لا تحجز مقعدك في الطائرة المغادرة ولا تستعجل الصعود في الصف الأول. نحن في زمن أصبح فيه الصعود إلى الأسفل والسفلة هم من يتحكمون في حركة التاريخ، صعودا وهبوطاً ثم صعوداً إلى النهاية المحتومة ..نهاية حقبة من الزمن الغلبة فيها للشيطان واتباعه ممن يرتدون القلنسوة وتعشعش في رؤوسهم أوهام العلو الكبير وخفافيش الأساطير حول الهيكل المزعوم وحكاية الشعب المختار وحراس المعبد. وأصحاب نظرية أن الصراع في العالم هو صراع " بين العالم المسيحي من جهة وبين العالم الإسلامي من جهة أخرى " كما ادعى صامويل هنتنغتون في كتابه " صراع الحضارات " الصادر العام 1994 حيث ركز على الإسلام وقال بأن حدوده دموية مشيراً لصراعات المسلمين مع الأديان الأخرى مثل الصراع في السودان وجنوبه، بين الهند وباكستان والصراعات داخل الهند نفسها بين المسلمين والهندوس. وتساءل هنتنغتون ما إذا كانت الهند ستبقى دولة ديمقراطية علمانية أو تتحول إلى دولة هندوسية على صعيد سياسي، ومشاكل الهجرة في أوروبا وتنامي العنصرية في ألمانيا وإيطاليا ضد المهاجرين من شمال أفريقيا وتركيا، مشاكل المسلمين التركمان في الصين، صراعات المسلمين الآزيريين مع الأرمن، صراعات المسلمين في آسيا الوسطى مع الروس، صراعات المسلمين الأتراك في بلغاريا، ولكنه حدد الصراع بأنه بين "العالم المسيحي" بقيمه العلمانية من جهة، و"العالم الإسلامي" من جهة أخرى. لقد مهد هنتنغتون وتلميذه فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب " نهاية التاريخ " لما نراه اليوم على ارض الواقع في منطقتنا العربية. وكلاهما انطلقا من النقطة المفصلية ذاتها: سقوط الاتحاد السوفييتي والهيمنة الأحادية للولايات المتحدة الأميركية على العالم أجمع. وقدم هذان المفكران الأميركيان استشرافهما للمستقبل، فيعتبر فوكوياما بأن التاريخ قد انتهى ولا مجال لمقارعة جبروت الولاياتالمتحدة الأميركية على الصعد كافة، بينما يرسم هنتنغتون خريطة طريق لما ستؤول إليه الأمور بعد السيطرة الأميركية الشاملة. ولقد دعم هنتنغتون هذا الموقف بارتكاز بحثه على نقطتين أساسيتين حسب وجهة نظره هما: أولاً، لا إمكانية لنشوء دولة تستطيع منافسة الولاياتالمتحدة الأميركية. وثانياً، مع انهيار الدول تتحول المواجهات الى "صراع حضارات". واعتبر هنتنغتون أن الصراع الدموي حتمي بين الحضارات لأسباب قال إنها: أولاً، مع انهيار الدول القومية-الوطنية في العالم الثالث، وخصوصاً في العالم العربي، لا يبقى أمام هذه المجتمعات إلا العودة الى تجمعات ما قبل الدولة الوطنية، أي الإثنية والطائفية. ثانياً، يسمي هنتنغتون هذه التجمعات الإثنية والدينية بالحضارات التي لن تلبث أن تشتبك بحروب دموية فيما بينها خاصة ضمن نطاق دول أصبحت إدارتها المركزية ضعيفة، نبذ الفكر يعني البقاء ليس في الفضاء الديني أو المشرقي بل الفناء في الجهل وهو لا يناقش فكرة أن تكون حضارة ما نتاجاً مشتركاً للعديد من الإثنيات والمذاهب كما هي الحال في بعض الدول العربية. هل المستقبل الذي تحدث عنه هنتنغتون وفوكوياما هو ما نعيشه كعرب في هذه المرحلة ؟ في الواقع يجري تطبيق نظرية معاداة الحضارة العربية الإسلامية من خلال طمس الهوية وذلك عن طريق تدمير الدولة العربية بدعوى الحرية والديمقراطية كما حدث للعراق وتونس وليبيا وحاليا سوريا و اليمن وتفتيت هوية كل دولة إلى أجزاء طائفية وعرقية ومذهبية كما يحدث لأغلبية الدول العربية وهو ما سمي ب " الربيع العربي "! وعلى الأرض يجري عملياً تنفيذ مهمة التدمير بأدوات محلية أجنبية المنشأ والمبدأ . فداعش تعلن أن هدفها الأول إقامة ما تدعي انه الإسلام في الدول الإسلامية وليس في الدول غير الإسلامية، كما إنها تقدم صورة مشوهة لا صلة لها بالإسلام وهنا تنفيذ لمقولة هنتنغتون بان الصراع هو بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي. من الجهة الثانية حاول الحوثيون السيطرة على اليمن والوصول الى باب المندب فيصبح الخليج فارسياً كما سماه كيري وزير الخارجية الأميركي مؤخراً. كلاهما داعش والحوثيون ظهرت قوتهما في وقت متزامن وزادت في وقت متزامن وتحركاتهما على الأرض تتم بتنسيق كما لو انه ثمة غرفة عمليات مشتركة توجه الجهتين. مؤشرات هذا الافتراض سير معركة عين العرب " كوباني" التي ترك المجال لداعش بالسيطرة عليها ونية عدم حسم المعركة من قبل أميركا، ثم معركة تكريت التي طوقتها القوات العراقية دون ان تدخلها علما أنها قادرة على ذلك بدعم جوي أميركي " قوات التحالف " . توقف القوات العراقية على بوابات تكريت تزامن مع تقدم القوات الحوثية إلى مشارف عدن وقصفها قصر الرئاسة. لكن "عاصفة الحزم " قلبت السحر على السحرة وأكدت أن العرب ليسوا لقمة سائغة لجياع السيطرة وتصفية الحسابات التاريخية المهترئة. وجاءت قمة شرم الشيخ لتؤكد عملياً أن الجسد العربي، وإن أصابت عضوا منه حمى إلا إن باقي أعضائه تتداعى له بالسهر بل وبالدعم بالطائرات المقاتلة وبتشكيل قوة عربية مشتركة تردع من تسول له نفسه أن يستهين بالأمة، ويستغل الظروف الصعبة التي تمر بها لينهش لحمها المر على أعدائها. إننا أمام مؤشرات قوية على إحياء المشروع القومي العربي الذي وحده القادر على مواجهة كافة المشاريع الطامعة بتاريخ وتراث وخير الأمة العربية. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية