ينشرون الفوضى بدعوى تغيير المنكر ويعاقبون من يخالف وجهة نظرهم يغفلون أن جميع الرسل نشروا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة شعارات التغيير هدفها التحكم في رقاب الناس والتسلط علي مقاديرهم أي مسلم مسئول عن عمله ولكنه ليس مسئولاً عن معتقدات من حوله تغيير المنكر لا يتحقق بالعنف وإنما بتزكية النفوس وتطهير القلوب الجماعات الإرهابية تفهم الدين خطأ وتمنح نفسها حق الحكم علي ما في قلوب الناس من إيمان تكررت حوادث اعتداء الإرهابيين والمتطرفين على المصريين بدعوى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في مدن الصعيد إبان التسعينات خاصة في الجامعات، كما عادت عقب أحداث 25 يناير 2011 وبرزت على الساحة المصرية جماعات مارست العنف بدعوى (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) وارتكبت عدة جرائم قتل في محافظاتالسويس والشرقية.. وغيرها من المحافظات المصرية، فضلًا عن إحراق وتدمير بعض المحال التجارية بدعوى بيع سلع أو تقديم خدمات تعتبرها من وجهة نظرها منكرًا، ناهيك عن جرائم إحراق الكنائس في عدة مدن مصرية، مما كان يهدد بوقوع فتن واسعة وحرب طائفية لولا فضل الله، وسرعة تدخل الدولة لوأد هذه الفتنة في مهدها.. ولم يكن تكرار كل تلك الحوادث مصادفة وإنما كانت تطبيقا وتنفيذاً لأيديولوجية أرساها أئمة الفكر المتطرف والهدام قديمًا وحديثًا.. أمثال ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية في إصلاح الراعى والرعية) وسيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) و(في ظلال القرآن)، وأبو الأعلى المودودى في كتابه (الحكومة الإسلامية) وشكرى مصطفى في كتابه (توسمات)، وعبد السلام فرج زعيم تنظيم الجهاد في كتابه (الفريضة الغائبة).. وغيرهم أمثال أسامة بن لادن، ومحمد الظواهرى زعيمي القاعدة، وما أنشأه كل هؤلاء من تنظيمات وجماعات انتشرت في أنحاء الوطن العربى، ربما كان أخطرها اليوم تنظيم (داعش) الذي أطلق على نفسه اسم (الدولة الإسلامية) بزعامة أبو بكر البغدادى الذي نصَّب نفسه خليفة للمسلمين وطالبهم بمبايعته.. وتتفق هذه الجماعات الإرهابية كلها في قيامها على الأساس الفكري الباطل الذي يتعارض مع القرآن والسنة والذي يزعم بوجوب إكراه الناس على الالتزام بأمور الدين وعلى الدعوة إلى تغيير المنكر بين المسلمين بالعنف والقوة. دعاوى إكراه المسلمين على أمور الدين: يزعم دعاة الفتنة أن قوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) «256 البقرة» يعني فقط عدم الإكراه على الدخول في الدين.. ويقولون - كما جاء في كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب ص 83 – أنه إذا جاز القول بعدم إكراه أي إنسان على الدخول في الإسلام إلا أن ذلك الحكم لا ينطبق على من دخل في الدين وأصبح مسلمًا.. حيث يجب إجبار المسلم وإكراهه على الالتزام بأمور الدين التي تراها هذه الجماعات.. ويصل الأمر في دعوتهم إلى استخدام العنف والإكراه في الدين إلى حد الحكم بقتل المسلم المقصر في أداء الصلاة تكاسلًا أو تشاغلًا حتى ولو كان يؤمن بالصلاة ويعتقد في فرضيتها كما نص على ذلك كتاب ابن تيمية (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) الذي كتب بالحرف الواحد في صفحة 38 طبعة المطبعة السلفية (يجب قتل تارك الصلاة إذا امتنع عن الصلاة بعد أن يستتاب فإن تاب وصلى وإلا قتل.. وهل يقتل كافرًا أو مسلمًا فاسقًا؟ فيه قولان: وأكثر السلف على أنه يقتل كافرًا.. وهذا كله مع الإقرار بوجوبها). المعنى الصحيح لقوله تعالى (لا إكراه في الدين): عندما نرجع إلى قوله تعالى (لا إكراه في الدين) نجد أن الله تعالي يقول (لا إكراه في الدين).. وليس (لا إكراه على الدين ).. وهذا يعني في وضوح كامل أنه لا إكراه في أي أمر من أمور الدين ولا يقتصر تحريم الإكراه على الدخول في الإسلام فقط كما يدعي أصحاب هذه الفتنة.. ولقد عرف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى (الدين) بأنه يعنى (الإسلام والإيمان والإحسان) وذلك في حديث سيدنا عمر بن الخطاب الذي رواه ابنه عبد الله في صحيح مسلم والذي قال (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبى صلى الله فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد اخبرنى عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. الإسلام أن تشهد ألا اله الا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت اليه سبيلا قال صدقت، قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال فأخبرنى عن الايمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره قال: صدقت، قال: فأخبرنى عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرنى عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل: قال فأخبرنى عن أمارتها قال: أن تلد الامة ربتها وان ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لى يا عمر أتدرى من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). فالدين كما عرفه سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك الحديث هو (الإسلام والإيمان والإحسان).. ومن ثم فإن قوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)256 البقرة.. يعنى أنه لا إكراه في الإسلام ولا إكراه في الإيمان ولا إكراه في الإحسان: - فلا إكراه في الإسلام: أي لا إكراه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن سيدنا محمدًا رسول الله، ولا إكراه على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا. - ولا إكراه في الإيمان: أي لا إكراه على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره. - ولا إكراه في الإحسان: وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فلا إكراه إذن في أي أمر من أمور الدين كلها.. ولكن هذه الجماعات تدعو إلى العنف واستخدام القوة لإكراه المسلمين على الالتزام بما تراه هذه الجماعات وتزعم أنه من الدين.. وهذا الادعاء ليس سوي تبرير لسلوكها في استخدام العنف لتحقيق أهدافها في الوصول إلى الحكم والتحكم في مصائر المسلمين تحت الشعارات الدينية الباطلة!!.. ولا يخفى على أي مسلم صادق أن هذه الدعوة تتعارض مع صريح القرآن في قوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)256 البقرة.. كما تتعارض مع العديد من الآيات التي تبين أنه لا يحق لأى إنسان أن يسعى إلى إكراه غيره على الالتزام بأمور دينه أو أن يحاول التحكم فيه والسيطرة عليه بدعوى إجباره على إقامة الدين.. ومن هذه الآيات قوله تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا» أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) 99 يونس.. وقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) 21 الغاشية.. الحساب والعقاب من الله من الحقائق التي تؤكدها آيات القرآن أن الله تعالي وحده هو الذي يتكفل بحساب البشر على إيمانهم أو كفرهم وعلي طاعتهم أو معصيتهم وعلى التزامهم بأمور دينهم أو مخالفتهم لها.. وليس لبشر أن يدعي لنفسه هذه الحق.. فالمولي