بقلم جلال الهجرسي النقشبندي ويروى عن السري السقطي أنه قال: "المتصوف اسم لثلاث معان: هو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه الكتاب أو السنة، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله". ويقول الإمام الرفاعي: "الصوفي هو الفقيه العامل بعلمه، وعلى هذا قالوا ما اشتهر في وصفهم: الصوفي من لبس الصوف على الصفا، وسلك طريق المصطفى، وأذاق النفس طعم الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا". وقال الجنيد: "ما أخذنا التصوف بالقال والقيل، ولكن أخذناه بالجوع والسهر وترك المألوفات والمستحسنات". فالتصوف حاصله اتصاف بالمحامد، وترك الأوصاف المذمومة مع الزهد في المأكل والملبس وقبل ذلك كله الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بأداء الفرائض واجتناب المحرمات. فالصوفية موصوفون بأنهم تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان، وهجروا الأخدان [(6)]، وساحوا في البلاد، وأجاعوا الأكباد، وأعرَوا الأجساد، وإنما ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب للضرورة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه] رواه الترمذي. وأنشدوا: (الطويل) لو كانت الدنيا جزاء لمحسنٍ إذاً لم يكن فيها معيشٌ لظالمِ لقد جاع فيها الأولياء كرامةً وقد شبعت فيها بطون البهائمِ ويقول الكلاباذي: "وعلى هذا سماهم قومٌ جوعية لأن الجوع من صفات القوم وهو من أهم أمور المجاهدة، ومخالفة النفس وغلبتها، فإن أرباب السلوك قد تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل إلا عند الضرورة وخشية الضرر، ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع، لأن الشبع يحرك شهوات الإنسان ويستثيرها، والجوع يحرك الإنسان إلى الطاعة، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك. قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [سورة البقرة]. فبشرهم بجميل الثواب في الصبر على مقاساة الجوع. قال يحيى بن معاذ: "لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره". وقال أبو سليمان الداراني: "جوع قليل وسهر قليل يقطع عنك الدنيا". واعلم أن هذا كله لمن لا يخشى على نفسه الضرر والهلاك فالمطلوب أن يأكل القدر الضروري الذي ينجيه من أن يضر نفسه ويهلكها. وقال بشر بن الحارث: "الصوفي من صفا قلبه". وقال رجل لسهل بن عبدالله التستري: "مَنْ أصحبُ طوائف الناس؟ فقال: "عليك بالصوفية، فإنهم لا يستكبرون، ولا يستكثرون". وأما تسميتهم بالصوفية فقالت طائفة: "إنما سموا صوفية لصفاء أسرارهم، ونقاء ءاثارهم". وقال آخرون: "إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،فمن باطنهم الموصوف بالصفاء ، ومن لبسهم وزيهم سموا صوفية ، لانهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لانَ ملمسه وحسن منظره، وإنما لبسوا لستر العورة، فاكتفوا بالخشن من الشعر والغليظ من الصوف". ثم هذه كلها صفة أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا غرباء فقراء مهاجرين، أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد فقالا: "يخرّون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين"، وكان لباسهم الصوف فلما كانت هذه صفة أهل الصفة في حالهم وزيهم سموا صوفية وصُفّية، وسماهم قوم فقراء، لأن أحدهم لا يملك شيئا وإن ملكَه بذله وذلك لتخليهم من الأملاك. وقال السهروردي: "بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد عهد الصحابة مَن أخذ منهم العلم سمي تابعيا، ثم لما تقادم زمان الرسالة وبَعُدَ عهدُ النبوة وانقطع الوحي السماوي، اختلفت الآراء وتنوعت الأنحاء وتفرد كل ذي رأي برأيه وكدّر شرب العلوم شوب الأهوية، وتزعزعت أبنية المتقين، واضطربت عزائم الزاهدين، وغلبت الجهالات وكثف