خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية سنة 1945 علي قمة العالم عسكريا واقصاديا، وكان إنتاجها الكلي يزيد علي ربع إنتاج دول العالم مجتمعة وأصبحت دون منازع القطب العالمي الأول، ولما تكون القطب الثاني المواجه لها أواخر حقبة أربعينيات القرن الماضي من الاتحاد السوفيتي بقيادة روسيا بجمهورياتها الخمسة عشرة عندئذ ومعها باقي الدول الشيوعية الكبري التي تمخضت عنها الحرب العالمية، كان هذا القطب الدولي الثاني يدرك حقائق القوة في العالم فلا يتمادى في تحدي القطب الأول عن حل معين، وكان وصول القطبين الي ملكية السلاح الذري ثم النووي أول خطوة نحو تجميد الموقف العسكري بين القطبين واستحالة وقوع حرب عالمية شاملة بينهما، ولما كادت هذه الحرب أن تقع في أكتوبر سنة 1962 نتيجة لعبة البوكر السياسي بين القطبين عندما وضع الاتحاد السوفيتي صواريخ نووية فوق أرض حليفه الأصغر كوبا الملاصق لأمريكا فرضت أمريكا فورا حصارا بحريا كاملا حول كوبا، وتوجه الأسطول السوفيتي نحو كوبا لفك الحصار وكاد يوم القيامة يحل وتقع الحرب النووية الشاملة، وفي آخر لحظة تراجع الاتحاد السوفيتي نزولا علي موازين القوي العالمية وقتها وانتهت الأزمة التي لا مجال لتفصيلها هنا. ولعبت عنجهية القوة برؤوس النخبة الحاكمة في أمريكا التي يسيطر عليها المجمع العسكري الصناعي فراحت أمريكا تتورط في كل حرب استعمارية تري فيها فرصة فرض هيمنتها علي العالم كله وتجر خلفها توابعها من دول الغرب التي شكلت حلفا عسكريا بقيادة أمريكا هو حلف الناتو وشكل الاتحاد السوفيتي في مواجهة حلف وارسو بقيادة روسيا يضم الاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية المنضمة تحت لوائه، وكانت إحدي أهم نتائج التفوق الأمريكي بعد الحرب العالمية أن أصبح الدولار هو العملة العالمية التي تقاس عليها كل العملات الأخري، وكانت حكومة أمريكا تضمن ثبات سعره علي أساس 35 دولارا لأوقية الذهب، ويضمن رصيد الذهب الهائل في قلعة «فورت نوكس» الأمريكية هذا الثبات كغطاء لعملية الدولار. وعندما انزلقت أمريكا الي مستنقع الحرب الطاحنة في ڤيتنام لمدة أحد عشر عاما من سنة 1964 حتي نهايتها سنة 1975، كانت نفقات الحرب الهائلة تفوق قدرة الاقتصاد الأمريكي نفسه ووقفت الصين والاتحاد السوفيتي خلف ثوار ڤيتنام في حرب بالوكالة تستنزف فيها أمريكا، وأخيرا صفعت حقائق الاقتصاد المترنح أمريكا صفعة قوية فلم تعد قادرة علي مواجهة نفقات الحرب إلا ببيع كمية ضخمة من الذهب الموجود بقلعة «فورت نوكس» كغطاء للدولار وأعلنت فصل ارتباط الذهب بالدولار، وقامت بطبع مليارات من الدولار الورقي دون أي غطاء وأعلنت أنها ستستمر في شراء النفط من دول الخليج وغيرها بهذا الدولار الورقي وأن الدولة التي ترفض تكون بمثابة إعلان الحرب علي أمريكا وكان هذا العمل أكبر عملية نهب لثروات الدول الأخري تقوم به الدولة العظمي الأولي. وتمكنت أمريكا أوائل حقبة الثمانينات من رد «الجميل» للاتحاد السوفيتي عندما استدرجته الي مستنقع أفغانستان عندما وقع بها انقلاب عسكري شيوعي، ودخل الجيش السوفيتي لمساندته ضد رغبة الشعب الأفغاني ووقفت أمريكا خلف الثوار في حرب بالوكالة زودتهم فيها بمليارات الدولارات التي دفعتها الدول الإسلامية وعلي رأسها السعودية. كما أمدتهم بملايين الأطنان من أحدث السلاح والعتاد الحربي، ولمدة ثماني سنوات أنهك الاتحاد السوفيتي عسكريا واقتصاديا حتي اضطر الي الانسحاب من أفغانستان وكانت هذه الحرب هي السبب الأول في تفكك الاتحاد السوفيتي ثم انهياره سنة 1991 ومعه حلف وارسو وانفراد أمريكا بالقطبية علي العالم، وراحت دولة روسيا الاتحادية تضمد جراحها ببطء شديد الي أن عادت في مطلع القرن الحادي والعشرين الي وضعها كدولة كبري تضمن أمنها ترسانة نووية هائلة تستطيع محو أمريكا من الوجود في عملية انتحار متبادل لا يتصور وقوعها، وعندما وصل فلاديمير بوتين قائد المخابرات الروسية السابق الي منصب الرئاسة في روسيا سنة 2000 بدأ علي الفور العمل علي استعادة مكانة روسيا كدولة عظمي مناوئة لأمريكا وبدأ تكوين حلف يربطه بالصين التي تفرض عليها حقائق الجغرافيا والسياسة ضرورة أن تواجه