عز وجل يقول (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) «26 الغاشية».. ولا يجوز لأحد أن يستخدم العنف والقوة بدعوى إكراه غيره على الالتزام بأمور الدين لأن الحساب مرجعه إلى الله تعالي الأعلم بما في قلوب عباده وما تخفي نفوسهم فهو عز وجل القائل (َإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء) «284 البقرة». ولقد بينت لنا آيات القرآن أن المولي عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه عز وجل.. فالله تعالي يتقبل عمل المتقين كما يقول عز وجل (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) «27 المائدة».. وكما يقول عز وجل (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) «16 الأحقاف». كما بينت الآيات أن الله تعالي يحبط الأعمال التي لا تكون خالصة لوجهه عز وجل كما يقول تعالي (فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) «217 البقرة».. فأين تلك الدعوة الباطلة إلى الإكراه على أداء الطاعات والعبادات من هذه الحقائق القرآنية؟!!.. وهل يجوز الإكراه على أداء الصلاة – والتي تستوجب الخشوع والتضرع إلى الله - تحت تهديد السيف أو السوط؟!!.. وإذا كان الحديث الشريف يقول (ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها).. فأين تقوي الله وحضور القلب وصدق الوجهة التي تقبل بها الصلاة إذا كان الإنسان يجبر ويكره على أدائها كما يدعو أصحاب هذه الفتن من الخوارج الجدد؟!!. الفهم الخاطئ يروج أصحاب الفكر الإرهابى والمتطرف للفهم الخاطئ للحديث الشريف (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).. فيزعمون أن الحديث يدعو إلى استخدام العنف والقوة لإجبار الآخرين على إتيان المعروف والانتهاء عن المنكر.. وهذا الفهم يخرج الحديث الشريف عن مقصده في هداية النفس الإنسانية إلى الله تعالي فالحديث يدعو المسلم إلى مجاهدة نفسه لتغيير المنكر (في نفسه وفي رعيته) وتربية الوازع في نفس المؤمن حتى ينعم بحب الطاعة وكراهية المعصية وحتى تتحقق عبوديته لله تعالي وهي الغاية من خلقه كما يقول المولي عزوجل (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) «الذاريات 56». ويروج بعض الكتب للفهم الخاطئ للحديث مثل كتاب (الوهابية – حركة الفكر والدولة الإسلامية) الذي يقول في ص22 (إننا نعمل الزين – أي المعروف - ونغصب الذي عندنا عليه، وننهى عن الشين – أي المنكر - ونؤدب الناس عليه).. ويصف الكتاب استخدام العنف لإجبار الناس على الالتزام بما تراه هذه الجماعات من أمور الدين بأنه أمر طبيعي ومحمود فيقول: (إن الإكراه بالقوة والترغيب على تنفيذ الشعائر الدينية أمر طبيعى)!!.. كما وردت هذه المزاعم في كتاب (رسالة الإمام) الذي أصدرته وزارة الأوقاف بإشراف د.الأحمدى أبو النور وزير الأوقاف الأسبق (العدد 13) والذي زعم بأن نهي الآخرين عن المنكر واجب على كل مسلم حتى ولو كان هو نفسه يقع في هذا المنكر ولا ينتهى عنه، فيقول بالحرف الواحد (ولا يختص وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بمن لا يرتكب مثله، بل من رأى منكرا» وهو يرتكب مثله، فعليه أن ينهى عنه، ولذلك قيل: يجب على متعاطى الكأس أن ينكر على الجلاس – أي من يجالسه ويشاركه في شرب الخمر- وقيل أيضا» يجب على من زنى بامرأة أن يأمرها بستر وجهها عنه)!!.. • ولعل ما ورد في هذا الكتاب من دعوة كل مسلم إلى نهي الآخرين عن المنكر حتى ولو كان هو نفسه يمارس هذا المنكر يبين أن دعوة هذه الجماعات لا تستهدف هداية المسلمين وصلاح