حجابها، وكثرت العادات، وتزخرفت الدنيا وكثر خطابها، تفردت طائفة بأعمال صالحة وأحوال سنية، وصدق في العزيمة وقوة في الدين، وزهدوا في الدنيا ومحبتها ، واغتنموا العزلة والوحدة ، واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى أسوة بأهل الصفة تاركين للأسباب متبتلين إلى رب الأرباب، فأثمر لهم صالح الأعمال سنيَّ الأحوال، وتهيأ لهم صفاء الفهوم لقبول العلوم، وصار لهم بعد اللسان لسان، وبعد العرفان عرفان... فصار لهم يمقتضى ذلك علوم يعرفونها وإشارات يتعاهدونها، فحرروا لنفوسهم اصطلاحات تشير إلى معانٍ يعرفونها، وتُعرِبُ عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف عن السلف حتى صار ذلك رسما مستمرا، وخبرا مستقرا في كل عصر وزمان، فظهر هذا الاسم بينهم وتسموا به وسُموا به". ويقول الإمام الرفاعي الكبير رضي الله عنه: "قيل لهذه الطائفة الصوفية، واختلف الناس في سبب التسمية وسببها غريب لا يعرفه كثير من الفقراء، وهو أن جماعة من مضر يقال لهم بنو الصوفة، وهو الغوث بن مر بن أد بن طابخة الربيط كانت أمه لا يعيش لها ولد، فنذرت إن عاش لها ولد لتربطن برأسه صوفة وتجعله ربيط الكعبة، وكانوا يجيزون الحاج، إلى أن منَّ الله بظهور الإسلام فأسلموا وكانوا عبَّادا، ونقل عن بعضهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صحبهم سمي بالصوفي، وكذلك من صحب مَن صحبهم، أو تعبد ولبس الصوف مثلهم ينسبونه إليهم فيقال: صوفي، ونوَّع الفقراء الأسباب فمنهم من قال التصوف الصفاء، ومنهم من قال المصافاة، وغير ذلك، وكله صحيح من حيث معناه". إ.ه ويقول السهروردي في تسميتهم صوفية للبسهم الصوف: "وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق لأنه يقال: [تصوَّف] إذا لبس الصوف"، وقال: "ولما كان حالهم بين سير وطير لتقلبهم في الأحوال وارتقائهم من عالٍ إلى أعلى منه... وأبواب المزيد علما عليهم مفتوحة وبواطنهم معدن الحقائق ومجمع العلوم، فلما تعذر تقيدهم بحال تقيدهم، لتنوع وجدانهم وتجنس مزيدهم، نسبوا إلى ظاهر اللبسة، وكان ذلك أبين في الإشارة إليهم، وأدعى إلى حصر وصفهم، لأن الصوف غالبا على المتقدمين من سلفهم، وأيضا لأن حالهم حال المقربين ولما كان الاعتزاء إلى القرب أمر صعب يعز كشفه والإشارة إليه، وقعت الإشارة إلى زيهم سترا لحالهم، وغيرة على عزيز مقامهم، أن تكثر الإشارة إليه وتتداوله الألسنة، فكان هذا أقرب إلى الأدب، والادب في الظاهر والباطن والقول والفعل عماد أهل الصوفة". وفيه معنى آخر: "وهو أن نسبتهم إلى اللبسة تنبئ عن تقللهم من الدنيا، وزهدهم فيما تدعو النفس إليه بالهوى من الملبوس الناعم، حتى إن المبتدئ المريد الذي يؤثر طريقهم ويحب الدخول في أمرهم، يوطن نفسه على التقشف والتقلل، ويعلم أن المأكول أيضا من جنس الملبوس، فيدخل في طريقتهم على بصيرة، والإشارة إلى شيء من حالهم في تسميتهم أولى". وقيل: "إنهم لما ءاثروا الذبول والخمول والتواضع والإنكسار والتخفي والتواري كانوا كالخرقة الملقاة والصدفة المرمية التي لا يُرغب فيها ولا يلتفت إليها، فيقال صوفي نسبة إلى الصوفة، كما يقال كوفي نسبة إلى الكوفة، وهذا ما ذكره بعض أهل العلم والمعنى المقصود به قريب ويلائم الاشتقاق، ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمتقشفين والعباد" انتهى كلام السهروردي. وعلى هذا فإن طرق الصوفية طرق سنية، موافقة للشريعة المحمدية، وفي ذلك يقول الإمام الشعراني في كتاب لواقح الأنوار القدسية: "إياك أن تقول إن طرق الصوفية لم يأتِ بها كتاب ولا سنة فإنها أخلاق محمدية". فهاك ما ذكرناه عن أعيانهم وساداتهم ما يُظهر لك حقيقة أمرهم، ظاهرة وباطنه مما يقوي عندك اليقين انهم صفوة القوم، وما ذاك على إلا باقتدائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.