التي نحملها. قالت العرب "اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية", لكنها "قالت" ولم "تفعل". فمن ناحية فعلية لا صبر لنا ولا أناة على من يخالفنا الراي ونسارع الى اتهامه بشتى التهم والشك في أمره واستقصائه من ساحتنا او تجاهله كليا. ان التعايش مع الرأي الآخر هو ركيزة من ركائز الديمقراطية, ولولاها لصرنا قطيعا من الغنم تُقاد الى ذبحها دون ان تنبس ببنت شفه. من يخالفني الرأي ليس عدوي ولا حتى غريمي وانما خصمي وشتان الفرق بينهما. البريد الإلكتروني لكاتب المقالة: [email protected]