المجتمع الإسلامى.. وهي تمثل مخالفة صريحة لسنة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي قال في حديثه الشريف الذي ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة. (الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ).. فالمؤمن القوى هو القادر على أن يأمر نفسه بالمعروف وينهاها عن المنكر.. أما المؤمن الضعيف فهو الذي يقع في المنكر ولا يقدر على الانتهاء عنه.. ولكن هذه الجماعات لا تتورع عن دعوة المؤمن الضعيف إلى مطالبة الآخرين بالانتهاء عن المنكر الذي يقع فيه هو ذاته بدلًا من أن تدعو ذلك المؤمن الضعيف إلى مجاهدة نفسه للانتهاء عن المنكر.. وذلك تحت الزعم بأن نهي الآخرين عن المنكر واجب على كل مسلم..!! ولقد حذر القرآن من هذا المسلك في قوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) «44 البقرة».. وكذلك في قوله تعالي (كبر مقتًا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) «الصف 3».. فالمولي عز وجل يأمر كل مسلم بأن ينتهى هو أولا» عما يراه من المنكر في نفسه قبل أن ينهى غيره عن هذا المنكر. وسوف نتناول مخاطر الفهم الخاطئ للحديث (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده) ونتوقف لنتبين المخالفة الكاملة لذلك الفهم الخاطئ للقرآن والسنة.. إذ يدعو دعاة الفتنة كل مسلم قوى الإيمان إلى تغيير ما يراه من منكر في غيره من الناس بالقوة واستخدام العنف، فإذا تعذر عليه ذلك فعليه أن يلجأ إلى لسانه ليحارب به هذا المنكر الذي يراه في غيره، أما إذا لم يستطع أن يغير هذا المنكر الذي يراه في غيره لا بيده ولا بلسانه ولم يتمكن من إكراه الناس على فعل ما يريده هو، فعليه أن يستنكره بقلبه، وحينئذ يكون إيمانه هو أضعف الإيمان لأنه فشل في إجبار الناس على تغيير معتقدهم وعملهم إلى ما يريده هو.. وهذا الفهم للحديث خاطئ وباطل للأسباب الآتية: 1- إن هذا الفهم الخاطئ للحديث يفترض المعصية في جميع المسلمين ما عدا الجماعة التي ينتمون إليها والتي يرون أنها الوحيدة القادرة والمتمكنة والمفوضة بتغيير المنكر في الناس.. وهم بذلك ينكرون على جميع المسلمين إيمانهم بالله وطاعتهم له ويعطون لأنفسهم الحق في الحكم على ما في قلوب الناس من الإيمان والتقوي والتي لا يعلم حقيقتها إلا الخالق عز وجل.. بل أنهم يعطون لأنفسهم الحق أيضا في معاقبة المسلمين على ما يرونه هم منكرا من وجهة نظرهم!!. 2- إن هذا الفهم الباطل هو دعوة صريحة لإشاعة العنف والفوضى بين المسلمين بدعوى (تغيير المنكر) لأن كل من يرى منكرا» من وجهة نظره يجب عليه أن يحاول تغييره بالعنف والقوة.. وبطبيعة الحال فإن مرتكب هذا الفعل سيدافع عن نفسه بيده أيضًا، فيتصارع الاثنان ويشيع العنف والفوضى بين المسلمين بدعوى تغيير المنكر ولا يتوقف هذا الصراع حتى يقضي على المجتمع الإسلامي ذاته لأن الجماعات والأفراد تختلف رؤيتها للمنكر من شخص لآخر، وما قد تراه جماعة أو شخص منكرًا قد لا يراه الآخرون كذلك.. وينطبق هذا الفهم أيضا» على من يلجأ إلى تغيير المنكر في غيره باللسان، فإذا رفض مرتكب المنكر النصح من غيره فسوف ينتهى الأمر أيضًا بالخلافات والصراعات بين المسلمين بدعوى تغيير المنكر.. ومن البديهي أن هذه الدعوة تتعارض مع قوله تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) «105 المائدة».. فالمسلم ليس مسئولًا ولا محاسبًا على تغيير المنكر في غيره ممن لا يقعون تحت ولايته الشرعية. 