بقلم د. حسام الامير برجاء قراءة مقال (لم يصبه الدور) أولا. ضجيج عال، لا يستطيع تبين مصدره ولا معناه، وحرقة شديدة في العينين والأنف والصدر، بالكاد يستطيع البدء في الشهيق، ثم يتوقف من فرط الألم والرغبة في السعال. يحاول أن يتغلب على ألمه بالانشغال عنه، يبدأ في تذكر الأحداث التي مرت من ليل أمس إلى الآن، يتحدث بعض الناس أمامه عن أعمال شغب في مباراة الأهلي والمصري، لم يكن يعلم أن الأهلي يلعب مباراة في بورسعيد الآن فقد هجر الكرة إلى الأبد، ما شده في الحوار أن الأحداث تفوق وصف شغب الملاعب العادي، فالناس تتحدث عن قتلى بالعشرات، وغياب للأمن تماما! يأتيه طبيب المستشفى الميداني، يعاين الإصابة التي لحقت به جراء اصطدام قنبلة غاز بجانبه الأيمن قبل أن تسقط بجواره ويضطر لالتقاطها وارجاعها لمن قذفوها، هذه الثواني المعدودة كانت كافية لغزو الغاز المتدفق لعينيه وجهازه التنفسي، ليسقط غائبا عن الوعي جزئيا ويحمله شخصان إلى المستشفى الميداني، الآن يطمئنه الطبيب أنها كدمة سطحية، وأن أنفاسه ستتحسن بعد أخذه جلسة على الجهاز المزود بمحلول موسع للشعب، وأعطاه حقنة كورتيزون، ثم تركه يكمل الجلسة، أما هو فبدأ يستكمل استرجاع أحداث ما بعد المباراة. تأكد مما سمعه من أخبار وتحليلات أن ما حدث مكيدة دبرها الأمن، لا يهمه معرفة الدافع ولا المكسب الذي يريدانه العسكر والداخلية، ما يهمه أن جثامين أكثر من سبعين ضحية ستصل إلى محطة مصر، وحيثما وجدت أسر الضحايا وجب عليه الوجود، طلبا للبركة أو الغفران لعجزه عن نصرتهم، لم يشغل باله لفهم أسباب أفعاله، فقد أصبح منساقا منذ أن أشار له صاحب الوجه المريح باتباعه، وها هو وسط الجموع يستقبل الضحايا، ويودع من سيلحقون بهم قريبا، فقد رأى صاحب الوجه المريح على وجوه عدد من أصدقاء الضحايا، هل حان دوره؟ يذهب ليرى انعكاس صورته على زجاج أحد الأبواب، فيصيبه الإحباط عندما يرى وجهه بدلا عن الوجه المريح، يوقن أن دوره لم يأت بعد، وأن قدره أن يرى دماء غيره تسيل غدا في مسيرات المتظاهرين. (عامل أيه دلوقتي؟ كويس؟) يفتح عينيه المحترقتين من أثر الغاز على صوت الطبيب الذي يطمئن عليه، يهز رأسه بالإيجاب، يستمع الطبيب لصوت أنفاسه التي تدخل وتخرج من صدره بصفير مزعج ثم يقول:(لسه شويه، صدرك تعبان، إنت تخلص الجلسه وبعدها تروح على طول، مش عايزين نخسرك النهاردة) يبتسم قليلا وهو يغمض عينيه، فهو يعلم أنه لن ينفذ نصيحة الطبيب، مثلما يعلم أنه لن يصاب بأذى، فدوره لم يحن. (ولاد الكلب بيضربوا خرطوش جامد، وفي واحد عينه اتصفت) صرخ بها أحدهم خارج المستشفى الميداني، صوته كان واضحا من بين كل الضجيج الذي يلف حوله وكأنما هذا الكلام موجه له، نزع كمامة الجلسة التي يتعاطاها وخرج متجها إلى منطقة المواجهة، ما زال أثر الغاز يهيج عينيه فلا يستطيع فتحهما تماما، يمشي