مهرجان القاهرة السينمائى يحتفل هذا العام بالمخرج الكبير فولكر شلوندروف وخاصة بتحفته الفنية المميزة فيلم «دبلوماسية» الذي حظى باهتمام كبير منذ عرضه فى مهرجان برلين 2014. فهو دراما تاريخية ترجع احداثه إلى عام 1944 عندما احتل الزعيم النازي أدولف هتلر العاصمة الفرنسية وهدد بتدميرها قبل ان تستعيدها القوات الفرنسية التي كان يقودها من الخارج الجنرال شارل ديجول. لكن القنصل السويدي في باريس حينذاك راول نوردلينج حاول إقناع الحاكم العسكري في المدينة الجنرال ديتريش فون شولتيتس بعدم تدميرها. والفيلم مأخوذ عن مسرحية (دبلوماسي) للكاتب الفرنسي سيريل جيلي. عرضت على المسرح في باريس قبل ثلاث سنوات، وحققت نجاحا كبيرا. كتب سيناريو الفيلم مؤلف المسرحية سيريل مع شلوندروف، وقام بالدورين الرئيسيين نفس الممثلين اللذين أديا الدورين على المسرح: الممثل العملاق نيلس أريستروب تذكره المشاهد العربي في فيلم «نبي» Prophet الذي قام فيه بدور «سيزار» زعيم المافيا في السجن، وأندريه ديسولييه الممثل المفضل عند المخرج آلان رينيه (شارك في أفلام «ميلو» و«مخاوف خاصة في مكان عام» و«الحشائش المتوحشة» و«حياة رايلي»، كما شارك في الإنتاج الجديد لفيلم «الحسناء والوحش»). وعرض الفيلم لأول مرة في مهرجان برلين الدولي 2014 وفاز بجائزة أفضل سيناريو من مهرجان شنغهاي الماضي. وفاز شلوندروف بجائزة السعفة الذهبية عام 1979 في مهرجان «كان» السينمائي عن فيلمه «طبل الصفيح» المقتبس عن رواية الألماني الشهير جونتر جراس الحاصل على جائزة «نوبل». كما نال الفيلم جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. يعتبر شلوندروف أحد أهم السينمائيين من جيل السينما الألمانية الجديدة تلك الحركة السينمائية التي ظهرت في السبعينيات من القرن الماضي، جنبا إلى جنب مع رفيق جيله، فيرنر هيرتزوج. كان شلوندروف اشتهر في البداية بفيلمه «شرف كاترينا بلوم المهدور» (1975) قال المخرج الألماني فولكر شلوندروف إن الدبلوماسية تصلح بديلاً للحروب في حل النزاعات التي تمزق العالم وتستنزف ثرواته. وحث شلوندروف في مؤتمر صحفي في القاهرة، تزامناً مع انطلاق مهرجان القاهرة السينمائي الذي منحه جائزة نجيب محفوظ عن مجمل أعماله، على ضرورة أن يكون «الحل لكل الصراعات.. من خلال الدبلوماسية». وتأثر شلوندروف في أعماله بالحروب التي شهدها العالم في القرن الماضي ومنها الحرب العالمية الثانية. وتجسد ذلك جلياً في فيلمه الجديد «دبلوماسية».. وبرع شلوندروف في إخراج مشاهد فيلمه بكل تلك الحساسية والرقة والرصانة والسيطرة الكاملة على المواقع والديكورات وحركة الكاميرا، والانتقال الواثق من الداخل إلى الخارج، مع معرفة أين ومتى يتوقف عن الحوار ويتيح مساحة للتنفس والتأمل والتفكير، يعتبر فيلم «دبلوماسية» - أيضا - «فيلم تمثيل»، ففيه تبرز الخبرة الكبيرة والموهبة اللتان يتمتع بهما ممثلا الدورين الرئيسيين. يستخدم دوسيلييه في دور نوردلنج الدبلوماسي السويدي، أقصى درجات الرقة والنعومة وسحر شخصيته وصوته الرخيم الهادي ونظراته التي تتحول من الرقة إلى الصرامة، من التصريح إلى التلميح، ومن