قليلون.. من يملكون القدرة علي استمرار عطائهم.. خصوصاً إذا خاصمتهم السلطة، أو ابتعدوا عنها.. وهؤلاء تخسرهم المناصب، أما القادرون علي الاستمرارية فإنهم يرون ابتعادهم عن المناصب الرسمية إطلاقاً لقدراتهم علي الابداع والعطاء.. بل يرون في ابتعادهم عن المناصب تحريراً لملكاتهم.. وعطائهم.. ومن المؤكد أن الدكتور زاهي حواس، في مقدمتهم!! وخلال قربي من الدكتور زاهي كنت أتعجب: كيف يوفق بين مهام عمله الرسمي.. وعمله الإبداعي، في التأليف وفي قدرته علي العطاء المستمر.. حتي أنه رغم أنه مازال «في عز شبابه» قدم للمعرفة أكثر من 40 مؤلفاً باللغات المختلفة، غير العديد من المؤلفات باللغة العربية.. أما مقالاته التي نشرت في كبري المجلات والصحف فإنها تزيد علي 150 مقالاً علمياً.. غير ما ينشره في جريدة المصري اليوم.. وأيضاً في جريدة الشرق الأوسط التي تصدر في لندن.. وكذلك نشاطه الثقافي المتعدد من محاضرات وندوات في أكبر جامعات العالم.. فهل يا تري اكتشف زاهي حواس - كل هذه الملكات - واكتشف أيضاً «سر الخلود» الذي تميز به الفراعين القدماء.. هل عثر علي اكسير الحياة، في قوارير وجدها، وسط القوارير التي احتفظ فيها الفراعنة بقلوبهم وأحشائهم داخل مقابرهم.. فلم يتوقف عن تناول هذا الاكسير.. الذي وهبه كل هذه الملكات.. والقدرة علي العطاء.. أنا نفسي أعتقد ذلك.. وهو المصري ابن الحاج عباس حواس أحد فلاحي قرية العبيدية بمحافظة دمياط ورفض العمل بوظيفة مكتبية، وفضل أن يغير جلده.. ليساهم في تغيير مفهومنا عن الحضارة الفرعونية.. وهو أيضاً الرجل الذي تغير مسار حياته مرات عديدة بدأها عندما رفض الاستمرار في دراسة القانون بكلية الحقوق.. ولما التحق بكلية الآداب لم يجد أمامه إلا الدراسة بقسم آثار العصر اليوناني والروماني وهو قسم جديد.. فالتحق به.. والغريب أنه وهو دارس لهذا الفرع.. برع وبشكل يدهش العلماء.. في التاريخ الفرعوني، أي المصري القديم.. وتغير مسار حياته مرة أخري عندما وجد أن عمله الأول بمصلحة الآثار لن يلبي طموحاته.. فبحث عن عمل آخر.. لقد فكر أن يعمل دبلوماسياً!! واندفع يقرأ في السياسة والجغرافيا والاقتصاد ورغم نجاحه في الاختبارات التحريرية، إلا أنه رسب في الاختبار الشفهي.. فهل يا تري خسرته الدبلوماسية.. ولكن كسبته الآثار.. أو أنه كان مسيراً بما تنبأ له به والده ابن شمال الدلتا عندما قال له: سوف تكون متعلماً - لا فلاحاً - وسوف تصبح رجلاً عظيماً.. تلك هي نبوءة والده، التي تحققه وللاسف لم يعش الاب ليري أي رجل أصبح ابنه.. زاهي عباس حواس.. ويوماً- بعد يوم - كنت دائماً أري د. زاهي يرتدي قبعة رعاة البقر، في الغرب الامريكي، حتي أنني كنت أراه منافساً لأشهر فناني الغرب الأمريكي - جون واين - أشهر من أدي أدوار رعاة البقر.. أو أراه بين أكوام الاحجار ووسط المناطق الاثرية، وفي يده فرشاة صغيرة