متحاملا على ألمه متفاديا بقايا الحجارة وتجمعات الماء على الأرض، هذا المنظر لم يعتده في مصر إلا بعد تولي العسكر للحكم، فحول مصر إلى ساحات قتال، يقترب من خط المواجهة فيزيد تدفق الهرمونات في دمه، ويقل إحساسه بالألم، للحظة أحس أنه استعاد عافيته، ويمد خطوته ليمر فوق تجمع الماء مسرعا نحو إنقاذ زملائه، بعد عدة خطوات يتوقف فجأة، ويعود مسرعا إلى تجمع الماء، ينظر إلى صورته المنعكسة على سطح الماء، لا يدري لماذا خيل إليه أنه رأى صاحب الوجه المريح، يرفع عينيه إلى مصدر الصوت الذي أتاه محذرا، كان الوجه الذي تمنى دوما أن يراه على انعكاس صورته، نفس الوجه الذي ألفه في كل المظاهرات والاعتصامات التي انتهت بضحايا، نفس الوجه الذي لم يكلمه طوال عام منذ أن طمأنه أنه لن يصيبه سوء، الآن فقط يراه صارخا(حاسب...هيضربوا تاني)، حرقة شديدة يحسها في منتصف صدره من الخلف، يسقط على ركبتيه، ثم يسقط على وجهه وهو متألم. كم من الوقت مضى بعد سقوطه، لا يعلم، فجأة أصبح يرى من حوله بوضوح، ويسمع أصواتهم جميعا بوضوح، إنهم يحاولون إسعافه، فجأة أصبح يتذكر حياته التي عجز عن تذكرها منذ جمعة الغضب، يتذكرها كما يراها النائم في الحلم، يراها واضحة بكل تفاصيلها، كأنما يعيشها مرة أخرى، أول يوم في المدرسة، أول علقة من والده بعد أن لعب الكرة في الشارع حافيا، فرحة أمه به يوم نجح بمجموع كبير في الإعدادية وكاد الأعادي، صدمتها يوم أن علمت أنه ضبط في المدرسة يدخن السجائر، اسوداد الدنيا في عينيه يوم وفاة والده، أوامر أمه أن يحلق لحيته ويبتعد عن (الجماعة بتوع المسجد)، عزاء جاره الذي ذهب للعمرة ولم يكن يعرف السباحة، احتفالات إحراز كأس الأمم في عباس العقاد، رجاء أمه أن يقر عينها بحفيد قبل أن تموت، خناقات أختيه مع زوجيهما وأولادهما، إحساسه أنه كمالة عدد في بلد العدد فيها موضع انتقاد، صلاته يوم جمعة الغضب، معاناته طول عام أنه لم ينل شرف الإصابة أو الاستشهاد، خيبة أمله في من يتكلمون باسم الشعب من التيارات والأحزاب، إيمانه أن حرية هذا الوطن تكتب بدماء الشهداء، الآن يرى وجوه كل من ماتوا أمامه، مازال من يحاولون إسعافه يبذلون كل الجهد، الآن أصبح يسمع نقاشات لجان البرلمان، ويسمع خفقان قلب أمه قلقا على نزوله، ويسمع صوت حذاء عسكري يصطدم بالأرض مؤديا التحية متبوعا بجملة (تمام يا فندم...كله تمام). (خلاص مفيش فايدة ما تحاولوش...دوري جه خلاص) قالها أكثر من مرة لمن يسعفونه ولكن صوته لم يخرج، ما عاد يحس بألم، أيقن أن دوره قد حان ليصبح رقما في قائمة الشهداء التي لا نهاية لها، وأن وجهه سيصبح مألوفا لمن حذره قبل إصابته القاتلة، سيظل يتمثل في أوجه الشهداء الذين سيراهم من حذره حتى يحين دروه، تماما كما كان صاحب الوجه المريح يتمثل أمامه في أوجه من شهد قتلهم، ابتسم مسلما روحه، أخيرا تم استدعاؤه.