الحنين إلي الماضي أصبح يلاحقنا مع خطوة نخطوها في هذا الزمن. الحنين إلي الماضي أصبح يلاحقنا عندما نستمع إلي تتر مسلسل من المسلسلات التي تعرضه الفضائيات في السنوات الأخيرة، الحنين إلي الماضي أصبح يلاحقنا كلما استمعنا إلي أحد الإذاعيين الجدد، الذين يستخدمون مفردات سوقية في كل تعبيراتهم. الحنين إلي الماضي أصبح يلاحقنا عندما نشاهد عملاً سينمائياً من الأعمال التي تعرض حاليا، الحنين إلي الماضي أصبح يلاحقنا كلما استمعنا إلي أغنية من الأغاني التي تصدر لنا عبر الإذاعات والفضائيات. كل شيء ينتمي إلي الماضي أصبحنا نترحم عليه، ونقول الله يرحم أيامه، هذا هو حالنا.. البكاء علي الماضي. لذلك عندما اعتمدت الفنانة إسعاد يونس في برنامجها «صاحبة السعادة» علي بعض «التيمات» التي تعتمد علي إبداعات كان لها ذكريات معنا، وكان لها صدي كبير وقت تقديمها، بالدرجة التي أصبحت الناس تترحم عليها الآن. ذهب المشاهد بشكل لا إرادي إلي تلك الحلقات، وبعضنا ردد: «الله عليكي يا إسعاد ذكرتنا بالماضي اللي فات». لانها كشفت ومعها بالقطع فريق عملها الواقع السيئ الذي نعيشه علي مستوي الغناء خاصة في الحلقات الخاصة بالتترات عندما استضافت أهم من قدموا هذا الفن وهم المطرب الكبير علي الحجار والمطرب الكبير محمد الحلو.. والسبب أننا توقفنا أمام هذه الحلقات لأنها أظهرت الفارق بين جيل وجيل، بين زمن وآخر، وبين واقع جميل عشناه، وآخر مُر نعيشه الآن. بين مبدع جميل، وآخر مزيف غير حقيقي. في حلقات التتر تباري كل من علي، ومحمد في تقديم أهم ما غني في حلقتين منفصلتين، الحجار قدم لبليغ حمدي ولعمار الشريعي، وياسر عبدالرحمن، وعمر خيرت والحلو قدم لميشيل المصري، وعمار الشريعي، وياسر عبدالرحمن أيضا. والجمهور في المنازل كان هو الفائز الوحيد لانه استعاد زمن ليالي الحلمية، وبوابة الحلواني، والوسية، وزيزينيا، والأيام والشهد والدموع، والمال والبنون، وكلها أعمال محفورة في وجدان الشعب لسبب وحيد، هو أن الإبداع الحقيقي لا يموت وأن صناع الدراما حاليا لم يقدموا ما يشغل بال الناس، ويحظي باهتمامهم. في الماضي كانوا يطرحون قضايا الحارة بكل ما فيها من «شهامة وجدعنة» الآن تقدم الحارة علي أنها مأوي لتجار السلاح والمخدرات وفي الخلفية أغاني أوكا وأورتيجا. لذلك عاشت الأعمال التي مر عليها عشرات السنين، وماتت الأعمال التي مر عليها عشرات الأيام. حلقات التترات لمست بداخلنا أشياء جميلة بعضها عشناه ونحن أطفال، ولكن الزمن لم يمحها من الذاكرة. هذه الحلقات أعادت الناس ليس فقط للاستمتاع بالموسيقي، ولكن ذكرتهم بالماضي الذي كان يحترم فيه الصغير الكبير، ذكرتهم بسلوكيات لم تعد موجودة الآن. إسعاد يونس بكت أثناء غناء محمد الحلو لتتر «ليالي الحلمية» وهناك ناس في المنازل أيضا بكت معها، وتأثرت. الحلو نفسه ظهر عليه التأثر، وكأنه يقول أين ذهب هذا المناخ، وأين ذهب هؤلاء المبدعون؟ وكلها أسئلة تحتاج لعشرات الحلقات لمناقشتها. لم تكن تيمة «التترات» فقط التي استوقفت الناس أمامها، ولكن حلقة الإذاعيين الكبار أمينة صبري صاحبة الجملة الشهيرة «صوت العرب من القاهرة»، والإعلامي حمدي الكنيسي أشهر مراسل حربي، وإمام عمر أفضل من قدم السينما عبر الأثير في برنامجه الشهير «سينما 76» والذي يقدمه حتي وصل إلي «سينما 2014» هذه الحلقة أظهرت جانبا مضيئا في تاريخ مصر الإعلامي، وكيف كان هؤلاء الرموز، والأجيال التي سبقتهم أو لحقت بهم أو تنتمي لهم مثل أحمد سعيد، وإيناس جوهر، ومحيي محمود وفهمي عمر، وآمال فهمي وغيرهم وبعضهم مازال علي قيد الحياة لكن للأسف وزارة الإعلام تخلت عنهم، بسبب وصولهم لسن المعاش، وبعضهم يقدم برامجه مجانا لعدم وجود ميزانية، فهل هذا معقول؟ في كل الأحوال هذه الحلقة أعادت للمستمع المتعلق بالراديو زمناً أصبح يفتقده، لأن الإذاعي الآن في المحطات يقيم من خلال مدي قدرته علي استخدام ألفاظ سوقية، وبعضهم يتباهي بهذا الأمر، فالثروة اللغوية الآن تعتمد علي «قشطة يابا» و«أنت روش بجد» أو «روش طحن»، و«يا عم كبر» وغيرها. هذه الحلقات بقدر ما كشفت وأعادت لنا مبدعين حقيقيين بقدر ما تركت أوجاعاً علي الزمن الذي أصبح للأقزام الكلمة العليا في كل شيء.