غطينا فى الحلقة الأولى تفاصيل صراع الحياة أو الموت بين الاستعمار الأمريكى وتوابعه فى الاتحاد الأوروبى أساساً وبين روسياوالصين، القوتين الصاعدتين فى وجه الغرب، وشرحنا كيف تطورت القوة الأمريكية التى جلست على قمة العالم بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1995 إلى تراجع مستمر نتيجة حروبها الاستعمارية المتتالية منذ حرب فيتنام سنة 1964 إلى سنة 1975 وحرب الخليج الأولى سنة 1991 ثم غزو أفغانستان سنة 2001 والعراق سنة 2003، وكيف ساهمت كل هذه الحروب فى تخريب الاقتصاد الأمريكى وصعود الصين إلى موقع القوة الاقتصادية الأولى فى العالم بداية من أكتوبر هذا العام، وكيف تدور الحرب الاقتصادية حالياً بين الغرب من جهة وروسياوالصين من جهة أخرى، وعرضنا كيف تقوم روسيا ببيع نفطها وغازها مقابل سبائك الذهب الفعلية بدل الدولار الذى يترنح عرشه حالياً، وكيف يحاول الغرب ضرب الاقتصاد الروسى بخفض أسعار النفط عالمياً بدرجة هائلة وهو السلعة بالغة الأهمية فى صادرات روسيا للعالم. ونعرض فى هذه الحلقة كيف تقوم البنوك المركزية فى روسيا وحلفائها بتقوية احتياطات الذهب لديها لتدمير استخدام الدولار كعملة عالمية كما كان الحال فى الماضى. فعلى سبيل المثال زادت مشتريات روسيا من الذهب خلال الربع الثالث من العام الحالى فقط إلى 55 طن ذهب خالص، وزادت مشتريات كازاخستان فى نفس الفترة إلى 28 طناً، وباقى حلفائها بنسب أقل، وللمقارنة نذكر أن كل البنوك المركزية في العالم قد اشترت فى نفس الفترة 93 طن ذهب حصلت روسيا وكازاخستان فقط على حوالى 900٪ من الكمية العالمية كلها. وحالياً يحاول العالم الغربى المستحيل لخفض أسعار الذهب عالمياً فى محاولة يائسة لرفع قيمة الدولار الشرائية، وفى الوقت نفسه يحاول الغرب تدمير الاقتصاد الروسى لوقوف روسيا القوى فى وجه الغرب ورفضها التبعية له. وقد خصصت أمريكا إدارة خاصة حكومية تسمى «صندوق تثبيت سعر الصرف» بهدف تقوية سعر الدولار وخفض سعر الذهب، ولذلك تبدو بعض السلع العالمية اليوم مثل: الذهب والهيدروكربونات ضعيفة نسبياً وأقل كثيراً من سعرها الحقيقى فى مواجهة الدولار، ورغم ذلك فقد أمر بتين ببيع النفط الروسى مقابل الدولار المبالغ فى قيمته ثم مسارعته فى استبدال الدولار بسبائك ذهب بالغ الغرب فى خفض قيمتها يضيع تماماً أثر تلاعب أمريكا بسعر الذهب. ومنذ فترة ليست طويلة توصل العلماء البريطانيون وكبار الجيولوجيين الأمريكيين إلى أن أوروبا لن تستطع العيش بدون الطاقة التى تشتريها من روسيا، وبذلك فالعالم الغربى القائم اقتصاده على سيادة الدولار البترولى يواجه وضعاً كارثياً فهو لا يستطيع العيش دون شراء الطاقة من روسيا من النفط والغاز ولكن روسيا مستعدة لبيع إنتاجها من النفط والغاز مقابل سبائك الذهب فقط. وخلاصة هذه اللعبة أن أسلوب بوتين فى بيع الطاقة الروسية للغرب مقابل الذهب الحقيقى فقط هو أسلوب ناجح تماماً مهما فكر الغرب، فالأمر الواقع أن الغرب يدفع مقابل ما يشتريه من الطاقة الروسية عن طريق بيع مخزونه من الذهب، وبذلك فإن بوتين بفضل مخزون الطاقة الضخم فى روسيا ونتيجة تلاعب الغرب بأسواق الذهب يخفض معظم ما تملك الدول الغربية من الذهب، وهذه الاستراتيجية الاقتصادية التى يتبعها بوتين تضع الغرب وفى مقدمته أمريكا موضع الثعبان المعتدى