سياحة في التاريخ المصري في فترات النهضة الملامح الأساسية لأي نهضة حقيقية المتابع لتاريخ مصر منذ عصر الفراعنة يكتشف بسهولة أن الفترات التي حققت فيه مصر نهضة حقيقية تحركت فيها القيادة السياسية العليا مدعومة بتأييد شعبي ظاهرها ودعمها بقوة وتجاوب مع متطلبات التحرك لتحقيق هذه النهضة، هذا الدعم الشعبي كان دائما ثمرة رؤية واضحة للأهداف الجوهرية التي تحدد المسيرة المرجوة لتحقيق النهضة. نماذج عملية من مختلف العصور وحتي لا نبقي طويلا في دائرة الحديث النظري فإنني أبادر بتحديد بعض الفترات التي أتصور أنها تمثل فترات حققت فيها مصر نهضة كبري لا ينكرها منصف، واحتلت مصر خلالها مكانها الطبيعي كدولة محورية في محيطها الجغرافي ودولة تحتل مكانة مرموقة بين دول العالم. الفترة الأولي: أكثر من فترة في التاريخ الفرعوني وأتوقف أمام فترة حكم رمسيس الثاني. الفترة الثانية: فترة حكم محمد علي الكبير الفترة الثالثة: فترة حكم عبدالناصر ونتوقف أمام الملامح الرئيسية المشتركة في الفترات الثلاث لنراها علي هذا النحو. الجيش القوي أولا: إعطاء أولوية قصوي لبناء جيش وطني حديث ترتبط قوته البشرية كلها برباط وثيق ينبع من عقيدة وطنية صافية لا تتسرب إليها نزعات عرقية أو طائفية أو مذهبية، وفي مجال التسليح يملك هذا الجيش الوطني أحدث الأسلحة ويحرص علي أن يملك وسائل تصنيعها وتطويرها حتي لا تبقي قوته رهنا لسلاح يمنحه أو يمنعه آخرون، مع تحديد صارم لمهام هذا الجيش الوطني ليظل درعا تحمي حدود الوطن من أي عدوان محتمل يقوم به عدو أو طامع في الهيمنة علي مصر ليستغل ثرواتها وموقعها الاستراتيجي العبقري. فإذا أردنا أن نري التطبيق العملي لهذا التوجه في عصر الفراعنة فسوف يقدم التاريخ نماذج كثيرة واكتفي بعصر رمسيس الثاني الذي نري فيه جيش مصر بعتاده الأكثر تطورا ويمثله في هذا الزمن ابتكار «عربة رمسيس الحربية» التي رأى فيها خبراء التسليح في تلك الحقبة تطورا نوعيا منح الجيش المصري فرصة التفوق، فإذا قفزنا بعد ذلك الي عصر محمد علي الكبير فالنماذج بغير حصر، فقد أنشأ محمد علي الكبير جيشا عصريا بكل معني الكلمة في زمانه وأقام محمد علي الصناعات الحربية المتقدمة لإمداد هذا الجيش بسلاح حديث تطوره عقول وابتكارات مصرية. وانطلقت جيوش محمد علي لتأمين خطوط الدفاع الطبيعية لمصر شرقا في الشام وجنوبا عند القرن الأفريقي وتولي الأسطول البحري الحديث مهمة تأمين الحدود الشمالية وصولا الي جنوب أوروبا، الشاطئ المقابل للشواطئ المصرية. ونصل الي عبدالناصر لنري أن همه الأول كما عبرت عنه أهداف ثورة 1952 هو بناء جيش وطني قوي وفي مجال تنفيذ هذا الهدف لم تهدأ الحركة علي أكثر من اتجاه، ولعل من أبرز هذه التحركات كسر احتكار دول الغرب لتسليح الجيش المصري بما عرف بصفقة السلاح التشيكية الشهيرة التي تم تجهيز الجيش المصري بها، وكان الاتجاه الأكثر أهمية استقدام خبراء ألمان بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية لتطوير أسلحة حديثة وفي مقدمتها الصواريخ، واتفاقات التعاون المصري الهندي لإنتاج طائرة حربية حديثة تم بالفعل تجربة نموذجين منها بنجاح وبشكل عام شجعت ثورة يوليو صناعة السلاح الحديث وأقامت سلسلة المصانع الحربية ومصانع الهيئة العربية للتصنيع وكلها صناعات معنية في المحل الأول بتصنيع وتطوير أسلحة حديثة تواكب كل تطور في مجال صناعة السلاح ليظل الجيش المصري محتفظا بقدراته المتالية التي تمكنه من أداء مهامه كجيش وطني قادر علي حماية التراب المصري من أي عدو أو طامع. التعليم ثانيا: اعتبار التعليم أولوية ملحة لتحرير المجتمع من قيود الأمية ولإطلاق طاقات الشعب التي يكبلها الجهل والأمية بقيود ثقيلة تعيق أي تقدم أو تطور اجتماعي أو سياسي أو حتي اقتصادي. والتطبيق العملي لهذا الهدف نراه بأوضح صورة في عصور مختلفة من التاريخ القديم لمصر ويكفي أن يكون من بين التماثيل التي عني الفراعنة بنحتها لتأكيد أهميتها تمثال «الكاتب