يوم جديد في منتصف الربيع، لم تمنع الشمس من السطوع سوى بعض الرياح الخماسينية، التي اتحسسها قبل وصولها للقاهرة بيوم على الأقل بسبب حساسية الجيوب الأنفية المزمنة لدي، لكنها لم تكن بشدتها المعتادة هذا اليوم فأراه يوماً جميلاً على أي حال... وكعاداتي الصباحية، أجهز القهوة المفلترة، أتصفح البريد الإلكتروني قد أجيب بعض الرسائل أو أقوم بمسحها، لم أتلقى شيئا جديدا هذا اليوم سوى الدعوة المستمرة ليوم المظاهرات في ميدان التحرير والذي تنظمه حركة كفاية، تعجبت مبتسما قائلا فعلا كفاية ومسحت الرسالة، بدأت العمل بهدوء ولا أعرف لماذا بحثت في مكتبتي الموسيقية عن أغنية لعبد الحليم، قديمة حاولت تذكرها...، لم أتذكر سوى "ملايين الشعب تدق الكعب تقول كلنا جاهزين كلنا جاهزين" ووجدت نفسي تلقائيا أردد "عدى النهار " وبدأت أحسد من عاش تلك الفترة وما قبلها بما فيها من فيض وطني وقومي، حسدت من عاشها بحلوها ومرها، وفطنت أنني لم أشارك في مظاهرة قط... لم أهتف تحيا مصر عدا في طابور المدرسة الصباحي، في الحقيقة لم أهتف بغيرها حتى وقد تجاوزت الثلاثين من عمري فقط عندما قمت بآداء العمرة لبيت وكبرت أثناء الرحلة من المدينة لمكة، تذكرت الشعور الجماعي وكيف تأثرت بطاقة الجموع في الزحام، ووددت لو اشتركت بمظاهرة ما فقط لأفجر ما بداخلي من عشق لتلك الأرض السمراء... وبدأت الفكرة تسيطر علي تماما، ولما لا؟ وكعادتي كلما تفجرت فكرة بذهني أبدأ بالتوقعات وحسابات المخاطرة وبتكوين فريق العمل، لم يأخذ الأمر طويلا، إتصلت بأحد أصدقائي وهو بالمناسبة مزيج ما بين اليساري القومي والبروتاري الساخر، وأحيانا البرجوازي المتطلع... وبحكم مكان عمله الحكومي فله علاقات بجهات أمنية!!! وطلبت منه مرافقتي غدا لحضور تلك المظاهرة حتى بدعوى "الفرجة، نشوف الناس بتعمل إيه..." لم يعترض صديقي وقال لي أنه سيبحث إرتباطاته ويعيد الإتصال بي لتأكيد الموعد... إتسعت إبتسامتي فأنا أحسن إختيار الرجال... وتركت العنان لخيالي، متخيلا لحظات من المظاهرات، وأنا أهتف مرة محمولا على الأعناق ومرة أملل على المتحدث الهتفات التي تشعل الحماس في نفوس الناس، بالطبع سألبس حذاء خفيف حتى أستطيع الهروب في الأزقة عند هجوم الأمن المركزي، وجمحت أكثر وأكثر، وتخيلت إعادة إكتشاف الشخصية الوطنية بداخلي، ورأيت نفسي المناضل السياسي من أجل غد أفضل... لا، لا يعجبني لفظ "غد أفضل" فهناك حزب يسمى الغد وأنا كمناضل حر الفكر لن أنتمي لأي إنجاه سياسي قائم تذكرت حيرة هتلر بعد تسريحه من الجيش وطرده من مدرسة الفنون الجميلة، تذكرت أيضا جوبلز ذلك العبقري... يعجبني فكر هذا الرجل جدا، رأيت نفسي في قناة الجزيرة وأنا أهاجم المطبعين والمأمركين، نظارة طبية نصفية، لا أحب إرتداء الملابس الرسمية، لكن لا مانع منها في سبيل القضية، ربما سأحتاج لتأسيس جريدة حرة أو حزب سياسي، لا لا الأحزاب ستحد من مستوى الإنتشار وستسقطني في مستنقع الصراعات، جمعية أهلية ربما هذا هو أفضل الحلول، وكلما جمحت أكثر كلما اتسعت إبتسامتي أكثر.... وقررت كتابة بيان هام يعبر عن رفضي الإنضمام لأي تيار سياسي قائم، وأنني هنا اليوم لأدافع عن حقي في توطن وطني... أعجبتي "توطن وطني" قائلا لنفسي "لأ ده كلام كبير يا أبو السباع يلزمه كوباية شاي تقيلة" وقمت لإعداد كوب الشاي والأحلام تعصف بذهني وأدندن بالأحضان يا مصانع يا مزارع... أتراجع عن فكرة المصانع والمزارع فكلها تم بيعها، خلينا في ملايين الشعب تدق الكعب أفضل فلن يتم بيع الشعب على أي حال... أعددت كوب الشاي ويذهني تدور الأفكار بسرعة تفوق سرعة الضوء ولم يفيقني سوى جرس الهاتف فأرى إسم صديقي الوطني وشريكي في الكفاح والذي سأعينه مساعدي الأول... أجبته "ها يا سيدي إيه الأخبار..." فرد "أنا كلمت الناس وكدة ومافيش مشكلة هانروح نتفرج وهانبقى معاهم على إتصال علشان لو حصل ضرب أو حاجة يعرفوا يخرجونا من المظاهرة..." تعجبت في البداية رددت عليه "أه وماله برضة كدة أحسن طيب نتقابل في التحرير على 11 كدة؟" تمام؟ تمام... سلام... سلام. أغلقت الهاتف. لا أعرف أحسست بشيء غريب، شيء ما عكر صفو الحالة الوطنية فكيف تقوم جهات أمنية عليا بتأميني في أول مظاهرة في تاريخ نضالي السياسي؟ وفكرت ماذا لو بعد عدة سنوات وبعد تربعي لمكانتي في المعترك السياسي وكنت أهاجم المطبعين والعملاء وعملاء السلطة على الهواء مباشرة وفجأة يتصل صوت من تلك الجهات الأمنية عارضا كل مكالمات ساعدي الأيمن والتي يطلب فيها تأميني في المظاهرات؟؟؟ ماذا سيكون موقفي؟ سيكون غاية في السوء سأبدو كالمعارضة الموالية لا المعارضة العميلة سأبدو خائنا لكل أتباعي السياسييين.... "هاتبقى فضيحتي بجلاجل " هكذا قلت لنفسي والجرايد تكتب بقى المناضل لامؤخذا كان متأمن... المناضل يعمل متخفيا لحساب جهة أمنية... الشعارات طلعت جوفاء.... ومش بعيد تنتهي الفضايح بأن مصطفي كامل كان يمول جريدته من الطابور الخامس البريطاني..... لم تمنعني حالة الإحباط التي أصابني بها من الإبتسام فقد إستمتعت حقا بتلك الحالة الفوارة من المشاعر الوطنية، لم أتصل به ثانية ولم أشترك بالمظاهرة ولم أصبح مناضلا وطنيا لكنني إستمتعت لم أقرب كوب الشاي وعدت لأدندن بالأحضان يا مصانع يا مزارع حاسدا من عاش تلك الفترة وما قبلها. من يوميات حمار من مصر