الذى يأكل ذيله فى النهاية. فى عالم المال من المتوافق عليه أن الذهب بطبيعته عدو للدولار: 1 - فى سنة 1971 أغلق الرئيس الأمريكى نيكسون نافذة الذهب منهياً بذلك مبادلة الدولار بالذهب كما كانت تضمنه الحكومة الأمريكية منذ سنة 1944 بموجب اتفاقية بريتون وودز. 2 - وفى سنة 2014 فتح الرئيس الروسى بوتين نافذة الذهب من جديد عن طريق تحويل الدولار إلى سبائك ذهب دون موافقة أمريكا. وفكرة الفخ الاقتصادى المبنى على الذهب يبدو أن صاحبها هو المستشار الاقتصادى لبوتين الدكتور سيرجى جلازييف، وإلا فكيف نفهم أن اسمه موضوع على قائمة العقوبات الأمريكية ضمن المسئولين الروس رغم أنه ليس مدرجاً رسمياً ضمن مجتمع رجال الأعمال الروس؟ إن فكره الاقتصادى جلازييف هذه ينفذها بوتين بعبقرية مدهشة وبتأييد كامل من زميله رئيس الصين. ومن المهم جداً فى هذا السياق تصريح النائب الأول لرئيس البنك المركزى الروسى كسينيا يودا اييفا بأن البنك المركزى الروسى يستطيع استخدام احتياطى الذهب لديه فى دفع قيمة الواردات لروسيا عند اللزوم، فمن الواضح أنه فى جو العقوبات التى يوقعها الغرب على روسيا أن هذا التصريح موجه لدول ال BRICS وخاصة الصين، فبالنسبة للصين فإن استعداد روسيا لدفع وارداتها بالذهب المشترى من الغرب هو أمر مناسب تماماً، وسبب ذلك أن الصين أعلنت مؤخراً أنها ستتوقف عن زيادة رصيدها من النقد الأجنبى والذهب بالدولار، فإذا راعينا الفجوة التى تتسع بين صادرات الصين ووارداتها من أمريكا (خمسة أمثال لصالح الصين) فإن هذا التصريح يعكس التهديد المالى بأن الصين ستتوقف عن بيع صادراتها بالدولار. اختار الإعلام ألا ينقل هذه المعلومة عن التاريخ المالى القريب، فالموضوع ليس أن الصين لا تريد بيع منتجاتها مقابل الدولار، فطبيعى أن الصين مستمرة فى قبول الدولار كسداد صادراتها، ولكن بمجرد حصولها على الدولار ستكون الصين حريصة على التخلص منه واستبداله بوسيط آخر فى احتياطاتها من الذهب والعملات الأجنبية وإلا لا يكون هناك معنى لتصريح السلطات الماليةالصينية القائل: سنتوقف عن زيادة احتياطياتنا من الذهب والعملات الأجنبية بالدولار، ويعنى ذلك أن الصين ستزيد مشترياتها من وسائل الدفع الأخرى عن طريق بيع الدولار الذى تكسبه فى التعامل مع الدول الأخرى كما فعلت فى الماضى. وهكذا فإن الصين ستستبدل كل دولاراتها التى تكتسبها من صادراتها إلى أمريكا وغيرها من الدول كلها، والسؤال هو بماذا ستتبدل الصين هذه الدولارات؟ بأى عملة أو بأى أصول أخرى؟ إن تحليل السياسة النقدية للصين يظهر أن الأصول الأخرى يبدو أنها سبائك الذهب وقد بدأ هذا الاتجاه فى السريان. من هذه الزاوية، فالشراكة الروسية - الصينية مربحة جداً لكل من موسكو وبكين فروسيا تشترى البضائع الصينية والذهب بالسعر السائد والصين تشترى النفط الروسى بالذهب بالسعر السائد، وفى هذه التعاملات فالدولار الأمريكى لا مكان له، وهذا ليس غريباً فالدولار ليس سلعة صينية أو روسية بل مجرد وسيط مالى لتحديد سعر الذهب، وعلينا ملاحظة أن السوق العالمية لسبائك الذهب صغير جداً بالمقارنة لسوق النفط العالمى، وبالإضافة لذلك من الضرورى التمييز بين سبائك الذهب والسندات المقيّمة بالذهب وللمعلومية، فالسندات المقيّمة بالذهب قيمتها الشهرية حوالى 360 مليار دولار شهرياً بينما