لعل مهنة الهندسة من المهن ذات المرتبة العليا فى فهم الأسر المصرية فعندما تحين الثانوية العامة تصبح كليتا الطب والهندسة هما الرغبة الأولى لدى المتفوقين... وعلى الرغم من هذا فإن تصور دور الهندسة المهنة والجهد المبذول فيها والمصاعب التى تواجهها ليس واضحاً فى ذهن العموم... حتى أن السينما قد تناولت العديد من المهن وغاصت فى مصاعبها مثل مهنة الصحفى والقاضى والمحامى وبالطبع الطبيب أما مهنة الهندسة فعندما عالجتها ومرت عليها مروراً مضطرباً أو مرت عليها مرور الكرام.. حتى انه فى فيلم «مراتى مدير عام» لم يستطع المشاهد أن يحدد هل قامت شادية بدور مهندسة أم لا وكان يتم النداء على صلاح ذوالفقار وقد كان يقوم بدور مهندس بلفظ «الأستاذ» فى مجافاة واضحة للواقع. والمصرى القديم أقام حضارته وأسسها حال كونه مهندساً بالفطرة.. فمواجهة النيل الثائر وفيضانه الهادر هو أرقى فنون الهندسة وتوجيه مياهه الى ترع وقنوات وإقامة جسور وسدود لمواجهة سيوله المندفعة هو عمل هندسى وإنسانى مائة فى المائة ففيه أخرج المصرى الخير من الخطر الزاحف عليه وحمى نفسه من آثاره بل وأقام أول حضارة زراعية فى العالم.. وتوالت كشوف المصرى المهندس وتطويره لآلات رفع المياه للأرض الزراعية من الشادوف الى الطنبور الى الساقية وكلها كشوف مصرية... وتلك هى قلب أعمال الهندسة المدنية المسيطرة على مياه النيل وإعادة توزيعها على الأراضى الى جانبى الوادى والدلتا... وعندما نشأت الإدارات المصرية منذ عهد محمد على ثم الوزارة فى عهد اسماعيل كانت وزارة الأشغال هى الوزارة الأم لمهنة الهندسة... وهي المعروفة حالياً بوزارة الرى والموارد المائية. ولا شك أن قفزات الإنسانية كلها قد تحققت عبر تطور علوم الهندسة فاكتشاف الحديد واستخداماته كان قفزة فى حياة البشرية ثم اكتشاف النجار كان انتقالاً نوعياً واستخدام الرياح كقوى محركة... وقد تلازمت الهندسة والفلسفة وعلوم الرياضيات كأعمال مشتركة للقائم عليها فقد كان أفلاطون وأرسطو من المهتمين بعلوم الرياضيات وكان فيثاغورس العالم الرياضى المشهور فيلسوفاً من المشائين اليونانيين وكذلك أبولونيوس وكان ليبنز فيلسوفاً كبيراً فى القرن «17» وهو صاحب النظرية الشهيرة الرياضية التى أدت لظهور علم التفاضل والتكامل الذى له أكبر الأثر فى تطور مختلف العلوم الفيزيقية والهندسية اليوم. وقد خلف المصريون القدماء حضارة مدنيةواسعة لم تزل آثارها محل دهشة العالم الذى لم يستطع أن يفك شفراتها من الهرم الأكبر الى المعابد الشامخة الباقية على طول ضفاف النيل...وخلفته أجيال من المصريين البنائين الذين شيدوا المساجد والكنائس والحصون والقلاع... وها هومسجد السلطان حسن شامخاً يجمع بين الأثر الفرعونى فى الضخامة والارتفاع وأثر الفن الإسلامى فى النقوش والزخرفات.. وتلك المساجد الراسخة البديعة من العهود المختلفة الفاطمى والأيوبى والمملوكى والعثمانى... وحصن بابليون فى مصر القديمة والكنيسة المعلقة وبوابات القاهرة من باب زويلة الى باب النصر... وقلعة صلاح الدين... تلك الآثار الكبرى هو ما صنعه المهندس المدنى المصرى وظلت باقية تطل على العالم شاهدة لنا وأيضاً علينا. فى عصرنا الحديث ساهمت الهندسة المدنية فى نهضة الوطن واللحاق بركب التقدم... فكانت مصر ثالث دولة فى العالم تمتلك خطوطاً للسكة الحديد حين أنشأت خط السكة الحديد بين القاهرة والإسكندرية... وأقيمت الكبارى العابرة للنيل من كوبرى قصر النيل الى كوبرى بنها وكفر الزيات وكوبرى عباس وتوالت منظومة الكبارى من كوبرى فارسكور المنصورةالمنياقناأسوان وكوبرى 6 أكتوبر الذى طاف القاهرة وكوبرى السلام المعلق العابر لقناةالسويس...ودخلت مصر عصر الأنفاق بنفق أحمد حمدى ثم مترو الأنفاق بالقاهرة وأيضاً أنفاق الصرف الصحى عبر القاهرة والجيزة وتلك هى التى تنقل مياه الصرف الصحى عبر العاصمة القاهرة الكبرى وصولاً لأكبر محطة معالجة لمياه الصرف الصحى بالجبل الأصفر وهى الثالثة على مستوى العالم. تحتفل نقابة المهندسين بيوم تفوق وتميز المهندس المدنى إسهاماً فى إعلاء قيمة الجهد والعطاء وتكريماً لهؤلاء الذين ساهموا فى وضع لبنة فى صرح تقدم الوطن وخير الشعب... تحتفل النقابة بذلك اليوم السبت القادم بقاعة المؤتمرات بالقاهرة وتكرم شيوخ الهندسة المدنية وأيضاً أصحاب مشاريع التخرج المتميزة من أبناء كليات الهندسة المتخرجين لهذا العام. لاشك أن الجهد الذى يبذله المهندس المدنى يجمع بين الفهم والعلم وحسن الإدارة والتصرف فهو يدير منظومة عمل لأجل الوصول الى أفضل منتج بأقل تكلفة وهو يعمل فى ظل مناخات تهدر قيمة العلم وتتعامل باستهزاء لفكرة احترام المواصفات الفنية وأجواء تعظم قيمة الفهلوة والتسرع والمكسب السريع مما ألقى بظلال قاتمة على الصورة هنا أو هناك... فالتحدى الذى تواجهه الهندسة فى بلادنا هو تطبيق مفاهيم العلم والجدية والالتزام والشفافية فى مواجهة موجات الفساد التى تراكمت وأصبحت مراكز قوى ونهب وامتصاص لثروة الوطن وبؤر لا مبالاة وعدم اكتراث وإهمال لا حدود لها... الهندسة المصرية هى جزء من كامل الوطن الذى يتطلع الى غد يمتلك الناس فيه إرادتهم وقرارهم وثروات بلادهم.