3- ثم نمضى مع التفسير الخاطئ للحديث الشريف والذي يصف إيمان من يعجز عن تغيير المنكر في غيره باليد وباللسان بأنه (أضعف الإيمان)، وهنا يفرض السؤال نفسه: هل يستقيم الحكم على أي مسلم بأنه ضعيف الإيمان إذا لم يستطع تغيير المنكر باليد وباللسان في غيره من الناس ممن لا يقعون تحت ولايته حتى لو كان هذا المسلم ضعيف الجسم ولا يستطيع التغلب على مرتكب المنكر ومصارعته؟!!.. وأين ذلك من قوله تعالى (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها).. وإذا كان هذا المسلم يوصف بأنه (أضعف الإيمان) لأنه لم يستطع تغيير المنكر في غيره.. فبماذا يمكن أن يوصف مرتكب المنكر ذاته؟! 4- إن رسل الله جميعًا عليهم أفضل الصلاة والسلام لم يلجأوا إلى استخدام العنف لتغيير المنكر في أقوامهم وإنما كان سبيلهم في تحقيق ذلك قوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وقوله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) فكيف يوصف المسلم الذي يتأسي بحضرات الرسل فلا يلجأ إلى استخدام العنف بدعوي تغيير المنكر في غيره بأنه (أضعف الإيمان)؟ وهل يحق لأى إنسان أن يتخذ سبيلًا في الدعوة إلى الله غير سبيل رسل الله الكرام وهم الذين جعلهم الله الأسوة الحسنة لكل مسلم؟ 5- إن العنف لا يمكن أن يغير المنكر الذي يستقر في قلب أي إنسان.. فتغيير المنكر لا يتحقق إلا بتزكية النفوس وتطهير القلوب ومجاهدة النفس وتربية الوازع في قلب الإنسان حتى يكون خوفه من الله أولى من خوفه من الناس.. ولا يتحقق ذلك إلا بمجاهدة الإنسان لنفسه في طاعة الله ورسوله حتى يغير ما فيها من منكر وتتبين هذه الحقيقة في قوله تعالي (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) «الرعد 11».. أما استخدام العنف وإكراه الناس على إتيان أمور دينهم تحت تهديد السيف والعصا فإنه لا يولد مؤمنين أتقياء، ولكنه يصنع منافقين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ويؤدون الفرائض ليس خوفًا من الله ورغبة في رضائه وإنما خوفًا من السيف والعصا. المعنى الصحيح للحديث (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده..): يقول الحديث الشريف (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان ).. وهذا الحديث يفهم في ضوء الحديث الشريف الآخر الذي يبين حدود مسئولية كل مسلم والذي يقول (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).. فأول مراتب المسئولية لكل مسلم هي مسئوليته عن نفسه أولًا ثم مسئوليته عن أهل بيته ورعيته. أ) مسئولية الإنسان عن تغيير المنكر في نفسه: • يقول تعالي (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) «38 المدثر».. وتبين هذه الآية والعديد من آيات القرآن الأخري أن النفس هي أول رعية للإنسان.. فإذا رأى الإنسان في نفسه أي ميل إلى المنكر والبعد عن طاعة الله فإن عليه أن يغير هذا المنكر بيده.. وتشير كلمة (اليد) التي وردت في الحديث إلى قدرة كل إنسان على تغيير ما في نفسه.. فإذا استخدم الإنسان همته في الطاعة وأراد أن يخرج مما وقع فيه من المخالفة فإن الله تعالي ينصره على نفسه ويعينه على تغيير ما فيها من منكر. • فإذا لم يستطع المسلم أن يغير المنكر بإرادته فإن عليه أن يغير هذا المنكر بلسانه بأن يردع نفسه الحجة ويذكرها بعاقبة المعاصي والمخالفات ويدعوها إلى التوبة والعودة إلى طاعة الله. • ويبين الحديث أن المسلم الذي لا يغير المنكر بيده ولا بلسانه ولا يردع نفسه الحجة للخروج من هذا المنكر يكون قد ارتضي المنكر وتمكن المرض من قبله.. وهذا هو الذي يوصف إيمانه بأنه (أضعف الإيمان). ويتبين