سبائك الذهب حوالى 280 مليون دولار فقط أى واحد فى الألف من قيمة السندات، ويتمنى الغرب أن تقبل روسياوالصين مقابل صادراتها وسائل دفع بخلاف سبائك الذهب، ولكنهما تصران على سبائك الذهب التى يخفض الغرب قيمتها الحقيقية، فقد بدأ بوتين العد التنازلى لنهاية عصر الدولار البترولى مما يضع الغرب فى مأزق شديد، يستطيع الغرب بذل كل جهد فى رفع سعر الدولار اصطناعياً، وخفض سعر النفط والذهب، ولكن مشكلة الغرب أن رصيده من سبائك الذهب ليس غير محدود، ولذلك كلما خفض سعر النفط وسبائك الذهب استنفد رصيده من الذهب. واستراتيجية بوتين الاقتصادية هذه تؤدى إلى نفاد سبائك الذهب الغربية بسرعة لصالح روسياوالصين وكازاخستان والبرازيل والهند أى دول BRICS، وبالسرعة التى يستنزف بها رصيد سبائك الذهب بالغربية فليس أمام الغرب وقت لإنقاذ الدولار البترولى من الانهيار بسبب لعبة الشطرنج هذه التى وضعه فيها بوتين. لم يواجه العالم الغربى قط أحداثاً اقتصادية مثل ما يواجهه حالياً، فقد سارعت روسيا أيام الاتحاد السوفيتى إلى بيع سبائك ذهبه لمواجهة انخفاض أسعار النفط، أما اليوم فتفعل روسيا العكس فهى تشترى الذهب فتهدد بذلك نموذج أمريكا فى السيطرة على العالم بالدولار البترولى، والمبدأ الأساسى فى نموذج الدولار البترولى هو تمكين الغرب بقيادة أمريكا بالعيش على حساب جهد وموارد الشعوب الأخرى من خلال سيادة الدولار فى النظام النقدى الدولى، الذى يجعل منه وسيلة السداد الرئيسية. وتغير دول BRICS بزعامة روسياوالصين قواعد سيادة الدولار فى النظام النقدى الدولى وتضع الذهب مكانه. وكان الغرب تقليدياً يلجأ لوسيلتين لتجنب المخاطر على سيطرة الدولار البترولى وما يعطيه من مزايا للغرب وهما الثورات الملونة وفى حالة فشلها فالعدوان العسكرى، وكلتا الوسيلتين مستحيل تطبيقها على روسيا، فالشعب الروسى لا يريد استبدال حريته بالوعود الغربية والدليل الواضح على ذلك هو شعبية بوتين الطاغية، وبالنسبة للعدوان العسكرى فروسيا ليست يوغسلافيا أو العراق أو ليبيا، فأى هجوم غير نووى من حلف الناتو عليها مصيره الفشل الذريع وأى هجوم نووى حتى وإن كان استباقياً سيعنى فناء الطرفين ولن ينقذ الدولار البترولى وكبار الاقتصاديين فى الغرب يدركون خطورة الوضع الذى يواجهه الغرب حالياً بسقوطه فى فخ بوتين الذهبى، فمنذ اتفاق بريتون وودز يدرك الجميع القاعدة الذهبية وهى أن من يملك أغلب سبائك الذهب يملك وضع قواعد التعامل، ويصمت الغرب عن ذكر هذه الحقيقة لأنه لا يجد لها حلاً. وإذا شرحت للرأى العام الغربى تفاصيل الكارثة الاقتصادية التى تنتظره فإنه سيسأل أنصار الدولار البترولى هذا السؤال: إلى متى يستطيع الغرب شراء النفط والغاز الروسى مقابل سبائك الذهب؟ وماذا سيحدث عندما تنفد هذه السبائك لدى الغرب؟ لا أحد فى الغرب يملك إجابة هذا السؤال البسيط. وإلى هنا ينهى هذا التقرير المتناهى فى خطورته الذى يحمل فى طياته نذر الشؤم لأمريكا والغرب عموماً بأن سيادته العالمية فى طريق الانهيار، كل أمل البشرية كما يتمنى ألا يقفز للسلطة فى الغرب مغامر مجنون مثل هتلر أو نتنياهو فيشعل حرباً عالمية نووية ويهدم المعبد فوق رأسه ورأس العالم كله كما فعل شمشون، وتتحقق نبوءة سفر الرؤيا فى الإنجيل عن هرماجدون حرب الطريق إلى يوم القيامة. نائب رئيس حزب الوفد