تمويل الفضائيات التليفزيونية الخاصة، قضية بالغة الأهمية لأنها تتعلق باستقلال التأثير القوي لهذه الوسيلة الإعلامية للترويج لاتجاهات فكرية وسياسية وقيم أخلاقية يري أصحاب هذه القنوات أنها تخدم مصالحهم الخاصة ولا يعني هذا أنني أنكر علي مالكي هذه القنوات تحقيق مصالح خاصة مشروعة، لكنني أستشعر الخطر اذا ماتعارضت هذه «المصالح الخاصة» مع «المصلحة العامة» للجماهير العريضة، أو مع المصلحة العليا للوطن. ومن يتابع هذه القنوات الخاصة يستطيع ببساطة أن يصنف هذه القنوات بين قنوات «متخصصة» وقنوات «عامة» ومن هذه القنوات المتخصصة يعنينا أن نتوقف أمام «القنوات الدينية» و«القنوات الاخبارية» باعتبارها القنوات التي تؤثر بشكل مباشر وقوي علي الاتجاهات الفكرية والسياسية للجماهير وهذه القنوات تدخل في إطار الاهتمام الذي نوليه للقنوات العامة. ويستثني من اهتمامنا القنوات المتخصصة الأخري مثل قنوات الأفلام والرياضة والمسلسلات والموسيقي وغيرها باعتبارها قنوات معنية بتحقيق أرباح مادية فحسب ولا ينشغل مالكيها بغير تحقيق الأرباح المادية. بدأ عدد من رجال الأعمال المصريين الموجة الأولي من إطلاق الفضائيات العامة منذ عدة سنوات ولم تكن هناك شبهات تحوم حول «تمويل» هذه القنوات فمالكوها من رجال الأعمال ولديهم «ميزانيات» كبيرة للإعلان عن منتجاتهم، ونشاطهم في مجال الاستثمار، ولو أنهم استغلوا قنواتهم لترويج منتجاتهم ورصدوا ميزانيات الإعلان التي كانوا يدفعونها الي التليفزيون المصري فسوف تغطي ميزانيات الإعلان هذه نفقات قنواتهم بالإضافة الي أنهم سيحصلون في قنواتهم علي أضعاف المساحة الزمنية التي كانوا يحصلون عليها مقابل نفس المبلغ. كما توجد فرصة للحصول علي إعلانات من شركات أخري. ويحقق مالكو هذه القنوات ميزات هائلة من إطلاق هذه القنوات مثل الدفاع عن مالك القناة عندما يتعرض لهجمات من وسائل الإعلام وما أكثر هذه الهجمات وتوفر هذه القنوات لمالكيها ذراعا إعلامية يستطيعون استخدامها في مواجهة أي ضغوط حكومية تهدد استثماراتهم خاصة عندما اتيحت الفرصة لهذه القنوات لتقتحم قضايا الفساد الحكومي. وظلت قضية «التمويل» خلال هذه الفترة محصورة في أسرار «تمويل» الفضائيات الدينية الإسلامية والمسيحية فهذه القنوات تم إطلاق أعداد كبيرة منها وكلها بغيراستثناء تقدم رسائل إعلامية تحرض علي التعصب الطائفي والمذهبي وتدعو الي قيم شديدة التخلف ولا يمكن أن نفسر موجات التعصب الطائفي والمذهبي وأنماط السلوك اليوم الذي يركز علي «المظاهر» الدينية أكثر مما يركز علي جوهر الإسلام ويكفي أن نلاحظ الأعداد المتزايدة «للمنتقبات» في شوارع المدن والقري المصرية، رغم فتاوي العلماء الثقاة بأن الإسلام لا يعرف النقاب، تكفي هذه الملاحظة لندرك مدي تأثير هذه الفضائيات الإسلامية علي مجمل سلوك الجماهير المصرية. أما الاضطرابات الطائفية التي تزايدت والتي أصبحت متوقعة كل يوم نتيجة احتقان خطير لدي المتعصبين من الجانبين، هذا المناخ الذي يهدد تماسك المجتمع المصري لم يعرف مثل هذا التعصب في عصور التخلف تتحمل هذه الفضائيات الدينية «الإسلامية والمسيحية» المسئولية عن نشره وإذا كانت هناك عناصر أخري ساهمت في غرس بذور الاحتقان الطائفي فإن المسئولية الأكبر تتحملها هذه الفضائيات الدينية التي تنفخ يوميا في نيران التعصب. هذه القنوات الدينية بالتحديد تحتاج الي معرفة دقيقة بمصادر تمويلها وكشف هذه المصادر للرأى العام ليدرك المواطنون أهداف «القوي» التي تقوم برصد مئات الملايين من الجنيهات لإطلاق وتشغيل هذه القنوات. وينضم الي هذه الفئة - أي القنوات الدينية - قنوات عامة تم إطلاقها بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير فبعد أن انتزعت الثورة حرية التعبير فتحت الأبواب لإطلاق الفضائيات بغير قيود، وتكاثرت القنوات العامة التي لا نعرف من أمر مالكيها الكثير بل إن بعض هذه القنوات لا تعرف الجماهير من مالكيها إلا «واجهة» إعلامية ولا شك أن مالكي هذه القنوات لم يطلقوها للتسلية، وإنما أطلقوها لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وأغلب الظن أن الهدف للكثير من هذه القنوات هو «هدف سياسي» ومن الطبيعي أن تبث هذه القنوات «رسائل» إعلامية هدفها كسب الجماهير لاتجاه سياسي معين. من هنا فإن الكشف عن مصادر «تمويل» هذه القنوات له أهمية كبري حتي لا تنخدع الجماهير وهي تتصور أن هذه القنوات «محايدة» وأنها لا تروج لفكر أو اتجاه سياسي بعينه، بل هي معنية فقط بتقديم «خدمة إعلامية» هدفها مصالح الجماهير العريضة. أنا لا أتهم أحدا.. لكنني أؤكد أن الكشف عن مصادر تمويل هذه الفضائيات ضرورة مهنية وأخلاقية حتي تكون الجماهير علي علم بمن يقف خلف هذه القنوات، خاصة أننا في مصر لا نملك القوانين والتشريعات والمؤسسات النقابية المهنية التي تمنع المالك للقناة من التدخل في السياسة التحريرية وفي توجيه رسائلها الإعلامية. وإذا أضفنا الي المبالغ الضخمة التي يحتاجها إطلاق وتشغيل هذه القنوات ما يعرفه الجميع من ندرة أو انعدام الموارد المتاحة لهذه القنوات من عائدات الإعلان فإننا أمام جهات تنفق مئات الملايين كل عام للتأثير علي الاتجاهات السلوكية والأخلاقية والسياسية للشعب المصري دون أن يتاح لهذا الشعب معرفة الجهات التي تنفق هذه الأموال الهائلة، وأظنها لا تنفقها من أجل سواد عيون الشعب المصري؟!