يتعامل بها مع الآثار حتي لا يخدشها.. من شدة حرصه علي سلامتها!! ولكنني توقفت أمام صورة له - في كتابه الأخير «حتي الآن» وهو يطل علينا - مرتدياً قبعته الشهيرة وبنطلونه الجينس وقميصه السفاري من القطيفة المضلعة- من خلال فتحة علي شكل نافذة.. كأنه يطل علينا من زمن غابر.. ويدعونا للدخول معه إلي عالم أجدادنا العظام.. أما صورته علي الصفحة الأخيرة للغلاف فهي - وهو - في ريعان الشباب خلال عمله الأثري بمنطقة أهرام الجيزة.. وما بين الصورتين عاش الرجل سنوات عمره، وسط الحفائر ووسط أجداده الفراعنة.. وقدم لنا الكثير.. ما بينهما من شعر أسود فاحم في عصر فتوة الشباب.. وشعر رمادي يميل إلي الأبيض جعله في مصاف نجوم السينما في هوليوود.. ولا فصال!! وبين لون الشعرين التقي وقابل وصادق العديد من رؤساء وملوك وملكات العالم.. وأيضاً مشاهير الفن والسياسة والاقتصاد.. حتي أكاد أراه ينافس الملك الذهبي توت عنخ آمون في شهرته وهو ما جعل مجلة التايم الامريكية تختاره عام 2006 ضمن 100 شخصية مؤثرة علي مستوي العالم كما اختارته جمعية المصريات بألمانيا كأحد أشهر الاثريين، والألمان هم أشهر عشاق الحضارة الفرعونية بلا منازع، وهم عظماء السياحة الثقافية في العالم.. وليس السياحة الترفيهية!! هذه الحياة - منذ تخرجه - قدم لنا الغزير من الاعمال.. والكتب والمقالات جعلت منه نجم نجوم الاثريين واشهرهم في العالم كله.. وأصبح هو عالم المصريات «المصري» الأشهر في القرن العشرين، والقرن الواحد والعشرين أيضاً، وأري فيه الاثري الذي حاول - ونجح - في تقديم الجانب الانساني في المصري القديم.. فإذا كان كبار علماء المصريات الأجانب قد اهتموا بالبحث عن اثار الكبار والعظماء من الفراعين.. فإن زاهي حواس هو أول من قلب هذه القاعدة وقدم لنا إنسانيات المصري القديم وذلك بالكشف عن مقابر العمال، الذين بنوا الاهرام.. أي هو أكثر من اهتم بالبحث عن دور الانسان المصري العادي.. وهو ما لم يهتم به كثيراً، معظم علماء المصريات الكبار.. وها هو يقدم لنا في كتابه الجديد «40 سنة حفائر» نوعاً جديداً من التأليف.. وإذا كان البعض يراه نوعاً من كتابة المذكرات إلا أنني أراه تسجيلاً لما قام به هذا المؤلف الذي ابيض شعره بفعل العمل ساعات مستمرة تحت أشعة الشمس.. أي هو سجل انجازاته.. من خلال تسجيله للاكتشافات الكبري التي أضافت للتاريخ المصري الكثير.. و40 سنة حفائر.. سوف يجذب ليس فقط المهتمين بالآثار الفرعونية ولكنه يجذب أيضاً حتي الهواة.. وعشاق هذا التاريخ، ولأنه أثري يعرف قيمة «كل معلومة» فقد احتفظ بكل ذلك إلي أن أخرجه لنا في كتابه الجديد، الذي سخرت له الدار المصرية اللبنانية أفضل امكانياتها ليخرج أفضل حتي مما تخرجه دور النشر العالمية. فماذا يقول لنا صاحب قبعة رعاة البقر ذو الشعر الرمادي أو الابيض المعروف باسم: زاهي حواس؟ هذا مقالنا القادم..