للفقر في هذا البلد تاريخ يستحق أن يُقرأ بتدبر، لا لأثره العميق في طبائع المصريين أو في علاقتهم المركبة بالدولة في كل عصورها فحسب، وإنما أيضا للدروس المهمة التي يحفل بها وتشكل في مجملها مفاتيح إجابة عن أسئلة ملحة تتصل بالحاضر والمستقبل، منها مثلا: كيف تأمن السلطة تداعيات هذا الوجع الاجتماعي المزمن؟، ومتى بالضبط يتجرأ ضحايا الفقر على كسر طوق الصبر فيثوروا أو يلتحقوا بتيارات الفوضى العاصفة؟، ثم: إلي أي مدى يمكن للقمة العيش أن تبعد البسطاء عن السياسة أو على الأقل تجعلهم يغضون الطرف عن عيوبها؟. يقول التاريخ إن الفقر، وليس العدو الخارجي ولا الصراع على السلطة ولا حتى الفتنة الطائفية، هو التهديد الأكبر للوجود المصري، فبسببه انهارت عروش وهلكت حكومات وتعرضت الدولة نفسها للخراب والعجز .حدث ذلك في مصر القديمة، عندما خرج الجياع على آخر ملوك الأسرة السادسة بيبي الثاني فأسقطوه وانتقموا منه بمحو كل أثر لحكمه. وحدث أيضاً مع الدولة الطولونية التي عجز آخر حكامها عن مواجهة غلاء الأسعار وتلبية حاجات الشعب، فثار عليه الفقراء وألزموه بالنهاية التي قرروها. ولم تكن الدولة الإخشيدية أفضل حالا، إذ دفع ما يسميه المؤرخون «الغلاء العظيم» بالناس إلي أكل الجيف والكلاب، فلما زاد عليهم البلاء كانوا يسقطون موتى من الجوع الذي اقترن بوباء مهلك، أجبرهم على دفن الجثث بشكل جماعي من غير صلاة ولا غسل ولا كفن، ثم تفاقم الأمر فألقيت الجثث في النيل. يدل التاريخ نفسه على أن الاستقواء على الفقر بالغلظة يؤدي غالبا إلي كارثة وطنية، كتلك التي حلت بالدولة الفاطمية عندما استجار الخليفة المستنصر الذي اقترن اسمه بشدة اقتصادية ضارية، بوالي عكا بدر الجمالي كي يعيد له سيطرته على شعب وصل به الجوع حد أكل الكلاب والقطط، ثم لحوم البشر، فما كان من الأخير بعد أن حقق مهمته عبر إراقة الدماء في شوارع المحروسة، إلا أن سلب الخليفة سلطانه وأصبح، وكذا أبناؤه من بعده، قوة طغيان جديدة، لم يحتملها المصريون فعادت الفتن ومعها تدخل الأيوبيون الذين تمكنوا في بحر سنوات من إلقاء الفاطميين خارج التاريخ. عكس ذلك، فعله الظاهر بيبرس رابع حكام دولة المماليك عندما ضربت المجاعة أهل القاهرة، إذ قرر جمع فقراء العاصمة، الذين كانوا يهيمون في شوارعها بحثا عن كسرة خبز، بمكان واحد، وأخذ يوزع عليهم – كل يوم - ما يكفي إعاشتهم، ثم قام بفتح مخازن الغلال الخاصة بالدولة للعوام يأخذون منها ما يسد حاجاتهم. يقول المؤرخون إن بيبرس أنقذ بصنيعه حياة الآلاف الذين كانوا على وشك الموت جوعاً، ثم يضيفون أن تلك اللحظة الإنسانية كانت فاتحة خير للشعب وقائده، إذ استعادت مصر حالة الرخاء وعاش أهلها عقودا طويلة في استقرار وأمن، بينما حقق الملك المظفر العديد من الانتصارات المدوية فتمكن من السيطرة على حصن الكرك الذي ظل عصيا على أسلافه، بما في ذلك صلاح الدين الأيوبي، وتوسع في بلاد الشام، فأخضع قيسارية (فلسطين)، ثم دمشق فأرمينيا وبغداد، مستعيدا بذلك ذكرى رمسيس الثاني باني أعظم إمبراطورية مصرية على مر التاريخ. على أن هذا المثل بكل دلالاته الفاقعة، لا يروق للاتجاهات الغالبة في السياسة المعاصرة التي تميل إما إلي التعامي عن شراسة الفقر بداعي مواجهة الأهم أو إلي تسكين أوجاعه بوعود براقة تقدمها نظرية « تساقط الثمار» الشهيرة. وفي الحالتين يتوافر للمؤيدين الحجة، فالبعض يلجأ للمؤشرات الاقتصادية المخيفة ليؤكد أن الموازنة العامة لا تحتمل عبء إعالة الفقراء، بينما يستدعي آخرون الحكمة الصينية القائلة: «علمني الصيد ولا تعطني سمكة» ليضفوا وجاهة مفتعلة على تعاملهم الجاف مع الأوضاع المذرية التي يحياها أكثر من ثلث المصريين، رغم أنها تمثل – حسب تقدير مفكر مرموق كالدكتور حسن حنفي- أرضا خصبة لثورة جياع جديدة. الأخطر من ذلك أن الدولة التي تخوض منذ ثورة 30 يونية معركة بقاء جليلة وتعرف تماما كيف كان لقساوة نظام حسني مبارك دور رئيس في الثورة عليه، لا تظهر اهتماماً جديا بمواجهة أخطار الفقر، بل إنها تمضي مستظلة بمنطق «الضرورة الاقتصادية»، و بحالة المؤازرة الشعبية لها في مواجهة التحديات الأمنية العاجلة، في اتجاه آخر يزيد الأوضاع سوءاً، سواء عبر فرضها المزيد من الأعباء المعيشية على عموم المصريين أو بتجريدها الفئات الدنيا من آخر دروع الحماية الموروثة عن عهود سابقة، وهو أمر من شأنه أن يؤدي لثلاث نتائج مخيفة تتمثل في: تعميق حالة الإحباط الاجتماعي الدفين، حرمان مصر من طاقات عطاء يقتلها ذل الاحتياج، توفير فضاء تحرك فسيح أمام من يسعون لتحويل أي غضب بريء إلي نار وبارود ودم. صحيح أن الموارد المتاحة للحكومة لا تساعدها على تبني سياسات قصوى تقضي بها على الفقر، إلا أنها تملك –في المقابل – بدائل عديدة للتخفيف عن ضحاياه ليس فقط لأن ذلك واجبها وحقهم، وإنما أيضاً لارتباطه بالمستقبل الجمعي للمصريين ..الغني فيهم قبل الفقير!.