المناورة إلى المباشرة. إنه يلجأ – بكل ما يوحي بالصدق - إلى كل ما في جعبته من حيل، لا لكي يضحك على محاوره، بل لكي يجعله يصل إلى الإحساس بما يشعر هو به، أي أهمية الحفاظ على هذه المدينة، تقديرا للنفس البشرية، للجمال والإبداع البشري وللتاريخ.. أما الجنرال فيؤدي دوره ببراعة نيلس أريستروب، الذي لا يمكن تخيل من هو أفضل منه في أداء هذا الدور، بقوته وإحساسه كضابط بروسي ينتمي لعائلة من العسكريين ليس من الممكن أن يتخلى أبدا عن مهمة أوكلت إليه، ثم يتلاشى جموده وتشبثه بموقفه تدريجيا بعد أن يدور حوار داخلي في نفسه، فيصل إلى لحظة الاستنارة التي تجعله يقبل بتغيير موقفه وإلغاء قراره. وهو ينتقل بسلاسة وثقة من اللغة الألمانية إلى الفرنسية. يبدأ الفيلم بمشهد «فوتومونتاج» مكون من لقطات من معارك الحرب العالمية الثانية، وبوجه خاص لقصف المدن الألمانية وما حل بها من دمار، على خلفية من موسيقى بيتهوفن، قبل أن ننتقل إلى باريس.. الفيلم 85 دقيقة. الساعة الأولى تقريبا تدور كلها في ديكور مغلق يفترض أنه حجرة مكتب الجنرال شوليتز في مقره بفندق «ميوريس» في باريس، ومن شرفة المكتب يمكنه التطلع إلى الخارج، إلى الشوارع وما يدور فيها، ويستخدم شلوندروف كثيرا اللقطات البانورامية من الشرفة أو من النافذة التي تظهر بعض الأماكن التاريخية الشهيرة في وسط باريس. لكن الغرفة تظل هي الديكور الرئيسي في الساعة الأولى، ومنها ينتقل أحيانا إلى موقع الضابط «ليجر» المسئول عن تنفيذ تعليمات الجنرال والذي يشرف على عملية تلغيم المباني والجسور الهامة في باريس بالمتفجرات انتظارا لأوامر الجنرال بنسف المدينة. يقف الجنرال يدخن في الشرفة فجرا وهو يرتدي ملابس النوم، ويرى رجلا باريسيا يسير في الشارع مع كلبه، فيعلق قائلا لمساعده: انظر.. الفرنسيون الآن أصبحوا يجاهرون بالسخرية منا!.. الجنرال يشعر بالتوتر بعد أنباء نزول الحلفاء في نورماندي، لكنه لا يستطيع سوى أن يتحلى بالانضباط العسكري، وهو يقطع اجتماعه مع ضباطه لمناقشة خطة تدمير باريس في حالة الانسحاب، وصول القنصل العام السويدي، راول نوردلنج، وهو شخصية حقيقية للدبلوماسي السويدي الذي عاش في باريس ثماني سنوات وأتقن اللغة الفرنسية مثل أهلها وعشق كل شيء فيها، وكان يقوم بالكثير من الوساطات والمفاوضات بين الجنرال وبين رجال المقاومة للإفراج عن بعض السجناء الفرنسيين، خاصة في المراحل الأخيرة من الحرب أي قبل انسحاب الألمان. جوهر الفيلم الجدال المثير بين العسكري والدبلوماسي، وهو بهذا المعنى فيلم عن دور الدبلوماسية في زمن الحرب، عن قدرتها على الإنجاز، عن قيمة التاريخ والفن والعمارة والتراث الإنساني، أكثر من كونه فيلما عن الحرب والاحتلال والتحرير والانتقام. إنه عن ذلك المأزق الفكري، بين ما يتسق مع القناعات الشخصية، وبين ما يمليه علي المرء التزامه كعسكري. ولا يوجد هنا غالب ولا مغلوب، شرير أو طيب، بل رجلان يواجهان لحظة تاريخية فارقة. والحقيقة أن ابرز ما يميز الأداء هو ذلك الانسجام الواضح بين الممثلين، والتفاهم الكبير بينهما، وهو ما يعود إلى تجربتهما السابقة في أداء الدورين على خشبة المسرح.