لا يزال الحديث بين الشرق والغرب يسوده التراشق التاريخي المجسد للعقدة الأبدية التي استحال على الدهور والأزمان حلها وتصفيتها، فلا تزال رواسب الماضي تتحكم في مقدرات الحاضر وترسم خطى المستقبل، إذ تطورت وضعية الإرهاب المعاصر إلى محيط الفكر الدائري الذي لا يُعرف من أين يبدأ وإلى ما ينتهي، من ثم تكون له استمرارية مؤرقة تمثل أحد أهم إفرازات الجحيم الحضاري التي تعايشها الكتلة البشرية بفعل ذلك التكنيك الجبار الذي يغافل الآخر ويخترقه من دون أدنى مؤشرات أو تكهنات يمكن الاحتكام إليها، حتى صار الإرهاب ثقافة وفلسفة كونية أكثر منه سياسة واستراتيجية لا عصمة لدولة من غوائله. ولعل المد الإرهابي المقيت الذي بلغ قلب عاصمة النور لم يكن بدعاً من تلك الموجات الإرهابية التي طاولت دولاً وكيانات عدة من قبل بالشكل الذي يؤكد أنها صارت صناعة رفيعة محكمة تنطوي على أسرار عليا. صناعة دائماً ما يغيب فيها الفاعل ويتجلى المفعول به، باعتبار أنها ذات طابع زئبقي له شفرات لولبية يستحيل معها أي يقين سياسي أو استراتيجي، لكن الثابت أنها تمثل الميكانيزم الفاعل في إلصاق الاتهامات بعقيدة أو بوطن أو بفكر أو بأشخاص توطئة للاشتباك السياسي والديبلوماسي والاستراتيجي الذي يستطيل عهده حتى يبلغ مراميه. فإذا كانت المتوالية الإرهابية قد مثَّلت مأزقاً حاداً للعالم المعاصر، فلماذا غابت الاستراتيجية الكونية عن مجابهتها والتصدي لها؟ ولماذا لم يتم تفعيل منظومة الفكر التقدمي النزيه في تفكيك الشفرة الإرهابية؟ إن الحقيقة تكمن في أن طغيان المصالح الكبرى يتجاوز كثيراً حصاد الأرواح وتدمير الدول وإبادتها وأن تسوية المصالح السياسية المتضادة ليست لها إلا معالجة واحدة تبدأ بنيران العمليات الإرهابية، وأن هذه العمليات إنما تمثل إيجابية عظمى في تطويعها واستخدامها لإحداث وقيعة بين التكتلات السياسية، وهو ما يمثل إعلاء المصالح السلبية ويكرس منطق الأنانية السياسية ومدى تناقضية المركزية الحضارية مع الفعل الإرهابي. وعموماً، فالإرهاب صار آلية شيطانية معاصرة محققة للاستفادة والاستثمار والتوظيف على أصعدة عدة وهو ما أعجز بالضرورة الكثير من الساسة وأرباب الفكر في تفسير بلوغ مدى التدني والانحطاط السياسي والاستراتيجي الذي أغرق مجتمعات الحداثة وما بعد الحداثة والمجتمعات العولمية. وإذا كانت فرنسا مكلفة بتمثيل قضية البشرية كما قال أرنست لافيس، فإنها أغفلت بُعداً حضارياً لشخصيتها تجلى في عدم احترام مقدسات الآخر العربي الإسلامي حين انبرت آلتها الإعلامية في نشر الرسوم المسيئة التي أهانت مشاعر الشعوب الإسلامية كافة. ولعل ذلك لا يمثل تبريراً للفعل الشائن بالاعتداء والقتل لفريق «شارلي إيبدو» قدر ما يمثل انتقاصاً كبيراً من القيمة الفكرية والثقافية والحضارية لفرنسا ذاتها. لكن الجدير بالالتفات والفطنة أن قضية فرنسا الآن ليست مع الإسلام أو المسلمين، وإنما مع ذلك التنظيم المختلق المسمى داعش، فهي أول العارفين بسراديب السياسة العالمية وبخلفيات ذلك التنظيم وأهدافه وتكوينه المؤسسي وإيديولوجيته وتمويله وبتلك اليد الخفية المحركة له، وأن كيانات غربية بذاتها تخلق خلايا إرهابية تعاديها لتحشد الغرب كلية معها، وذلك هو أحد الفخاخ التي كانت فرنسا ضحيتها. لذا فقد توعدت بالانتقام الشرس ليس من هذا التنظيم تحديداً وإنما مما يحمله من هوية زائفة وادعاءات لا علاقة لها بالحقيقة. فما جريرة العالم الإسلامي في وجود تلك الخلايا الشريرة الآثمة التي فتكت به قبل أن تفتك بالآخر الغربي؟ أليست أبجديات المنطق هي التي تسول للعقل اليقظ أن «داعش» هو اللاعب الغربي الذي يشهر الإسلام على نحوٍ ما ليستعدي الآخرين عليه؟ وهل كان ظهور «داعش» بعد الثورات العربية إلا التقاء مع محاور المخطط الغربي لتفتيت المنطقة العربية وتقسيمها على أسس مذهبية وطائفية؟ ولماذا توانى الغرب في إبادة «داعش» إذا لم تكن محققة بالفعل لنوازعه وأهدافه؟ وكيف يستقيم لفرنسا أن «داعش» هو الممثل الشرعي للجماعة الإسلامية وهو ملفوظ عربياً وإسلامياً؟ وكذلك كيف يستقيم لفرنسا أن «داعش» هو الممثل الشرعي للجماعة الإسلامية وهي تعد من أكثر الدول إسهاماً في الحركة الاستشراقية التي كشفت عن البؤر المضيئة للإسلام واعتباره عقيدة مستقبلية تدعو لتحرر الإنسان؟ إن العمل الإرهابي في أي بقعة من الأرض يعد جريمة أخلاقية لا إنسانية وأن الإنسان المعاصر لا بد وأن يستحي من ممارستها، ذلك إذا أشيعت ثقافة قبول الآخر التي يروج لها الغرب من دون أن يسعى إلى تكريس بنيتها في روح القرن، وكذلك ثقافة حقوق الإنسان بكل معانيها الحاضرة والغائبة والديموقراطية الكونية المكرسة لحق الآخر في الحياة والكرامة والسعادة والحرية والمساواة والإخاء والتآلف، لكن المجتمع المعاصر الذي ارتقى بالأدوات درجة تبلغ الجنون المعلوماتي لم يستطع أن يتحضر وأبى إلا أن تكون شريعة الغاب هي عقيدته المثلى. لكن إذا كانت فرنسا كما قيل هي فكرة ضرورية للحضارة، فإنها يجب أن تحصن اللحظة التاريخية الراهنة بكل المعطيات الثقافية والمعرفية والفلسفية وأن تنأى بذاتها عن الرعونة والاستفزازات الساذجة في محاولة ربما تبدو يائسة لخلق مجتمع إنساني هجرته معاني الفضيلة! نقلا عن صحيفة الحياة