المصري» الذي يكشف عن مدي الاهتمام بالتعليم في عصر الفراعنة، وقد أثمر هذا التعليم ثمرات رائعة، فحققت مصر في هذه العصور قفزات علمية بالغة الروعة لم تزل حتي اليوم شاهدا علي مدي التقدم العلمي الذي حققته مصر في تلك العصور ويكفي في هذا السياق أن نشير الي العديد من الآثار المهمة كبناء الأهرامات ولم يزل تعامد الشمس علي وجه رمسيس في معبد أبي سنبل في توقيت محدد كل عام لم يزل هذا الحدث شاهدا حاسما علي ما وصل اليه التقدم العلمي في مصر في تلك العهود. فإذا وصلنا الي عصر محمد علي الكبير فسوف نري بوضوح أن من أهم الأعمال التي بادر محمد علي الكبير الي إنجازها في بدايات توليه حكم مصر هو إرسال بعثات من شباب مصر لتلقي العلوم الحديثة في فرنسا وتطوير مناهج التعليم في مصر والتوسع في الأبنية الخاصة بالتعليم. وحدثت النقلة الكبري في مجال التعليم في عهد عبدالناصر فقد صدرت التشريعات التي تجعل التعليم في جميع مراحله بالمجان لتتمكن جميع طوائف وطبقات الشعب المصري من تعليم أبنائها وتم بناء آلاف المدارس والعديد من المعاهد العليا والجامعات وتولت الدولة إيفاد أعداد ضخمة من الدارسين لاستكمال دراساتهم العليا بالبلاد المتقدمة في جميع أنحاء العالم وأنشئت مؤسسات البحث العلمي في مختلف العلوم. التصنيع ثالثا: الاهتمام بالتنمية وتنوع مصادر الإنتاج حتي لا يبقي الاقتصاد المصري معتمدا علي الإنتاج الزراعي وحده وهو إنتاج - رغم أهميته - لا يحقق معدلات تنمية سريعة مثل الإنتاج الصناعي وإذا كان التاريخ الفرعوني لم يفصح لنا بشكل واضح عن هذا الجانب فإن عصر محمد علي الكبير شهد اهتماما كبيرا بالصناعة الحديثة، ورغم أن الصناعات الأساسية التي أولاها محمد علي الكبير اهتماما كبيرا كانت في مجال الصناعات العسكرية فمن المعروف أن أي تقدم صناعي في أي مجال تمتد آثاره الإيجابية الي مختلف المجالات بخلق كوادر مدربة وبيئة تسود فيها أنماط السلوك والعلاقات التي يتميز بها المجتمع الصناعي وتوفير هذه البيئة يعطي فرصة جيدة لأي محاولات لتشجيع الإنتاج الصناعي. أما عبدالناصر فقد كان النقلة الكبري في مجال التصنيع الذي كان من أهم ملامح برنامج ثورة يوليو 1952، فأقيمت المصانع الحديثة نسبيا بالآلاف وبلغت طموحات التصنيع ذروتها بإقامة الصناعات الثقيلة «مصانع الحديد والصلب - مصانع الكيماويات - مصانع السيارات وغيرها». وكانت هذه النهضة الصناعية من أهم ركائز التنمية التي تستطيع أن تضمن نسبة نمو معقولة تضمن الوفاء باحتياجات مجتمع يتزايد عدد سكانه بمعدلات عالية. رابعا: أضافت ثورة يوليو الي هذه الأهداف الثلاثة المحورية هدفا بالغ الأهمية وهو «عدالة توزيع الثروة» وصدرت التشريعات الكثيرة التي تضمن تحقيق هذا الهدف. خطوات «السيسي» والآن.. عندما يتحدث الرئيس السيسي عن نهضة مصرية فإننا نبني ثقتنا في إمكانية تحقيق هذه النهضة قياسا علي ما سبق وأن ذكرته من أهداف ووسائل تحقيق النهضة المصرية في عصور مختلفة، وفي هذا السياق نطمئن الي أن الملامح الأساسية التي نراها ونرصد دلائلها تبشر بأن هذه الملامح والعناصر المحورية الضامنة للسير في الاتجاه الصحيح لإحداث نهضة حقيقية نراها متحققة بدرجة كبيرة هذه الأيام. ولعلي أضيف هنا الحركة النشطة والواعية لسد الثغرات التي يحتمل أن يتسلل منها خطر علي أمن مصر ويكفي أن نري كيف عالج «السيسي» الخلاف المصري الإثيوبي بحكمة وذكاء وكيف أعاد السودان الي أحضان مصر وكيف ساند الشرعية الليبية لتتمكن من مواجهة إرهاب يتربص بمصر، وكيف أقام علاقات متوازنة دوليا وإقليميا وعربيا. الأمل كبير في أن تتواصل المسيرة في اتجاه نهضة مصرية حقيقية، ويبقي تحفظ لا يمكن أن نتجاهله وهو ضرورة إشعار الجماهير بأن كتائب «النفاق» التي تملأ الفضاء المصري صخبا وتحاول أن توحي بأحاديث ملتبسة بأنها تعبر عن القيادة السياسية في مصر، هذه الوجوه الشائهة لا تخطئها عين، وتمثل ضررا بالغا بالمسيرة العاقلة والواثقة التي يلتحم فيها الشعب مع قيادته.