أمريكا التي تسعي لاستمرار سيطرتها علي شرق آسيا. وفي الفترة التي بدأت روسيا تسترد عافيتها وقعت أمريكا في قبضة المحافظين الجدد الذين أحكموا إخراج مسرحية 11 سبتمبر سنة 2001 بنسف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ونسبة الجريمة الي إرهابيين غرب وما تلا ذلك من غزو لأفغانستان أواخر نفس العام ثم غزو العراق في ربيع سنة 2003 وقد كانت تكاليف هاتين الحربين مهولة للاقتصاد الأمريكي والغرب عموما، ومازالت حرب أفغانستان مشتعلة بعد 13 سنة من الحرب عجزت أمريكا للآن عن سحق المقاومة الأفغانية. أما العراق فرغم تدميره وبدء تفكيكه الي ثلاث دويلات زاد النفوذ الإيراني فيه عبر النفوذ الأمريكي وأصبحت إيران حليفة روسياوالصين أرسخ قدما في العراق عن أمريكا. وكانت نتيجة هاتين الحربين استنزافا هائلا للاقتصاد الأمريكي ترتب عليه أنه لأول مرة في التاريخ يتفوق حجم الاقتصاد الصيني علي الاقتصاد الأمريكي منذ أكتوبر هذا العام طبقا لتقارير صندوق النقل الدولي وأصبحت الصين أكبر اقتصاد في العالم. ونتيجة لكل ذلك أمامنا تقرير فرنسي مطول صادر عن «ريزو انترناشيونال نت» بعنوان: «الفخ الذهبي - بوتين بطل الشطرنج». وسنعرض هذا التقرير علي قارئ «الوفد» في الجزء الباقي من هذا المقال والمقالات التالية. يقول التقرير إن اتهامات الغرب لبوتين مبنية بصفة تقليدية علي حقيقة أنه يأتي من جهاز المخابرات الروسي AGB ولذلك فهو قاس وغير أخلاقي فالغرب يلوم بوتين علي كل شيء تقريبا، ولكن لم يجرؤ أحد علي اتهامه بنقص في الذكاء فكل الاتهامات ضده تعزز قدرته علي الرؤية الجيدة واتخاذ القرار الواضح سياسيا واقتصاديا. ويقارن الإعلام الغربي عادة مهارة بوتين بمهارة لاعب الشطرنج المحترف والتطورات الأخيرة في الاقتصاد الأمريكي والغربي عموما تعزز هذا الوصف لبوتين، وبعكس الكثير من قصص الدعاية مثل ما تردده قناة «فوكس» الاخبارية وقناة CNN فإن الاقتصاد الغربي اليوم الذي تقوده أمريكا قد سقط في فخ بوتين بطريق لا يستطيع أحد في الغرب رؤيتها أو فهمها، وكلما حاول الغرب الفرار من الفخ كلما أطبق الفخ عليه، فما الوضع الحساس الذي يجد الغرب وأمريكا أنفسهم فيه؟ ولماذا يصمت الإعلام وهؤلاء الذين يقولون الاقتصاد الغربي عنه كما لو كان سرا عسكريا؟ فلنحاول فهم مضمون الوقائع الاقتصادية الحالية منحِّين جانبا الجوانب الأخلاقية والجيوبوليتيكية. بعد أن أدرك الغرب فشله في أوكرانيا فإنه يحاول بقيادة أمريكا تحطيم الاقتصاد الروسي عن طريق خفض أسعار النفط والغاز التي تمثل الدخل التصديري الأول لروسيا والمصدر الأساسي لزيادة حصيلتها من الذهب. ومن المهم ملاحظة أن الفشل الأساسي للغرب في أوكرانيا ليس عسكريا ولا سياسيا فهو يكمن في رفض الغرب لمشروع بوتين لغرب أوكرانيا علي حساب ميزانية الاتحاد الروسي وهو ما يجعله بالضرورة مشروعا فاشلا في المدي القصير في المرة السابقة خلال رئاسة ريجان لأمريكا كانت تصرفات الغرب بخفض أسعار النفط ناجحة وقادت الي سقوط الاتحاد السوفيتي ولكن التاريخ لا يعيد نسه، فالأمور مختلفة هذه المرة فرد فعل بوتين يبدو مزيجا من لعبة الشطرنج ولعبة الجودو وعندما تحولت قوة العدو الي الإضرار بالعدو نفسه وبأقل تكلفة في القوة والموارد لبوتين، فسياسة بوتين الحقيقية ليست علنية تسمح له بالتركيز علي مدي فعاليتها كما يبدو في اللعبة فقليل جدا من الناس من يفهم بوتين حاليا، ولا يعرف أحد تقريبا ماذا سيفعل بوتين في المستقبل. وكما يبدو غريبا حاليا فإن بوتين يبيع النفط والغاز الروسي مقابل سبائك من الذهب الحقيقي ولا يجاهر بوتين بذلك بصوت عال، وطبعا يقبل الدولار الأمريكي كعملة للسداد ولكنه يسارع فورا بتحويل هذه الدولارات التي يحصل عليها من بيع النفط والغاز الروسي الي سبائك ذهبية. وحتي نفهم الصورة تماما علينا أن ننظر الي مدي نمو مخزون الذهب الروسي ونقارنه بعوائد الاتحاد الروسي من بيع النفط والغاز في نفس الفترة. ونقف عند هذه الفقرة في هذا المقال لنعرض في المقال التالي خريطة قيام البنوك المركزية بتقوية احتياطياتها بالذهب في دول روسيا وكازاخستان وأذربيجان وموريشيوس وطاجيكستان ودول أخري. نائب رئيس حزب الوفد