من ذلك أن الحديث يخاطب كل مسلم على حدة ويدعوه إلى إصلاح نفسه ويبين له السبيل والوسيلة التي يتخذها حتى يصبح مسلمًا قويًا قادرًا على تغيير المنكر في نفسه ولا يكون مسلمًا ضعيفًا يرتضي المعصية والغواية في نفسه. ب) مسئولية الإنسان عن تغيير المنكر في أهل بيته: • يقول تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) «6 التحريم».. وتبين هذه الآية أن الرعية الثانية لكل إنسان بعد نفسه هي أهل بيته من زوجة وأبناء.. والمسلم مسئول عن تغيير ما يراه في رعيته من المنكر بحكم ولايته الشرعية عليهم.. فإذا رأي المسلم فيهم أي منكر فإن عليه أن يغير هذا المنكر بما في يده من القدرة والهيمنة التي تخولها له ولايته الشرعية عليهم.. ولا بد أن يكون قد انتهي هو أولا عن المنكر وائتمر بالمعروف ليكون قدوة لأهل بيته. • فإن لم يستطع المسلم أن يغير هذا المنكر في أهل بيته رغم ما في يده من قدرة على تغييره فإن عليه على الأقل أن يلجأ إلى لسان الحجة ليعظهم ويذكرهم بعاقبة المعاصي والمخالفات ويدفعهم إلى تغيير هذا المنكر. • أما إذا لم يغير المسلم المنكر في أهل بيته الذين هم تحت ولايته الشرعية لا بيده ولا بلسانه فإنه يكون قد ارتضي وجود هذا المنكر وهذا هو الذي يصفه الحديث بأن في قلبه المرض ويصف إيمانه بأنه (أضعف الإيمان) لأنه قد ارتضي المنكر في رعيته ولم يحاول إصلاح هذه الرعية. مسئولية المسلم في مجال عمله: • بينت السنة الشريفة أن كل مسلم في المجتمع الإسلامي مسئول أمام الله تعالى في أدائه عمله مهما كان نوع العمل أو الوظيفة التي يشغلها المسلم في مجتمعه.. فالأحاديث الشريفة تبين واجب المسلم في إتقان العمل وحسن أدائه والابتعاد عن كل صور التقصير فيه حيث يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه).. كما تنهى الأحاديث الشريفة كل مسلم عن كل صور وأسباب الفساد في مجالات العمل التي تؤدى إلى وقوع الظلم والاعتداء على الحقوق كالغش والرشوة والاحتكار وغيرها.. وتبين الأحاديث أن كل مسلم مسئول أمام الله عن أن يكون علمه وعمله وماله وكل ما وهبه الله من قدرة وفضل مسخراً لخير المسلمين وتعمير ديارهم وبناء مجتمعهم حيث يقول سيدنا رسول الله (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه... وعن عمله فيما فعل.. وعن ماله من اين اكتسبه وفيما أنفقه.. وعن جسمه فيما أبلاه).. ولقد بين سيدنا رسول الله أن كل رئيس في مجال عمله مسئول عن أداء مرؤوسيه لعملهم بالصورة التي تحقق الخير في المجتمع وتمنع كل صور الفساد والاعتداء على الحقوق بين الناس.. ويكفي في هذا الصدد أن نتوقف أمام قول سيدنا عمر بن الخطاب عن مسئولية الحاكم المسلم عن رعيته (لو عثرت دابة في العراق لسئل عنها عمر لما لم يعبد لها الطريق).. ومن هنا يتبين لنا أن أي مسلم في مجال عمله يكون مسئولًا عن الأداء السليم للعمل بين مرؤوسيه بما يحقق الخير للمسلمين ويحمي مصالح الناس ويحفظ حقوقهم.. ولكنه ليس مسئولًا أمام الله عن معتقدهم والتزامهم بأمور دينهم وأدائهم العبادات والطاعات.. فكل إنسان محاسب أمام الله تعالي عن دينه ومعتقده وعن تغييره للمنكر في نفسه وفى رعيته الشرعية.. هذه هي حدود المسئولية في الإسلام التي يجب على كل مسلم – حاكمًا كان أو محكومًا– أن يدركها جيدًا حتى لا ينخدع أحد بالشعارات المضللة التي ترفعها الجماعات الإرهابية والمتطرفة عن تغيير المنكر والتي لا تستهدف سوي التحكم في رقاب الناس والتسلط على مقاديرهم باسم الدين وتبرير دعوتهم إلى نشر الفتن والصراعات الدموية.