كل مناطق مصر تفرح بالعيد، وتسعد بقدومه ما عدا بقعة واحدة في قلب القاهرة.. بقعة تخاف من العيد، وتعيش أيامه في عذاب. سور مجري العيون، تلك المنطقة الأثرية ذات التاريخ العريق، والتي تحتضن مستشفيات عديدة ومراكز حيوية كثيرة، تتحول أيام العيد فيها إلي قطعة من العذاب، فطوال تلك الأيام يتحول شارع مجري العيون إلي بركة من الدم والجلود والروائح الخانقة والبكتيريا التي توزع السرطان والأمراض الصدرية علي سكان الشارع والمارين فيه. ورغم التاريخ الأثري لسور مجرى العيون الذي يرجع إلي عهد صلاح الدين الأيوبي خلال توليه الحكم من عام 565 إلى عام 589 هجرية، ووقتها كان مجرى مائياً ينقل الماء من نهر النيل إلى قلعة صلاح الدين بالقاهرة القديمة، لكن السور الأثري أصبح مرتعاً للدباغين وللروائح الكريهة والدم. ولا ترجع أهمية شارع مجري العيون لتاريخه الأثري فقط بل لوجود أماكن حيوية لا تقل أهمية عن تاريخه وهي مستشفي سرطان الأطفال 57357 والمعهد القومي للأورام الواقع بمنطقة فم الخليج الملاصقة للشارع علاوة علي المعهد القومي للأبحاث الأمراض المتوطنة والكبد، وجميعهم يطلون علي كوارث بلا حصر طوال أيام العيد. فخلال تلك الأيام يمتلئ الشارع بالجلود التي تفوح منها الروائح الكريهة التي تزعج المارة والسكان بالمنطقة وتفرض عليهم ضرورة التأقلم مع رائحة التعفن التي تزكم الأنوف، فالهواء هناك محمل بالكيماويات التي تستخدم في نقع الجلود الحية التي بدورها توزع على الجميع أمراض السرطان والصدر وتهدد كل من يقترب منها بالحروق الجلدية. ومع أن الحكومات المتعاقبة منذ حكومة عاطف عبيد وضعت خططاً لإزالة المدابغ، كما أن رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب أصدر قراراً بنقل المدابغ إلى منطقة الروبيكي بمدينة بدر، فإن الدولة عاجزة حتي الآن عن نقل هذه المدابغ من هذا الشارع الحيوي. والغريب أن بائعى الجلود فى سور مجرى العيون لا يشعرون بأنهم ينغصون حياة آلاف المصريين المقيمين على جانبى الشارع أو حتى المارين فيه، الأمر الوحيد الذى يشكو منه بائعو الجلود هناك هو انخفاض الأسعار! ياسر الطماوي، أحد الدباغين الذين يشترون الجلود من المجازر لبيعها في سور مجرى العيون يقول: «إن أسعار الجلود انخفضت هذه السنة مقارنة بالسنة الماضية فوصل سعر جلد الخروف إلي 5 جنيهات بعدما كان ب 20 و30 جنيهاً، وجلد البقر ب150 جنيهاً بعدما كان 300 جنيه، وبرر انخفاض أسعار الجلود لقلة عمليات الذبح هذا الموسم بسب ارتفاع اسعار اللحوم. وأكد علي عكاشة الذي يعمل «دباغ» أيام عيد الأضحي ويترك مهنته وهي المحاماة: «أن مهنة الدباغة ورثها عن والده مشيراً إلى أن مهنة الدباغة لا يدخلها غريب، وأن الكل يرثها عن أجداده. وعن مواسم رواج بيع الجلود في مصر، يقول محمود محمد صاحب مدبغة: «إن أكبر موسمين في العام هما شهر رمضان – فإنتاجه من الجلود يغطي 3 أعياد من الذبح - وعيد الأضحي، ثم عيد الفطر وعاشوراء ومولد النبي، إلى جانب أعياد الأقباط. مراحل صناعة الجلود قال فرج سيد، صاحب إحدي المدابغ بشارع مجري العيون، «إن الدباغة تمر بعدة مراحل، أولها جلب الجلود من السلخانة بعد ذبح الحيوانات، ثم يوضع الجلد في ملح طعام عادى»، تبدأ المرحلة الثانية في دباغة الجلود، بوضع الجلود المملحة في براميل من الجير الذي يزيل الشعر من الجلد، ثم يشطف الجلد بالماء، وفي مرحلة الجير ينقع الجلد داخل البرميل لمدة 16 ساعة للجلد البقري، أما الجاموسي فيوضع لمدة 24 ساعة». وتأتي