يشتغل كتاب «النضال ضد عبادة الماضي.. الاتجاهات الطليعية الروسية (1910 - 1913)» للشاعر والمترجم الكبير عبدالقادر الجنابي، على رؤية تحليلية إبداعية عميقة للاتجاهات الطليعية الروسية والمستقبلية الإيطالية بين عامي 1910 و1930 وأبرز ما أنجزته من تحولات عميقة في رؤية الماضي وتجليات ذلك في التجربة الشعرية والفكرية الروسية والأوروبية. يفتتح «الجنابي» كتابه بمقتطفات من أقوال كبار الشعراء والمفكرين والفلاسفة التي تحمل جميعها رفضاً للماضي، ليبدأ بعد ذلك «شظايا على سبيل التقديم» حيث يتوقف مع بودلير، مشيراً لمقالته «رسام الحياة الحديثة» التي وضع ونحت فيها لبنة مفهوم الحداثة، ثم يضعنا مع أول ظهور لكلمة «الطليعة» في دراسة ل «اتيان باسكيه» في أواخر القرن السادس عشر ثم ظهورها في القرن التاسع عشر عند أحد أتباع حركة سان سيمون، «فانزاح المعنى المجازي إلى مجال الوعي، وعي الفنان بأنه في مقدمة زمنه تقع عليه مسئولية القيادة في التثقيف، وهذه المقاربة وجدت صداها في النظرية الماركسية اللينينية حيث الحزب هو الطليعة الثورية للبروليتاريا.. غير أن الاختلاف جوهري بين هذا الاستخدام السياسي لكلمة الطليعة والاستخدام الفني الأدبي الذي بدأ بعد ظهور بيان مارينيتي. ففي المفهوم السياسي تعني «الطليعة» أن يخضع الفن نفسه إلى مطالب وحاجات الثوريين السياسيين، بينما في المفهوم المستقبلي والحركات التي تلت، فإنها تعني الاصرار على طاقة الفن الثورية بشكل مستقل، يقول سان سيمون مثلاً «في مهمة الفنانين العظيمة هذه، سيبدأ رجال المخيلة المسيرة، سيأخذون العصر الذهبي من الماضي ويمنحونه هدية إلى أجيال المستقبل».. بينما الحجر الأساس في الطليعة الأدبية والفنية في نظر مارينيتي، هو ردم تراث الماضي وعصره الذهبي». ويوضح «الجنابي» أن مارتينيتي في بيانه عام 1914 بين «أهم العناصر التي تقوم عليها الجمالية الماضوية «الرومانسية والرمزية والانحلالية»، وعبادة الماضي في الثقافة والحياة، والعناصر هي «المرأة القاتلة، ضوء القمر، الذكرى، الحنين، انعدام الأخلاق، ضباب أسطورة قديمة، الطريف، الفتنة الغربية التي تحدثها الأماكن البعيدة، الغامض، الوحشة، الفوضى المبرقشة، الريفية، الغسق المظلل، التداعي، الملل، زنجاز السنين الوسخ، تفتت الأطلال، رائحة العفونة، ميل إلى التعفن، التشاؤم، السل، الانتحار، ملاطفات، الاحتضار، جماليات الفشل، عبادة الموت». وبوجه هذه الأسس طرح أسس اليوم حيث ميلاد حسية جمالية جديدة سماها «البهاء الهندسي الميكانيكي»، عناصرها الرئيسية هي «الشمس المضرمة ثانية بالارادة، النسيان الصحي، الأمل، الرغبة، العابر، القوة الملجمة، السرعة، الضوء، الارادة، النظام، الانضباط، المنهج، غريزة الانسان مضاعفا بالمحرك، روح المتروبول، التفاؤل الشكس الذي نحصل عليه بالتربية البدنية والرياضة، المرأة الذكية «لذة، خصب، شئون»، مخيلة بلا سلك، الوجود في كل مكان، الاقتضاب والتزامن الذي يميز السياحة، القضايا الكبري، الصحافة، صبوة النجاح، الرقم القياسي، تقليد الكهرباء والآلة على نحو تحمسي، الايجاز الأساسي والتركيب، دقة المسننات والأفكار المزيتة، تلاقي الطاقات وهي تتقارب بمسيار واحد انتصاري». ويضيف الجنابي «وليظهر غليوم أبولينير احتقاره مبدأ عبادة الماضي أصدر في يوم الجائزة الكبرى «29 حزيران 1913» بيانا مستقبليا استقزازيا ضد التراث أثار موجة من النقاشات الحادة، إذ جاء البيان على شكل قسمين: في القسم الأعلى، وضع أبو لينير أسماء حركات الماضي وكبار شخصياته الأدبية والفنية، من بينها: فاغنر، بودلير، هيجو، غوته، دانتي، شكسبير، النقاد، الروحانيون، الواقعيون، الأكاديميات، الرومانسية، المؤرخون، الأطلال، تولستوي، ويتمان، آلن بو، القواميس.. إلخ. وفي القسم الأسفل، وضع تحت عنوان بحرف أسود كبير «وردة إلى»... أسماء كتاب وشعراء ورسامين معاصرين له، من بينها بيكاسو، ماكس جاكوب، مارينيتي، مارسيل دوشان، ليجيه، كاندينسكي، سندراس، جوف، أندريه سالمون، بازيتشي.. إلى». يذكر أن «الجنابي» ولد عام 1944 في بغداد، وقصد لندن أواخر يناير 1970 ومكث فيها أكثر من سنتين ثم ذهب لباريس حيث يقيم الآن كمواطن فرنسي، وقد أسس عدة مجلات بالعربية والفرنسية والإنجليزية منها «الرغبة الأباحية» و«النقطة» و«فراديس»، كما أصدر عشرات المناشير والكراسات والدواوين وقد جمع معظمها في كتابه «ما بعد الياء»، وله ترجمات من الإنجليزية والفرنسية لباول تسيلان وجويس منصور، كما صدر له «قصيدة النثر وما تتميز به عن الشعر الحر» يتضمن دراسات ونماذج من قصيدة النثر الفرنسية، و«أنطولوجيا النثر الألمانية» بالاشتراك مع صالح كاظم، و«أنطولوجيا بيانية.. دراسات وتراجم لشعراء الحداثة الغربية».