مرحلة التحنيط حيث ينقع الجلد في ماء النار وملح نشادر وملح صناعي. وأضاف: «الجلد يوضع عليه مادة الكروم والتي تعطي له لوناً أخضر، وبعد هذه المرحلة يدخل في مرحلة تلوينه، مشيراً إلى أن غالبية الجلود يتم صبغها باللون الأسود، قائلاً إن المرحلة الأخيرة هي التي يتم فيها إرسال الجلد للورش لصناعة المنتجات الجلدية مثل الجواكت والأحذية. وأكد أحمد أبو المحاسن صاحب إحدي المدابغ: «إن كل مرحلة من مراحل صناعة الجلود تحتاج آلات خاصة يتم استيرادها من الخارج بأعلي الأسعار، مشيراً إلي أن هذه المهنة تحمل خطورة بالغة فمن الوارد إصابة أحد العاملين بالأمراض أو قد تلتهم الآلة أصابعه. وقال: يتم تحويل جلود الحيوانات إلي منتجات من الجلد الطبيعي بين حقائب ومعاطف وأحذية وحافظة نقود وأحزمة. وهناك منتجات تتم صناعتها خصيصاً وفقاً لرغبات الزبائن حيث يحرص بعضهم على أن تحمل بعض المنتجات الجلدية رموزاً تراثية وتاريخية من مراحل الحضارة الفرعونية والإسلامية والرومانية في مصر، ويتفنن الصناع بنقشها على الجلود لتحاكي ذلك الإرث التاريخي. أضرار تتعدد الأضرار الناجمة عن انتشار الجلود بشارع مجري العيون سواء من الناحية النفسية أو الصحة، فعلي مدار ال24 الضجيج ينتشر في كل مكان علاوة علي الغازات السامة الناتجة عن المواد الكيماوية التي تستخدم في صناعة الجلود والتي تضر بصحة المواطنين. وقال دكتور شريف أبوالنجا مدير مستشفي سرطان الأطفال 57357: «إن أبرز الأضرار الناجمة عن انتشار جلود الأضاحي بشارع مجري العيون المنظر المقزز الذي يلوث البيئة ويؤذي العين، مؤكداً أن حويصلات الأضاحي يتجمع داخلها العديد من الفطريات التي تنقل الأمراض للمواطنين، علاوة علي الكمياويات التي تستخدم في صناعة الجلود والتي تؤثر بشكل كبير علي صحة الإنسان، مشيراً إلي أن أطفال المستشفي هم أول ضحايا هذه الأمراض الناجمة عن جلود الأضاحي لمناعتهم الضعيفة. وأكد محمد لطيف عميد المعهد القومي لأبحاث الأمراض المتوطنة والكبد: «أن تراكم النفايات الناجمة عن انتشار جلود الأضاحي بمنطقة فم الخليج والمقابلة مباشرة للمعهد تؤذي صحة الإنسان وتصيبه بالعديد من الأمراض بسبب الفطريات والبكتيريا المتراكمة علي الجلود، مشيراً إلي أنه بجانب الأمراض التي تنقل للإنسان فالمنطقة أصبحت غير حضارية ولا تصلح للحياة الآدمية. ضحايا ولم تقتصر الأضرار علي السكان المقيمين بمناطق تمركز المدابغ في الشارع ولكن تمتد لتشمل العاملين بالمهنة وخاصة الأطفال الذين تعودوا هم الآخرون علي حياة حُرموا فيها من كل شيء، فهؤلاء الأطفال تتراوح أعمارهم بين 51 و81 عاماً.. أغلبهم توارث المهنة عن أبيه، وقال «محمد زكي «61 عاماً»: «إنه يعمل بهذه المهنة لمساندة أسرته بعدما فقد والده بصره نتيجة تطاير الأدخنة من الدباغة بشكل مستمر، مؤكداً أنه يعاني الآن من مرض حساسية في عينه ولكنه لا سبيل لديه إلا العمل بهذه المهنة لإعالة أسرته فهو لا يجيد مهنة غيرها. وذكر «مصطفي مسعد» (15 عاماً) : «إنه يكره كثيراً العمل بالمدابغ حيث تملؤها القمامة والحشرات ولكن والده أجبره علي العمل بهذه المهنة. وقال أحمد شكرى، صاحب مدبغة: «إن مهنة الدباغة صعبة للغاية والعاملين بها معرضون يتعرضون للكثير من المخاطر لاستخدامهم المواد الكيماوية تدخل في صناعة القنابل النووية، لتحويل الجلد إلي مادة صلبة تستطيع التحكم فيها. مهنة الدباغة وخلف سور مجري العيون، توجد ورش صغيرة وكبيرة ومصانع دباغة قديمة، توارث أصحابها عن أجدادهم، فيوجد بالمنطقة قرابة ال 700 مدبغة علي مساحة 56 فداناً تنتج 57٪ من الجلود التي تعتمد عليها صناعة الأحذية والمنتجات الجلدية. ولا تقتصر الأضرار الواقعة علي العاملين بمهنة الدباغة علي الأضرار الصحية أو النفسية فقط، فهناك أسر كاملة تعمل بهذه المهنة دون أى تأمينات أو معاشات أو وضع مستقر للعامل الذى يتعرض إلى إصابات عمل دون تعويض. وعن أجور العمال، قال صبحي أحمد صاحب إحدي المدابغ: «إن أجر العمال بالإنتاج عن كل قطعة 2 جنيه، وحسب إنتاجه في اليوم، وهناك عمال ماكينات أعلى، وهناك عمال يومية يحصلون على ما بين 50 -100 جنيه يوميًا. مدينة الروبيكي ورغم تأكيدات الدكتور جلال مصطفى سعيد، محافظ القاهرة أنه جار تنفيذ مدينة الجلود الجديدة بالروبيكى، بإشراف هيئة التنمية الصناعية، حيث انتهت مرحلتها الأولى بنسبة 80% ويمكن نقل المدابغ إليها وإخلاء المنطقة الحالية وتطويرها بحيث تتناسب فى وضعها الجديد ووجودها فى منطقة من أهم المناطق التراثية فى مصر وخلف سور مجرى العيون، وكذلك القضاء على مظاهر التلوث البيئى بأنواعه وإنقاذ نهر النيل من نواتج عملية الصباغة البدائية التى تتم بالمنطقة بالإضافة إلى تطوير صناعة الجلود فى مصر بشكل عام بإنشاء مجمع صناعى متكامل لهذا الغرض، فإن عملية النقل هذه لا تزال تواجه رفضاً عارماً من العاملين بصناعة الدباغة علي قرار النقل. وعن أسباب رفض أصحاب المدابغ نقلهم إلي مشروع الروبيكي بمدينة بدر علي بعد 54 كيلو متراً من القاهرة علي طريق القاهرة - السويس، قال أحمد رفعت «صاحب مدبغ»: «لابد أن يحصل علي نفس المساحة التي شيدوا عليها مصانعهم كي يتمكنوا من تطوير مهنتهم، وأضاف «محمد خيرت» صاحب إحدي المدابغ، «إحنا موافقين علي قرار النقل، ولكن منطقة الروبيكي غير مجهزة لنقل المدابغ إليها؛ فمساحتها أقل من المساحة المطلوبة، متسائلاً كيف أنقل إلي مساحة أقل لا تسع حتي عدد الماكينات التي نعمل بها، فأنا بحاجة إلي5 أضعاف المساحة كي أطور من شغلي ويجعلني أنقل بكل ثقة، كما أنني عندما أريد شراء ماكينة جديدة أبني لها دوراً جديداً، لكن في الروبيكي لن يُسمح بذلك»، مطالباً بإعادة تقييم مساحة الأراضي خاصةً أن «الروبيكي» بعيدة عن المنطقة السكنية. وعن مدة نقل المدابغ، قال محمد أمين: «إن عمليه نقل المدابغ إلي منطقة الروبيكي ستحتاج علي الأقل 3 سنوات لنقلها علي مراحل كثيرة، مؤكداً أنه في حال توقف صناعة الجلود في هذه المدة ستواجه مصر مشاكل جمة وهي انتشار أمراض الطاعون والملاريا نتيجة تعفن الجلود، علاوة علي الأضرار التي ستلحق بالمهن الأخري المعتمدة عليها كالمجازر ومحلات الأحذية والحلويات والأدوية، والعاملين بها حيث يقدر عدد العاملين بمهنة الدباغة بحوالي 80 ألف عامل. وعن المشاكل التى يتوقعها أصحاب المدابغ فى منطقة الروبيكى، يقول حسن محمد: «قرار النقل لم يراع المستأجرين ولم يحدد أوضاعهم بعد النقل، فكل ما سنحصل عليه تعويض صغير، كما أننا نحصل على الجلود مباشرة من السلخانة وفى ظل ابتعاد منطقة الروبيكى من الممكن أن يصاب الجلد ببكتيريا تؤثر على جودته والصناعة وعملنا يعتمد على البيع بالأجل وكثير من معارض ومحلات الجلود أغلقت أبوابها، وفى الشهر ننتج 120 قطعة نظراً للظروف الاقتصادية، فالديون زادت علينا كما أن مشاكل الصرف الصحى ونقص الخدمات وانقطاع التيار الكهربائى أدت إلى تلف بعض البراميل فى المدبغة مما يؤثر سلباً على الإنتاج، ليس فى مدبغتنا وحدها لكن فى جميع الورش».